العقل والثقافة… صراعٌ أم انصياعٌ

بيروت – رنا خير الدين

منذ مدة يتراود إلى ذهني ماهية الأسباب التي أوصلت المجتمعات البشرية إلى ما هي عليه اليوم، مجتمعات شبه متلاصقة ومتلاحمة في الشكل، مختلفة في التكوين لكنها تتصارع للوصول إلى القمة، والبقاء.

نعم، كانت ولا تزال مفاهيم القوة والسيطرة على العقول إلى الشغل الأبرز للقوى المتناحرة في العالم، لكن باستخدام أدوات جديدة   فتارةً يكون الاقتصاد المحرك الأول للقيادة، وتارة أخرى يسعون وراء مفاهيم ثقافية ما، وأحياناً كثيرة يكون العمل على التأثر والتأثير في مجتمع ما ناتج عن إنتاجات فكرية، اجتماعية، نقدية، تربوية في شمولية الاقتصاد والثقافة والقطاعات الأخرى.

في بحثٍ دقيق على كيفية صياغة الفكرة وتواردها وادماجها ضمن مجتمع ما ودخولها مرحلة التأثير والتنفيذ يبقى التحدي الأكبر أمام العقل البشري في نجاح هذه العملية أم فشلها؟ ومن هو المسيطر الأساسي في الأداء؛ العقل أم

الايجابية مفتاح القرار الصحيح

الثقافة؟ وهل الثقافة هي التي تفكك المفاهيم وتجزئها أم أنه العقل الذي يقود هذه الثقافة المتجددة نحو الهلاك!؟

في هذا التقرير، سنسعى إلى الحصول على أجوبة تتعلّق بمفاهيم الثقافة والإندماج العقلي وتغير الرؤية الكونية في تقبّل الأفكار والسلوك وتبادله.

مفاهيمٌ كثيرة كانت بعيدة التحقيق ولم يكن بمقدور العقل أن يفهمها لكنها آلت إلى نقطة انطلاق وتنفيذ حينما تقبّلها الإنسان، كعملية التواصل عن البعد التي اجتاحت العالم، أو الإضاءة الكهربائية، أو حتى تلك الأمراض التي كانت في زمن ما خطيرة وقاتلة أصبحت فيروس يُعالج من خلال التلقيح، وعلى ذكر ذلك أظن أن جائحة كورونا ستصبح فيروس بسيط بعد 50 عام أو أكثر، على العموم في مدرك الأمور إن المنظور العقلي للحياة اليومية يقوم على أهمية تبسيط محتوى أي فكرة للانطلاق في التنفيذ، حتى تصبح سلوكاً بشرياً معاشاً.

الثقافة… والعقل

ترتبط العلاقة بين الثقافة والعقل على عملية التأثير والتطبيق التي تظهر في سلوك جماعة ما، لكن يمكن الجزم أن هذه العلاقة ليست آحادية بل متقابلة، من ناحية التجديد والمعرفة والتأثر. مفهوم الثقافة يندرج لعدة قوانين، قانون التعبير، قانون التغيير، قانون الجذب والعلاقات الإنسانية وقانون التنفيذ والسلوك، هذه القوانين هي المرجع الأساسي لكي تتم عملية التأثير بشكل ناجح، مع العلم أن هذا المفهوم الذي يؤيده بعض المثقفين لا دليل على صحته اليوم، لأن لا يمكن دراسة ركائز الثقافة من دون العودة إلى عمل العقل في التنفيذ وما يؤثر به من ماضٍ، ومعتقدات دينية أخلاقية إنسانية وثقافية أيضاً.

هذا العقل كان يُصعب عليه تخيل الحياة اليوم، لم يكن قادر على صياغة الكثير من الأمور، وذلك يعود إلى الله عز وجلّ في الإذان للعقل لبشري بتقبّل واجتياز مرحلة ما بمفاهيم ومعتقدات متجددة، لكل ما يدور في هذا الفلك المسكون، الأمر الذي يُدخل الزمن كعنصر جديد في هذه العملية التي تربط العقل والثقافة.

أنواع الثقافة

من الضروري عند دراسة عملية التبادل الفكري والسلوكي للعقل والثقافة لا بد من تحديد أنواع الثقافة التي يندرج ضمنها مفهوم التكامل المجتمعي لأي جماعة كانت، وأنواع الثقافة حددها كتاب  »الثقافة وبناء المجتمعات« لخالد التومي وهي:

الثقافة العامة هي مجمل الآداب والفنون والعلوم في الإطار العام الخاص بها.

الثقافة الوطنية: هي كل ما يرتبط بحضارة الوطن ويميزها من غيرها من فن وأدب وعلوم وعادات وتقاليد.

الثقافة الأساسية هي مجموع الصفات الثقافية المتواجدة في زمان ومكان معينين.

الثقافة المهنية: هي الثقافة التي يهتم بها من هم على درجة عالية من التمدن أو التعليم.

الثقافة الشعبية: هي التي تميز شعبا من غيره بامتثالها لعادات وتقاليد وأشكال تنظيمية خاصة بها.

الثقافة المضادة: هي التي تعبّر عن اتجاه ثقافي يحاول أن يحل محل الثقافة التقليدية المألوفة.

 الثقافة المضادة… بين الأمس واليوم

مصطلح الثقافة المضادة ليس بجديد بل برز في سبعينات القرن العشرين بعلاقة مع الحركات الثقافية الأميركية الخارجة عن الثقافة السائدة كحركة الأدباء المعروفين بالجيل الضائع (Beat Generation) والهيپيز (Hippies) والپانكيين (Punk). وبصفة عامة تستعمل الثقافة المضادة في الحالات التالية: حركات منظمة وظاهرة وذات مدى زمني مهم (لا ينطبق التوصيف على النزوات الجماعية العابرة)، تجسد قيم مجموعة اجتماعية مهمشة، حركات ثقافية فرعية مهاجمة لثقافة سائدة، أو حركات ثقافية على هامش قنوات الاتصال والنشر الثقافي (underground).

ويمكن تعريف الثقافة المضادة على أنها ثقافة فرعية تختلف قيمها ومعاييرها السلوكية اختلافاً كبيراً عن القيم الاجتماعية السائدة، وعادة ما تكون معارضة للأعراف الثقافية السائدة. تعبّر الحركة الثقافية المضادة عن روح وتطلعات مجموعة سكانية معينة خلال فترة زمنية محددة. عندما تصل القوى المعارضة إلى الكتلة الحرجة، يمكن للثقافة المضادة إشعال فتيل تغييرات ثقافية عميقة. من أبرز الأمثلة على الثقافات المضادة في أوروبا وأميركا

العقل قوة وامتياز

الشمالية: الرومانسية (1790  1840)، البوهيمية (1850  1910)، الثقافة المضادة الأكثر انقساما هي جيل بيت (1944  1964).. استحدث المصطلح لأول مرة بالإنكليزية في كتاب المؤرخ وعالم الاجتماع الأميركي تيودور روستشاك،  »صناعة الثقافة المضادة« سنة 1970.

أما اليوم فنرى نماذج كثيرة من الثقافة المضادة التي تنبذ معتقدات يمكن القول عنها أنها متجذرة ومتعمقة في العقول لمجتمع ما، كاستحداث التطبيقات الاجتماعية والسوشيل ميديا التي يبرز معها مفاهيم جديدة كعادات التصرف، والسلوك حسب نمط معين، في الشكل، في الوجه، في اللباس والأداء، كما أننا نعيش وسط ثقافة من نوع جديد في نسبة الجمال ومفهومه، بحيث باتت النساء يعتبرن أن الذقن الرفيعة مع الشفاه الممتلاءة والخدود المقروصة هي ما تحدد مدى جمال المرأة، الأمر الذي بات أشبه بغزوٍ ثقافي جديد يؤثر على عقول النساء، باتجاه مقابل لا بد من رؤية وضع المراهقين في ظل هذه التغيرات الثقافية المضادة التي تقوم على الاتصال الافتراضي والتواصل، من خلال الحسابات وتحقيق نسب مشاهدة عالية، كل هذه وغيرها هي تعد ثقافة مضادة، لكنها يبقى الفرق في عيار التقديم والهدف من هذه الثقافة المحتل العصرية؟ وما أساسياتها؟ هل هو الغاء هوية مجتمع ما، أم عولمة الظواهر من خلال توحيد المنظور العقلي؟

امتيازٌ وقوة

 »العقل البشري قوة من قوى النفس لا يستهان بها«، بحسب ما ورد عن ابن سينا، فهذه القوة المتمكنة في النفس الإنسانية هي قوة قادرة على سلك عدّة اتجاهات في سبيل البقاء والصمود، وفي غياب العقل، تبتعد الأخلاق ومعايير الإنسانية والأخوة، وتسود معايير القوة والظلم. ومن يمارس الظلم لا يراه، ولنا صور عديدة من اللاأخلاقيات في حياة البشر التي لا تقتصر على القتل والحروب. لذلك إن أهم معيار للتحكم بالعقل هو التمتع بالمنطق والحكمة في تحليل الأمور وطرح الأفكار وتنفيذها، والصبر في امتصاص السلوكيات الحديثة التي تحيط هذا العالم من كل اتجاه.

عمل العقل أمرٌ معقد وشائك فهو يرتبط بالتربية، والسلوك المكتسب، والبيئة الاجتماعية إضافةً إلى الطبع والمكتسبات الخارجية على مرّ أعوام لذلك إن استخدامه اليوم لا يكفِ في مجتمع باتت العولمة عنوانه بل يجب تدريبه على الإدراك والتحليل والتنفيذ في اتجاه الخير والسعي البنّاء. لذا نطرح بعض المقترحات التي تساعد في تدريب العقل وتحسينه عمله من خلال:

الامتياز الذي وهبنا إياه الله عزّ وجلّ عن باقي الخلق يصبّ أولاً قي العقل والتفكير، لذا أول مرحلة للتفكير الجيد هو اعتبار العقل نقطة قوة أساسية في الحياة.

توسيع إطار التفكير في تحليل الأمور، من خلال المنطق العقلي وبذل مجهود لذلك.

 عملية اتخاذ القرار، يجب أن تكون على مبدأ الخصوصية والشمولية، بحسب الظرف والزمن الكناسبين للفرد.

قياس أهمية الأفكار الجديدة في الحياة، وعدم رفضها لا يعني نبذها.

 العيش بانعزال عن البيئة والأشخاص أمرٌ صعب، لكن على الفرد اعتماد سلوك معين خاص به لا الاعتماد على التقليد والسعي للرضا المجتمعي على حساب ذاته.

التفكير بايجابية دوماً، والابتعاد عن الشرور.

العدد 111 / كانون الاول 2020