فرنسا والإسلام: جدل خارج الزمن

ماكرون تحدث عن  »انفصالية إسلاموية« وأجندات حركت الأزمة مع باريس

محمد قواص (*)

لغط كبير دار حول موقف فرنسا من الإسلام. النقاش ليس جديدا، ولطالمت شغل الرأي العام الفرنسي كما النخب السياسية في فرنسا على مدى العقود الأخيرة. وتكمن المعضلة في تصادم منهج العلمانية الفرنسية الذي أرسته قوانين عام 1905، مع منهج الإسلام، الذي كان وجوده هامشيا في فرنسا في ذلك الوقت، والذي كبر ونما وبات يشكل الديانة الثانية في هذا البلد. كان لموجات الهجرة التي راجت في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي دور في تعظيم الحجم الديمغرافي للمسلمين القادمين أو المتحدرين من العالم الإسلامي لا سيما من منطقة شمال أفريقيا، وخصوصا من الجزائر والمغرب وتونس.

لم تكن الجاليات المسلمة تشكل معضلة كبرى. بيد أن الأزمات الاقتصادية التي عرفها العالم كما فرنسا باتت تضغط على سوق العمل المحلي، فيما سياسات الهجرة والإسكان التي اعتمدتها حكومات باريس، كدست  »المهاجرين« في

ماكرون: الإسلام في أزمة في العالم

مناطق خاصة بهم، ما وسع مساحة الضواحي المنتشرة حول المدن الكبرى. ولم تستطع الحكومات المتعاقبة، بين يمين ويسار، أن تنجح في فرض برامج الاندماج الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والسياسي للمهاجرين، ما حول تلك الكتلة إلى مادة سجال لطالما استخدتها التيارات الشعبوية كما أحزاب اليمين المتطرف، لاسيما حزب الجبهة الوطنية، بزعامة مؤسسه جان ماري لوبن، والذي تزعمته في ما بعد ابنته مارين لوبن، التي حاولت تخفيف الصبغة المتطرفة للحزب وغيرت اسمه إلى  »التجمع الوطني«، في محاولة لتحسين صورة ملتبسة لطالما التصقت بالمواقف العنصرية التي عرفت عن والدها.

مفهوم الأمة في فرنسا

تشكلت مفاهيم الجمهورية في فرنسا من تراكم تاريخي ومعرفي أفضى إلى نموذج يقوم عليه الدستور وتسير وفق روحه  »الأمة« وحكاياتها. وعلى الرغم من المشترك الجغرافي والتاريخي بين فرنسا ودول أوروبية أخرى، لا سيما ألمانيا وبريطانيا، إلا أن نموذجها بقي متميزاً مختلفا عن نماذج أنغلوسكسونية مجتمعية شكلت حاضر العيش في تلك البلاد وصولا على ما بني في الولايات المتحدة الأميركية.

وقد تنافس مفهومان فلسفيان في عز الجدل التاريخي بين ألمانيا وفرنسا في القرن التاسع عشر بين مدرستين ما زالتا تمثلان قاعدة لمفهوم في العالم. ويظهر سجال الحالتين في ما كتبه الفرنسيان أرنست رينان وفوستيل دي كولانج حول اتفاقهما على أن الأمة لا تتأسس حول لغة أو حول عرق، بل وفق روح مشتركة يجتمع داخلها البشر وتتشكل الأمة على أساسها. واستفاض رينان خصوصا في الحديث عن قيم يجتمع حولها الناس فيؤسسون أمتهم التي يمتد حيزها ما امتدت هذه القيم.

بالمقابل يعتبر الفيلسوف الألماني يوهان غوتليب فيشته (فيخته) أحد المساهمين الكبار في صناعة مفهوم الأمة. لا سيما وأن أطروحته تأتي مختلفة عن المقاربة الفرنسية للأمر. وقد اشتهر الرجل بسلسلة ما عرف باسم  »خطابات إلى الأمة الألمانية«، حدد فيها بعمق رؤيته لتلك الأمة التي تتأسس على عوامل اللغة والدم، على نسق مختلف عن المدرسة الفرنسية التي تعتبر  »الأرض« أي المكان والقيم هي أساس قيام الأمة.

على هذا وجد الفرنسيون في توسعهم الجغرافي، من أجل نشر قيم الحداثة التي أنتجتها ثورتهم، مبررا مشروعا لقيام أمتهم. فيما تمسك الألمان بصلة الدم، وربما العرق الجرماني، وصولا إلى الآري في عهد النازية الهتلرية، أساسا لقيام أمتهم. حتى أن هتلر كان يرى أن الأمة الألمانية موجودة أينما وجد دم ألماني (الأمر الذي برر احتلال بولندا ودول أخرى).

ويكاد مفهوم الأمة في العالم أجمع ينقسم حول مدرستي الأرض والدم. وقد تبنت نصوص القومية العربية المفاهيم الألمانية من حيث التمسك بعوامل اللغة والدين والدم، كقواعد لقيام أمة العرب الكبرى. بالمقابل بنت فرنسا عمارتها الاجتماعية الثقافية على الاجتماع حول القيم التي صاغتها الثورة الفرنسية، بحيث تصهر تلك القيم الأفراد داخل عجينة وطنية واحدة مزيلة الحدود بين الجماعات والمذاهب والأعراق.

على هذا أقامت فرنسا الحديثة جمهوريتها بإبعاد الدين، والكنيسة طبعا، عن السياسة والسلطة وعن إدارة شؤون الناس في الاقتصاد والسيرورة والمصير. وكان للتجربة الفرنسية فيما فرضته بالقوة والدم (منذ إعدام الملك لويس السادس عشر وزوجته ماري أنطوانيت)، وفيما فرضته بالنص (منذ قوانين العلمانية عام 1905)، صدى عالمي فرض تحديثا للمنظومات التي حكمت ضفتي الأطلسي.

تجمعُ فرنسا مواطنيها أفراداً حول قيم واحدة، فيما تكاد دول مثل بريطانيا والولايات المتحدة وألمانيا أن تجمع الناس بصفتهم مللا وجماعات. وعلى هذا يمكن فهم أن ملكة بريطانيا هي رأس الكنيسة في بلادها، فيما للكنائس نفوذها في ألمانيا (المستشارة أنغيلا ميركيل كانت رئيسة حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي)، وفي الولايات المتحدة (لاحظ نفوذ الكنائس في الانتخابات الرئاسية الحالية). بالمقابل تحظر قوانين العلمانية الفرنسية انخراط الدين في المنابر الدنيوية للشأن العام.

صدام الحضارات

ورغم تباين سيرة قيام الأمم وعصب ظهورها، إلا أن الصدامات الحديثة التي حصلت مع الإسلام قد لا تمت بصلة إلى الأصل الفلسفي لقيام الأمة وفق رينان الفرنسي أو فخته الألماني، ذلك أن للدين والتابعين له حيز واسع داخل هذه الأمم وفق القوانين التي تسيّر شؤونها.

وقد ظهر أن لتصادم القيم (أو الحضارات وفق مؤلف صموئيل هنتغتون الشهير لعام 1992) علاقة مباشرة بتصادم المصالح السياسية، خصوصا منذ ظهور الجمهورية الإسلامية في إيران. وللتذكير أن فتوى الخميني ضد سلمان رشدي عام 1989 طالت كاتباً في بريطانيا التي لا تسري داخلها قوانين العلمنة وفق نموذج فرنسا. ثم أن رسوم الكاريكاتور المسيئة ظهرت في دولة مثل الدانمارك اللوثرية قبل سنوات من ظهورها على صفحات  »شارلي ابدو« في باريس.

والحال أن السجال جار بين المفهوم المطلق لحرية الرأي (المجمع عليها لدى كافة الديمقراطيات الكبرى) والمفهوم المطلق لمنع ازدراء الأديان (المختلف بشأنها داخل تلك الديمقراطيات). والحال أيضا أن المناسبة في فرنسا، لا سيما بعد جريمة القتل الوحشية التي نفذها شاب من أصول شيشانية ضد مدرس في إحدى ضواحي باريس، تفتح نقاشا

موجة غضب ضد فرنسا وزعيمها

داخليا مثيرا للانتباه في فرنسا حول مقدار المرونة التي تتسرب من العلمانية ما بين التمسك بحماية المجتمع مما يريد الدين فرضه من مقدسات وثوابت، والتمسك في الوقت عينه بما تفرضه العلمانية نفسها من ضمانات لحماية حرية المعتقد وممارسة طقوسه.

وفيما يتسرب من ضجيج الأزمة روائح سياسية تفسر هياج تركيا في عز توتر العلاقات بين تركيا فرنسا وهدوء إيراني في عزّ تواطؤ علاقات طهران وباريس، فإن الجدل الفرنسي الداخلي يعطي دروسا في كيفية صيانة بلد ديمقراطي كبير لتراثه وتاريخه من أجل ترميم وعاء  »الأمة«.

المسلمون في فرنسا (حوالي 6 ملايين) هم جزء من تلك الأمة، وباتوا يحظون بشبكة دفاع تنسجها تيارات وأحزاب وجمعيات ومنابر إعلامية فرنسية، فيما يطل قادة  »الجالية« مستنكرين أن لا تقوم حكومة باريس بحمايتهم وحماية البلد من المتطرفين ورفع الغطاء الملتبس عن حضورهم. ويكشف الجدل الفرنسي المحتدم قدرة الديمقراطية على صيانة نفسها وحماية مواطنيها من شطط قد يمارس باسم العلمانية من ضمن حسابات ظرفية تنتهي بانتهائها.

الإسلام والإسلاموية

تعرضت المنطقة العربية منذ أربعينيات القرن الماضي إلى زلازل سياسية موجعة كانت بمثابة جراحات ما زالت تعيش المنطقة نتائجها حتى يومنا هذا. عرف العرب نكبة عام 1948 الفلسطينية، والعدوان الثلاثي على مصر عام 1965، والهزيمة المروعة عام 1967، وصولا إلى حروب ضربت المنطقة تعددت ميادينها وأطرافها. وعلى الرغم من حالة الغضب والإحباط الكبيرين التي مست شعوب المنطقة برمتها، لم يخرج  »إرهاب إسلامي« يذبح الناس ويرتكب ضدهم المجازر في عالم  »أهل الكفر«، وفق التوصيفات الفقهية للأصولية والتطرف، ووفق كتبها واجتهادات فقهائها.

 كان الفضاء السياسي العام حتى نهايات السبعينيات محتلا من قبل أيديولوجيات متسربة من أجواء الحرب الباردة، بحيث راجت التيارات القومية واليسارية والثورية، وبات الخطاب الناصري والبعثي والشيوعي، وحتى ذلك الذي ضخته الفصائل الفلسطينية، يزوّد العامة بأجوبة متعددة، غزيرة، لم تسمح للهامش الديني والأصولي أن يكون له مكان ومكانة في النقاش السياسي العام.

كان الإسلام السياسي المُعادُ إنتاجه من قبل أبو الأعلى المودودي وسيد قطب وحسن البنا وغيرهم، يسعى لتلمس  »معالم« (وفق قطب) له في فضاء كان يخرج للتو من مرحلة الاستعمار وشبه الاستعمار إلى مرحلة الاستقلال وقيام دول وطنية بالمعنى الذي لم يكن معروفا أو متعارفا عليه قبل ذلك. بيد أن خطاب الإسلاموية الذي كان يبشّر بالحنين إلى  »الخلافة« التي زالت باندثار السلطنة العثمانية، اصطدم مع خطاب الأنظمة والأفكار والأيديولوجيات الفتية الصاعدة، فكان النصر لـ »التقدميين« على حساب  »الماضويين« وفق الجدل الذي كان سائداً.

الإسلاموية نفسها لم تكن معنية بـ »المشاركة في معركة التحرر والتقدم والتخلص من براثن الاستعمار، القديم، أو ذلك الجديد الذي ظهر مع قيام دولة إسرائيل. وكانت تلك الإسلاموية، سلفية كانت أم إخوانية، منصرفة إلى الاشتغال على  »الدعوة« وعدم التشجيع على الانخراط داخل فصائل المقاومة في فلسطين، كما عدم دعم الأنظمة السياسية التي عادتها، وبالتالي لم ترفد خطابها وجهدها في مسألة رد الاحتلال الإسرائيلي، الذي بات مسألة ما فوق فلسطينية بعد أن احتلت إسرائيل أراض للدول التي هزمتها عام 1967.

حتى داخل الدائرة الفلسطينية تحفّظ الإسلام السياسي عن دخول معترك العمل العسكري المباشر الذي بدأته حركة فتح عام 1965. ولئن لعبت شخصيات دينية كبرى أدوارا في مقاومة قيام دولة إسرائيل قبل ذلك (المفتي أمين الحسيني

شيخ الأزهر: ندين القتل ونستكر الإساءة للرسول

والشيخ حسن أبو سعود والشيخ محمد يوسف العلمي والشيخ عز الدين القسام وغيرهم)، إلا أن الإسلاموية الفلسطينية كان لها موقف سلبي بعد رواج الفصائل الثورية في الستينيات، إلى درجة تكفيرها وعدم الاعتراف بشهادة قتلاها. ولم يظهر التحول في قراءة الفرع الفلسطيني للاخوان المسلمين المتمثل بحركة حماس، التي أنشأها الشيخ أحمد ياسين، إلا في منتصف الثمانينيات.

والواضح أن رواج الإسلام السياسي في المنطقة له تفسيرات بديهية توضح منطق تحوله إلى يد ضاربة، خطيرة، تستخدمها العواصم في المكان، والزمان المناسبين، وفق الحسابات والأجندات الملتبسة.

الإسلام السياسي بين تركيا وإيران

لم يعد اكتشافا لافتا أن قيام الجمهورية الإسلامية في إيران وفق ما حمله روح الله الخميني من باريس عام 1979، ترافق مع تصدع للفكر اللاديني، وصولا إلى انهياره، مع اندثار الاتحاد السوفياتي وتلوث مخزونه الماركسي. وليس سبقا الاعتراف بأن نظام طهران الجديد أجاد، منذ ظهوره، استخدام الدين سلاحا وحيدا في كل معاركه، سواء في الحرب مع العراق أو في غزواته في كل المنطقة، أو في مواجهاته الداخلية والدولية الكبرى.

وعلى هذه القاعدة استعاد الإسلام السياسي نشاطه ووجد قبلته الجديدة، بنسختيه السنية والشيعية، في طهران، قبل أن يأتي نظام حزب العدالة والتنمية بزعامة رجب طيب أردوغان، ويقترح للإسلاموية السنية (لا سيما الإخوانية) قبلة بديلة في أنقرة.

وعلى هذا فإن حراك الإسلام السياسي بأحزابه وجماعاته وجمعياته ومنابره وشخوصه، يوجه بوصلته في فلسطين ولبنان والعراق، كما في سوريا وليبيا واليمن، كما في دول الاتحاد الأوروبي (فرنسا هذه الأيام) كما العالم أجمع، وفق بوصلة الحاكم في إيران كما الحاكم في تركيا.

وقد كان واضحا مدى التزام تلك  »الجماعات« بدقة بتوجهات أنقرة وطهران في مقاربة الأزمة مع فرنسا، بحيث بدت حركتها متطرفة شديدة وفق الخطاب التركي، ومعتدلة متحفظة وفق الخطاب الإيراني.

وتكشف الشعبوية الإسلاموية الحديثة أنها في خدمة المأزومين، سواء في ما صدر عن أردوغان من مواقف، سيتراجع عنها كما تراجع عن غيرها، أو في ما صدر عن رئيس وزراء ماليزيا السابق مهاتير محمد، المُقال من حزبه، من مواقف تحدثت عن  »حق المسلمين في قتل ملايين الفرنسيين« (تغريدة حذفها تويتر).

لا نناقش هنا صحة موقف ماكرون من عدمه بل ما انكشف عندنا من عطب وبات جليا. والواضح أن الإسلام السياسي الذي خرج من الهامش، في العقود التي سبقت قيام الجمهورية الإسلامية في إيران، وانتقل إلى المتن، في ظروف حرب تحرير أفغانستان من الاحتلال السوفياتي في الثمانينيات، ما زال ممسكا بحركية الفضاء الديني داخل العالم الإسلامي في المناسبات الشعبوية التي تتوفر، كتلك التي تبرعت بها الأزمة الفرنسية.

والواضح أيضا أن مواجهة خطاب الكراهية والتطرف بات مسؤولية دولية كبرى، يلعب فيها العالم الإسلامي الدور الأكبر، وأن الدين مختطف لحساب جماعات منظمة ممولة تجيد سوق الناس وتحريضهم، وهي صنعة يجيدونها. وبانتظار ولادة وتطور خطاب مدني يعيد  »ما لقيصر لقيصر وما لله لله«، بات المطلوب جرأة تاريخية لم تُقدم عليها المراجع الدينية الرسمية الكبرى المسماة معتدلة، والتي ثبت أنه يسهل استدراجها نحو موقع يُلحق إدانة الجريمة بـ »لكن« التبرير.

جماعات الإسلام السياسي وعواصمها الراعية واضحةٌ في سعيها، مباشرةٌ في أجنداتها وخططها. المشكلة تكمن في رمادية وتخبط وتلعثم من يُربكه الدفاع عن الدين بما يقوله الدين.

ماكرون والازمة

وقد أطل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على الجمهور العربي (من خلال قناة الجزيرة التي قادت حملة في هذا الشأن) في سعي لتوضيح موقفه من الإسلام والمسلمين، بعد أن وجهت انتقادات له بسبب استخدامه تعبير  »الانفصاليين« في الحديث عن الجماعات الإسلامية التي ترفض أن تكون جزءا من المجتمع وقوانين الجمهورية. قال الرجل بحسم إن بلاده ضد التطرف والإرهاب اللذين يختطفان الإسلام ويرتكب ضد المسلمين أكبر نسبة من القتل والمجازر. قال بحزم إن بلاده لن تسمح لـ  »الجماعات« بأن لا تحترم قوانين الجمهورية بما في ذلك حرية التعبير. قال بعزم إن الجمهورية لن تسمح بأن لا يكون للمرأة حق المساواة مع الرجل وأن لا يكون للأطفال، لا سيما الإناث منهم، حق وواجب التعلم في مدارس الجمهورية. قال بوضوح إن الحرب ضد  »الفئة الضالة« ليست حربا ضد الإسلام. وقال بتشدد إنه حريص على حماية دستور بلاده وقوانينها وصون تاريخ من التراكم الآتي من عصر الأنوار.. وعلى الرغم من وضوح ماكرون وتمسكه الكامل بما ينص عليه دستور فرنسا فإن هناك من اعتبر أن الرجل هزمته حملة المقاطع ضد البضائع الفرنسية التي انتشرت في عدد من الدول العربية والإسلامية.

والحقيقة أن مسألة الرسوم الكاريكاتورية المسيئة للرسول، سواء تلك التي نشرت في الدانمارك أو في باريس أو في أي منطقة في العالم تكشف حساسية المسلمين كما جهوزية الإسلاميين ومن وراءهم لاعتلاء المنابر. ومن حق مجلس حكماء المسلمين الذي يقوده الأزهر أن يقاضي صحيفة شارلي إيبدو الفرنسية وكل من يسيء إلى الإسلام. ومن حق

الكاتب البريطاني سلمان رشدي
الخميني أفتى بقتل سلمان رشدي

أي طرف أن يطالب بمقاطعة البضائع الفرنسية. ومن حق الناس أن تخرج بمظاهرات وتخط المقالات ضد من يمسّ رمزا دينيا ومقدسا إسلاميا. ومع ذلك فليس من الحق أن يبرر ذلك ارتكاب مجزرة بحق العاملين في الصحيفة وبحق المدرس الفرنسي ولا بحق المدنيين في مسرح وملعب باريسيين ولا ضد متنزهين في مدينة نيس منذ سنوات والكنيسة في المدينة والمصلين بها، كما متسوقين في برلين قبل ذلك.. واللائحة تطول. وليس من الحق تبني الموقف من الإساءة بصفتها شرا مطلقا و »تفهم« القتل بصفته وجهة نظر.

وحري التذكير أن الإسلام دين اخترق الزمن منذ أكثر من 14 قرنا لم ينل منه ولن ينال منه اجتهاد أو تشكيك أو إساءة. والإسلام لا يحتاج إلى واجهات سوداء تقتل بوحشية  »داعش« وجهنمية  »القاعدة« وإجرام قاطعي الرؤوس. وحري التذكير بالآية الكريمة التي توضح صوابية الموقف:

 »ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ«..

والحقيقة إننا حين نطلع على ردود الفعل الرسمية وشبه الرسمية الناطقة باسم العالم الإسلامي. وحين نطلع على ردود الفعل المرتبكة المبرِّرة الموغلة في نظرية المؤامرة. وحين نستنتج مقدار الحيرة في الموقف الصحيح الواجب أن يتخذه المسلم حيال جرائم الإرهاب البشع والجبان والخسيس ضد المدنيين، نميل إلى التسليم أن  »الإسلام في أزمة«. المسألة لم تعد عملا أمنيا معزولا، بل باتت تتعلق ببيئة حاضنة وبثقافة شاملة غير قادرة على مغادرة مغارات الظلام العتيقة.

فهذه الذئاب (التي ضرب أحدها في فيينا) ليست منفردة. هناك دائما من يقرر المكان والزمان. هناك دائما من يمول ويدبر. وهناك دائما من يتفهم ويبرر. وهناك من يملك وفق أجندة دقيقة اقفال الحظائر على كل الذئاب إلى أن يحين موعد آخر. ومطلوب منا جميعا أن نكون واضحين حاسمين حازمين في موقفنا من جريمة اليوم والأمس وما قبله. وربما بات مطلوبا من السلطات الرسمية أن تتوقف عن رعاية تلك البيئة وتبرير استمرار ثقافتها.

قال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إن الأخبار التي نقلت بأنه يدعم الرسوم المسيئة للرسول مضللة ومقتطعة من سياقها، مؤكدا أنه يتفهم مشاعر المسلمين إزاء هذه الرسوم.

وفي مقابلة خاصة مع الجزيرة، قال ماكرون إن فرنسا تعرضت لـ 3 ضربات إرهابية قام بها متطرفون عنيفون، فعلوا ذلك بتحويل وتحريف الإسلام بأعمال صدمت وجرحت الشعبَ الفرنسي، مضيفا أن الهجوم على فرنسا بني على أساس الكثير من سوء الفهم.

وقال إن لقاءه مع الجزيرة يندرج في إطار إزالة سوء الفهم والتأكيد على أن فرنسا بلد حريص على حرية المعتقد،

هل استخدم اردوغان سلاح الدين ضد باريس

وعلى ما يسمى غالبا العلمانية، وإن هدفه أن يكون في فرنسا لكل مواطن أيا كان دينه نفس الحقوق السياسية والمدنية، ومجتمع يعيش مع كل الديانات التي تعيش فيه.

وتابع  »بلدنا ليس لديه مشكلة مع أي ديانة في العالم، لأن كل الديانات تمارس بحرية في بلدنا، بالنسبة للفرنسيين المسلمين، كما للمواطنين في كل أنحاء العالم، الذين يدينون بالإسلام، وفرنسا بلد يمارس فيه الإسلام بكل حرية، وليس هناك من وصمٍ أو تفضيح، كل هذا خطأ، وكل ما يقال خطأ«.

وأكد ماكرون أن فرنسا  »بلد رسالته العالمية أن يكون حريصا على السلام والقدرة على العيش مهما كان دين المرء، هناك أشياء كثيرة خاطئة قيلت، وأريد هنا أن أوجه رسالة حزم ضد الإرهاب، ضد كل المتطرفين العنيفين وأيضا وفي نفس الوقت رسالة سلام ووحدة، ورسالة قول الحقيقة«.

وعن الرسوم المسيئة وتصريحاته التي فهمت على أنه يدعمها، قال ماكرون إنها بنيت على  »سوء فهم وكثير من التلاعب« مؤكدا أن الأمر متعلق بالحريات التي يكفلها القانون، وحرية المعتقد والضمير وحرية التعبير.

وأضاف  »في فرنسا أي صحفي يمكن أن يعبر عن رأيه بحرية عن أي كان حتى رئيس الجمهورية، حرية التعبير تعني الرسم والرسم الساخر أو الكاريكاتير، هذا هو قانوننا، وهو يأتي من بعيد، من نهاية القرن 19، ومن الهام أن ندافع عنه«.

واعتبر أن هذا القانون أدى إلى أن تكون هناك رسوم ساخرة في الصحف، رسوم سخرت من الزعماء السياسيين ومن كل الديانات، بينها صحيفة  »شارلي إيبدو« التي سخرت من المسيحيين واليهود والحاخامات.. واليوم هم يرسمون عن الإسلام ونبيه«.

وفي هذا السياق، قال الرئيس الفرنسي  »أنا أتفهم مشاعر الغضب التي يثيرها ذلك وأحترمها ولكن أريد في المقابل أن تفهم دوري، دوري أن أهدئ الأمور، ولكن أيضا أن أحمي هذه الحقوق التي هي ملك للشعب الفرنسي، هناك فارق هام يجب على كل المسلمين الذين صُدِموا أن يفهموه«.

وأكد  »سأدافع دوما في بلدي عن حرية القول والكتابة والفكر والرسم، هذا لا يعني أني أدعم شخصيا كل ما يقال وكل ما يفكر به وكل ما يرسم، ولكن هذا يعني أن هذه الحريات، هذه الحقوق، حقوق الإنسان التي خُلقت في فرنسا، وأعتقد أن رسالتنا أن نحميها وأن نحمي أيضا سيادة الشعب الفرنسي«.

وعن خطابه خلال حفل تأبين المدرس القتيل صامويل باتي وقوله حرفيا بكل حزم  »نحن لن نتخلى أبدا عن الكاريكاتير، ولا الرسوم حتى يتراجع آخرون« قال إن وسائل إعلام عديدة اقتبست كلامه وحرفته بقولها  »إنني أدعم الرسوم التي تهين النبي«.

وتابع  »أنا لم أقل ذلك أبدا، أولا لأن هذه الرسوم، وهذا هام لكل المسلمين الذين يسمعونني، تطال كل الديانات، كلها، ليست هناك رسوم موجهة ضد دين دون دين آخر، وهي أيضا تطال كل الزعماء«.

كما أكد أن ردود الفعل في العالم الإسلامي كان مردها الكثير من الأكاذيب والتحريف  »لأن الناس فهموا أني مؤيد

من يطلق الإرهاب وذئابه في أوروبا؟

لهذه الرسوم« مشددا على أنه يؤيد فقط حرية المرء في أن يكتب وأن يفكر ويرسم بحرية في فرنسا  »هذا قد يصدم البعض، أحترم ذلك، ولكن يجب أن نتكلم ويجب بناء فضاء من الاحترام المتبادل«.

وبخصوص حملة المقاطعة ضد فرنسا الأيام التي تلت تصريحاته، قال ماكرون  »هذا شي غير لائق وندينه وأدينه، ولكن هذه الحملة من فعل بعض المجموعات الخاصة لأنهم لم يفهموا واستندوا إلى الأكاذيب حول الرسوم«.

وقال ماكرون  »الإرهاب الذي مورس باسم الإسلام هو آفة للمسلمين في العالم، المسلمون هم أول ضحايا الإرهاب الذي يرتكب باسم الإسلام.. هو إرهاب الإسلام المتطرف كما نسميه في فرنسا، إرهاب يمارسه متطرفون عنيفون يحورون الدين ويرتكبون العنف باسم الإسلام«.

وأضاف  »في فرنسا عدة ملايين من المواطنين دينهم الإسلام، أنا لا أكافحهم، فهم مواطنون كاملو المواطنة، يريدون العيش بسلام ونحن لدينا دول صديقة في كل أنحاء العالم دين الأغلبية فيها الإسلام، ولكن اليوم المتطرفون العنيفون يرتكبون الأسوأ باسم الإسلام«.

متطرفون باسم الإسلام

وعن تصريحه بأن  »الإسلام دين يعيش اليوم أزمة عميقة في كل أنحاء العالم« قال ماكرون  »ما أردت أن أقوله واضح جدا، وهو أن هناك عنفا يمارس اليوم من قبل بعض المجموعات وأفراد متطرفين باسم الإسلام، طبعا هذه مشكلة للإسلام لأن المسلمين هم أول الضحايا، وكنت ذكرت بالأرقام أكثر من 80 بالمئة من الضحايا من المسلمين، وهذه مشكلة لنا جميعا، وبالتالي كل الديانات مرت بمثل هذه الأزمة في تاريخها«.

وأضاف  »الأزمة داخل مجتمعنا، لأن هناك في أماكن كثيرة أفرادا يشعرون بأنهم غير مفهومين ويرتكبون الأسوأ باسم الدين، وغالبا من لا يعرفون هذا الدين جيدا بتواطؤ من الذين يعرفون هذا الدين أفضل منهم أو بالأحرى يدعون معرفته«.

وأطلق ماكرون رسالة طمأنة لمسلمي فرنسا قائلا  »مشروعي أو مشروعنا والذي على أساسه انتخبني الفرنسيون، والذي هو نفسه مشروع فرنسا التاريخي، مهمته الأساسية تحمل رسالة سلام بين الأديان، لأنها رسالة معرفة وبناء العقل«.

(*) كاتب سياسي لبناني

العدد 111 / كانون الاول 2020