تزوّجت  »الجزيرة«  »حقول العنب« وأنجبت رئيساً عرف بـ:  »الأعجوبة الثامنة«

بروفسور نسيم الخوري*

سقطت كلمة  »المتّحدة« من إسم الولايات الأميركية ومعها سقطت كلمة  »العظمة«، على الأرجح، بعد الجرجرة والسقطات الهائلة لصورة الإنتخابات الرئاسيّة بين ترامب وبايدن التي لم تعرف أميركا مثيلاً لها منذ 120 سنة. أميركا أوّلاً أو أميركا أخيراً، الإقتصاد، الرعاية الصحيّة، الهجرة، الكورونا، الإقتراع بالبريد للأموات أو للأحياء.. الخ، كلّها مفردات معلوكة شغلت العالم وأسقطت معايير الحريّة والديمقراطية والقيم الإنسانية. إنّ ما اعتمده ترامب ناموساً مشعّاً لحياته الحافلة بكلّ ما يرسّخ جذوره الأميركية، نوثّقها بجذور أجداده المهاجرين حتى لا تبقى معلّقة في الهواء، بل في جزيرة تنظيف الأسماك في اسكوتلندا وقد تزوّجت حقول العنب في جنوبي إلمانيا وأنجبت رئيساً لأميركا عرّف نفسه بـ »الأعجوبة الثامنة«، وإلاّ كيف نفهم ما قاله في كتابه  »ترامب بلا قناع« من أنّ:

 »الإنسان هو أكثر الحيوانات ميلاً إلى الشرّ، والحياة سلسلة من المعارك التي يفترض أن تكون شرسة لتنتهي بالنصر أو بالهزيمة… ولو أنّ العالم بأجمعه آل إلى الخراب فإنّني لن أخسر في حياتي دولاراً واحداً«….  »ص: 142«.

هذا يكفي وهو الذي يعنينا، أعني جملة واحدة تحمل شرور أميركا وتاريخ البيت الرئاسي سواء مع دونالد ترامب الذي لم ولن يضبطه حزب جمهوري أو مع جو بايدن الديمقراطي المدموغ حزبه بإلقاء القنبلة الذريّة فوق هيروشيما والمدموغ شخصياً بفواجعه العائلية التي جعلته متعثّراُ مربكاَ. تقول الجملة: مهما تعمّقت بينكم الأصول والحفر والمسافات والخلافات والمكائد، تسهر  »إسرائيل« جاهزة لأن تجمع ما يفرّق حاصدةً الرياح والغنائم كيفما هبّت، وهذا هو التحدّي لتواريخ العرب.

أعود للإعتراف والتفسير، بأنّني استغرقت في قراءة كتاب  »ترامب بلا قناع« بانياً مقالي الثاني هذا، مثل سمكة جائعة رموا أمامها ما لا يجمع من القاذورات والجواهر واليخوت والطائرات وناطحات السحاب والثروات المتراكمة في المحيط، ذلك كلّه مع رفضي المسبق لرئيس الصفقات والأكاذيب التي تملأ العالم الآن، والذي صدّق نفسه بأنّه حكم أميركا بالتغريدات، وسيحكم العالم بعدما خرّب تاريخنا بتحدّياته مغتصباً فلسطين ثانية بـ »صفقة العصر«، ناقلاً سفارة أميركا إلى القدس  »عاصمة إسرائيل«.

استغرقت بكتابه بنهمٍ فاجأني، وكأنّه أوقعني في فخّ  »مازوشي« لكنّه لذيذ، وجعلني مكبّلاً بالأفكارٍ الثابتة المقدّسة المكدّسة المقيمة في ذهني وسلوكي وحبري المدموغة ب فلسطين والعرب والقدس و »إسرائيل« سجينة القوسين الأبديّين دليلاً على عدم الإعتراف بها. تكفينا الدهشة المتعكّرة الأخيرة إزاء التقارب العربي الإسرائيلي ومناخات التطبيع المفلوش أمامنا ومآسي العراق وسورية ولبنان وليبيا واليمن بجراح شعوبها التي وكأنّها لم ولن تعرف اليباس، والحبل باق ممطوط على الجرّار الدموي.

أعترف بأنّني انشددت للرئيس دونالد ترامب هذه الشخصية الغريبة العجيبة التي خرجت من أحشاء إمرأةٍ امتهنت تنظيف أحشاء السمك في جزيرة منعزلة فقيرة ليصبح رئيساً في البيت الأبيض وشاغلاَ الدول والناس، ويتنقل باليخوت العائمة والطائرات المدموغة باسم عائلته المهاجرة وقد بنى شعبويته ثم خسرها بنسيانه أو تنكّره لجذوره المهاجرة. تتجاوز هذه الشخصية الغريبة والعجيبة بطلي  »ألف ليلة وليلة« التي قضى أستاذي المستشرق الفرنسي أندريه ميكال حياته ومحاضراته الأكاديمية فيها. كنت على وشك أن أكتب عن ترامب أكثر من مقالين، لكنّ الرياح السياسية الرافضة التي كانت تهبّ في داخلي، كانت تجذب قاربي إلى عدم تلطيخ الحبر والشيخوخة في الترويج لأصحاب السلاطين الذين يذبحون أوطاننا نعجةً إثر نعجة.

هكذا وجدت نفسي أحصد مقالين متحيرين على ضفاف ترامب، لكنّ طعماً (بضم الطاء) آخر أسرني ولم أستطع فك لغزه، هو تناقض  »السلاطين« الهائل، عندما يستبدّ بهم المال والجاه ويقبض عليهم بريق السلطات، ولذلك كان لا بدّ من الحفر في جذور ترامب العميقة. الجذور Roots مصطلح مغرٍ. إنّه الإسم العريق والرائع للفيلم الذي يسرد تاريخ السود الذين لطالما استيقظ غضبهم بعدما طاولتهم عنصرية دونالد ترامب وغيره من الرؤساء في التاريخ الأميركي.

1- دونالد ترامب بائع الأوهام الجميلة هو إبن ماري آن ماكيلود، اسكتلندية الأصل من قرية اسمها تونغ 5. ولدت في بيت شديد التواضع. وكانت تعمل، مثل أهالي تلك الجزيرة، في تربية المواشي والصيد في الخلجان وجمع الفحم لبيعه واستخدامه كوقود وجمع أعشاب البحر لاستخدامها كسمادٍ في تلك الأرض العسيرة من الجزيرة، كما كانت تعمل أيضاً بتنظيف أحشاء الأسماك كما أسلفت. عندما بلغت الثامنة عشرة وهي تحلم بهجرة جزيرتها نحو أميركا، صعدت إلى سفينة راسية محملة بالسمك والبشر، وسجّلت إسمها عند الحاجز في أعلى السلم:  »مساعدة منزليّة«. هذا تعبير فضفاض بالإنكليزية يعني  »خادمة« أو أيّ عملٍ قد تجده عند وصولها إلى أميركا. هذا التسجيل ترفع له قبعات الحبر والأشراف من فقراء الأرض.

كان ذلك في 7 شباط /فبراير 1930، حيث انهيار الأسهم في بورصة نيويورك، وتفاقم الكآبة والبؤس بسبب الكساد. كانت أميركا ترحب بالمهاجرين وتستقدم العمال والإستيطان غربي البلاد خلافاً لما يفعله إبنها اليوم حيال المهاجرين. وتشاء الصدف الجميلة أن ينشر هذا النص الثاني حول كتاب ترامب، في مجلّة  »الحصاد« اللندنية في الشهر نفسه، لكن بعد مرور تسعين عاماً على هجرة والدة الرئيس دونالد ترامب إلى منطقة  »كوينز« في نيويورك.

عندما زار ترامب منزل والدته وأجداده (2008) بطائرته الخاصّة وفيها غرفة نوم وصالون يتسع لجلوس دزينتين من أصدقائه الخلّص، ومائدة من الخزف النفيس والكريستال ومغسلتان مطليتان بالذهب وعلى طول الطائرة كلمة TRUMP نافرة بالأحرف الكبيرة، لم يتمكّن ترامب أن يمكث داخل منزل والدته المهلهل العتيق أكثر من 97 ثانية. إلتقطت الصور التذكارية، وقال يومها للمتجمهرين أمام البيت من حوله بعد الزيارة:

 » أشعر براحةٍ تامّة هنا. عندما يعود أصل والدتك إلى مكانٍ معيّن، فلا بدّ أن تحبّ هذا المكان. أشعر بأنني اسكتلندي، ولكن لا تطلبوا منّي أن أحدّد شعوري. ثمّة شيء قوي في داخلي إكتسبته من والدتي. حتّى إذا كان هناك بينكم من لم يسمع الملاحظة، أقول لكم: لديّ أموال طائلة« ص: 32. كان قد غرق العديد من أهالي الجزيرة مع مراكب صيد الأسماك هناك، وهو ما حصل لجدّ ماري من ناحية أمّها واسمه دونالد سميث كان في الرابعة والثلاثين من عمره. لقد حزنت عليه كثيراً، ولهذا وبعد عقود أطلقت الأم ماري اسمه على مولودها الرابع دونالد ترامب الذي صار رئيساً لأميركا.

2- يعود جذر دونالد ترامب الذكوري إلى جدّه فريديريك الذي نشأ في قرية  »كالشتاد« الواقعة جنوب غربي إلمانيا. لا يتجاوز عدد سكّانها الألف نسمة ينتجون الخمر في أرض العنب منذ ألفي سنة. البيت من غرفتين وكان يتّسع لعائلة مؤلّفة من ثماني أفراد وقبو للمواشي وآخر لتخمير المحاصيل السنوية. مات أبوه جوهانسن بسرطان الرئة وكان فريديريك في الثامنة. ساءت الأحوال ودبّ الجوع، فأرسلته أمّه عندما بلغ الرابعة عشرة إلى دكّان ليتدرّب لمدّة عامين على مهنة الحلاّقة، لكنّه لم يجد بدّاً من هجرة الفقر، إذ تسلّل هارباً من التجنيد الإلزامي، معتلياً السفينة  »أيدر« ليصل الجدّ فريديريك إذن مهاجراً إلى نيويورك في ال 1885. دوّن إسمه في سجلاّت الهجرة الأميركية عند وصوله بأنّ  »مزارع«. هكذا وجد نفسه تائهاً في مدينةٍ عدد سكانها مليون ومئتي ألف نسمة. راح يبدأ العمل حلاّقاً هناك، ليفتتح بعد الحلاقة دكّاناً في منطقة سيّئة السمعة برع فيها بين تجّار الجنس والمقامرين الذين تغصّ بهم تلك الأحياء فصار صاحب فندق صغير. عاد الجدّ إلى إلمانيا، وتزوّج من إليزابيت كريست ثم رجعا إلى نيويوك حيث ولدت لهما طفلة اسمها إليزابيت في ال1904. وحاولا جاهدين تثبيت عودتهم الثانية النهائية من نيويورك إلى إلمانيا لكن من دون نتيجة لأنّه خرج أساساً بطريقة غير شرعية. هكذا ضغطوا عليه لترك البلاد نهائيّاً، وإذ وصل حزيناً مجدداً إلى نيويورك، ولد إبنهما الأوّل فريد كرايست ترامب الذي صار في ما بعد والد دونالد ترامب.

هكذا وجد فريديريك نفسه في وول ستريت لا مشاركاً بالمهن الرائجة هناك أعني خبراء ماليّين ومضاربين بل حلاّقاً عاد يمارس مهنته الأصليّة. لم يترك رأسأ من سكّان جنوبي مانهاتن إلاّ واعتنى بشعره وذقنه في 60 وول ستريت. لم يكن فريديريك يتخيّل أنّ إسم عائلته  »ترامب« سيزيّن برجاً في 40 وول ستريت، بعد مرور قرنٍ، سيبنيه حفيده دونالد ترامب كأضخم مجمّع مؤلّفٍ من 72 طابقاً، تتلألأ في أعلاه كلمة TRUMP.

عمل فريديرك بعدها مديراً لفندق في  »كوينز« في مرحلة من الإزدهار العمراني حيث أسهمت تلك النقلة إلى إرساء أسس مستقبل عائلة ترامب وثرواتها المقبلة. توفي فريديرك ترامب بالأنفلونزا أثناء دخول أميركا الحرب العالمية الأولى 1914، وكان إبنه فريد مولعاً بتجارة البناء ومصمّماً لأن يصير من كبار مقاولي البناء في نيويورك عندما بنى منزله الأوّل وهو في السابعة عشرة من عمره. وراح يستغرق في بناء إمبراطوريته العقارية، وخصوصاً عندما كان الكساد ينهك نيويورك. هكذا برز فريد ترامب بوصفه من أنجح رجال الأعمال الشباب، إذ باع 78 منزلاً خلال عشرين يوماً.

في تلك المرحلة، ذهب فريد إبن الثلاثين لحضور حفلة قرب منزله، وشاهد شقيقتين استرعت الصغرى انتباهه كان اسمها ماري آن ماكليود وعمرها 23 سنة، وسرعان ما حدث التوافق وحلّ الحب بين ماري  »الخادمة« وإبن  »الحلاّق« الذي سرعان ما عاد إلى منزله ليعلن لقاءه بالمرأة التي تزوّجها في 11 كانون الثاني 1936 في مانهاتن. وتدفّقت الأرزاق والأرباح على فريد ترامب بعد زواجهما، إلى درجة أنّه وصل إلى الترويج للمنازل التي كان يبنيها من يختٍ خاص بطول 65 قدماً يذيع الدعايات فيما تمتليء الأجواء بألاف البالونات على شكل الأسماك التي يلتقطها الناس ليجدوا فيها قسائم تمنحهم حسومات لدى شرائهم البيوت.

في الرابع من حزيران 1946، ولد الإبن الرابع للعائلة، وأطلق عليه فريد وماري إسم دونالد جون ترامب، الطفل الذي سيحفر إسم العائلة في التاريخ بعدما تغيب أو تمحى قصص أسلافه من الذاكرات. كتب دونالد ترامب إبن الجزيرة الفقيرة عندما تعشق حقول العنب:

 »من يرضى بالقليل في هذه الدنيا غبي لأنّه لا يعرف طعم الكثير« ص: 266.

*أستاذ مشرف في المعهد العالي للدكتوراه، لبنان ـ باريس.

العدد 111 / كانون الاول 2020