الذكرى التاسعة والسبعون لرحيل مي زيادة

آفاق  جاد الحاج

يصادف هذا الخريف ذكرى وفاة الكاتبة مي زيادة في 17 تشرين الأول سنة 1941. وقد كانت مي زيادة أول أديبة عربية في التاريخ المعاصر تفتح بيتها مرة في الاسبوع كصالون أدبي ما تخلّف عن زيارته أحد من أقلام وأعلام الربع الأول من القرن العشرين. طه حسين، خليل مطران، أحمد لطفي السيد، عباس العقاد، وأنطون الجميل، وغيرهم من  »الشوام« الذين سكنوا القاهرة في تلك المرحلة  »الباريسية« من تاريخها. تلقت مي زيادة دراستها الابتدائية في مدينة الناصرة وأنهت دراستها الثانوية في معهد عينطورة سنة 1907. بعدئذ انتقلت اسرتها للاقامة في القاهرة حيث اكملت دراستها الجامعية في كلية الآداب. ولعل اللافت في مسيرة تلك الأديبة انها اتقنت تسع لغات: العربية والانكليزية والفرنسية والألمانية والايطالية والاسبانية واليونانية واللاتينية والسريانية… وقد اشتغلت في ميدان تدريس اللغتين الانكليزية والفرنسية!

في صباها نشرت مي مقالات ادبية ونقد اجتماعي تقدمي اشاد به ادباء عصرها وتلقفت صحف القاهرة مقالاتها برحابة صدر بسبب اقبال القراء على مطالعة ما تكتبه في حماسة منقطعة النظير. المقطم والاهرام والزهور والهلال والمقتطف والمحروسة التي اصدرها والدها في القاهرة آنذاك.

عام 1911 اصدرت مي ديوان شعر بالفرنسية ولكن باسم مستعار هو  »إيزيس كوبيا«. وفي سنة 1920 اصدرت كتاب  »باحثة البادية« الذي ضم مقالات نشرت سابقاً في الصحف والمجلات المصرية. بعدئذ توالت أعمالها العربية:  »كلمات وإشارات« سنة 1922 وفي السنة التالية صدر لها  »المساواة« و »ظلمات وأشعة« وفي العام اللاحق 1924 صدر لها  »بين الجزر والمد« و »الصحائف«. قالت مي ذات يوم:  »قضيت حياتي بين قلمي وأدواتي وكتبي ودراساتي، وانصرفت بكل تفكيري إلى المثل العليا التي جعلتني اجهل ما في البشر من دسائس«.

لقد تفردت مي في عشقها لأديب المهجر الاميركي جبران خليل جبران عبر رسائل شديدة الرقة والشفافية استمرت حوالي عقدين من الزمن مع انهما لم يلتقيا أبداً. لم تتزوج مي ويقال انها وهبت قلبها لجبران ولو عن بعد فسببت لها وفاته سنة 1931 صدمة كبيرة سبقتها وفاة والد تها مما زاد في إحباطها وساهم في إدخالها مصح الامراض العقلية. وفاة والدتها ثم والدها ثم موت جبران خسارات أفسحت في المجال لأقربائها كي يدّعوا إصابتها بالجنون، تمهيداً لوضع اليد على إرث عائلتها. إلا أن المحيط الأدبي والصحافي في لبنان تآزر للدفاع عنها ونجح في إطلاق سراحها.

لدى عودتها إلى مصر عاشت مي وحيدة تماماً ولم تستطع ان توظف قلمها في التعبير عن حزنها العميق. لا السفر ولا الدراسة نفعا حالتها النفسية بشكل ايجابي. ولدى بلوغها سن الخامسة والخمسين أسلمت الروح في وحدة صالونها الأدبي المقفر.

ما سار في جنازة مي سوى ثلاثة: أحمد لطفي السيد، خليل مطران وأنطون الجميل.

رسائل مي إلى جبران ورسائله إليها ما زالت تعتبر اليوم نموذجاً ساحراً للحب العذري المسلح بالكلمة والقيم. فلم يعرف الأدب العربي ظاهرة تختصر كون الحب بلا حدود ولا مواصفات وكونه عاصٍ على الانضواء في مقولة محددة. لقد أراد الكاتبان أن يجتمعا ذات مرة واحتوت رسائلهما أشارات عديدة تومئ إلى تلك الرغبة لكن الظروف عاكستهما مع انها لم تتمكن من إطفاء شعلة حبهما حتى الرمق الأخير.

العدد 111 / كانون الاول 2020