»ما في حدا«

 نافذة على الحياة..

سهير آل إبراهيم

لم ينظر إلى الساعة التي تستقر وحيدة على المنضدة المجاورة لسريره عندما استفاق ذلك الصباح.. ربما كان الوقت صباحا، لم يكن متأكدا، اذ لم تعد المواقيت تعنيه كثيرا، لا فرق لديه الان بين صباح ومساء.. تحمل تلك الساعة ارقاما تشير إلى ساعات مختلفة من اليوم، ولكنه لم يعد يميز اوجه الاختلاف بينها، فقد صارت كل الساعات والأوقات لديه تشبه بعضها البعض. أصغى لوهلة إلى عقرب الثواني الذي ما انفك يعدو حثيثا، كما هو حاله دوما، يدور مسرعا فيلتهم العمر ثانية ثانية دون أن يتوقف عن الهمس بتتابع لا يعرف الملل؛ لا أحد.. لا أحد .. لا أحد..

يوم آخر يعلمُ أنه لن يختلف عن ما سبقه من الأيام، كان على يقين ان هذا اليوم الجديد لن يحمل ما قد يحرك سكون الحياة وساعاتها التي تذوب بالتتابع وتتلاشى لتترك خلفها أودية من الفراغ واللاجدوى، ذلك الفراغ الذي أطفأ بصيص الأمل في داخله لتحل محله عتمة اليقين أنه سيمضي ما تبقى له من العمر وحيدا، لا رفيق له يؤنس وحدته سوى نفسه وهذه الجدران الصماء التي تحيط به، وهذا الصمت السحيق الذي بات يبطن حياته ويغلفها .. نهض متكاسلا وتوجه نحو النافذة المعتمة فأزاح الستارة عنها، أحس بشيء ما يتحرك داخل صدره لمرآى النور؛ هل كان ذلك الاحساس ومضة ابتهاج؟ لم يعد يدري، فقد اختلطت لديه المشاعر وتسمياتها منذ زمن بعيد. اصابت الوحدة مشاعره بالخدر فاصبحت جميعها تحمل تلك النكهة الباهتة غير المحببة والتي لم يكن قد تذوقها سابقا، قبل انتقاله القسري إلى منفاه هذا.

كانت جدائل الشمس قد تهدلت في غرفته بمجرد ازاحة الستارة، فهاجمت العتمة في كل مكان؛ في زوايا غرفته وعلى جدرانها. تسللت بعض خيوط الضوء إلى عتمة روحه فتحرك ذلك الشعور المختلف الذي لم يعد متأكدا من ماهيته وبات يتردد في محاولة وصفه خشية ايقاظ واستحضار ذكريات يتمنى ان ترقد في وادي النسيان إلى الأبد ..

توجه بخطوات متكاسلة نحو المطبخ ليعد قهوة الصباح، أو الأصح قهوة بداية اليوم. كان قد اعتاد، ومنذ زمن يبدو طويلا، أن يعد ما يكفي من القهوة لشخصين .. لم يعد يذكر متى كانت أول مرة فكر فيها ان فنجان قهوته بحاجة إلى رفقة فنجان آخر، لا يذكر لماذا اجتاحت نفسه، في وقت ما، رغبة اعداد فنجاني قهوة، ربما خشي أن تزداد قهوته مرارة ان احتضنها فنجان وحيد.

اتخذ مجلسه في الشرفة المطلة على جانب من الحي الذي يسكن فيه، حيث تسير الحياة بصخبها المعتاد، ارتشف قهوته وهو يستمع إلى صوت اغنية كان يأتيه مع ما يصل إلى اذنيه وما يتسلل إلى صمت وحدته من أصوات الحياة خارج شرفته ومنزله وحياته. لم يفهم كلمات تلك الاغنية التي كانت تصدح بلغة مختلفة عن لغته، لكنها مع رائحة القهوة أخذته إلى مكانه السابق حيث كان مذاق القهوة يتمازج مع صوت فيروز فيكتسب نكهة خاصة شهية ومحببة فوق الوصف. نعم يا سيدتي العزيزة فيروز فقد (ضجرت مني الحيطان ومستحية تقول) لذلك هي صامتة دوما، وحتى وان قالت أو اشتكت وحدتها فسوف يجيبها الفراغ داخل روحي:

ما في حدا لا تندهي ما في حدا

عتم وطريق وطير طاير عالهدا…

غادر مَحبَسَهُ الذي يسميه الآخرون منزلا.. لا يدري لماذا يذكره سكنه الجميل المريح بالحبس والقيود، بينما هو الآن انسان حر طليق لا يوجد ما يقيد حريته؛ لا ارتباطات اجتماعية ولا التزامات.. لا اهل ولا معارف ولا اصدقاء.. هل هناك فضاء اوسع من ذلك الذي يشغله انسان مفرد؟!

قرر الذهاب في نزهة للاستمتاع بذلك الطقس الجميل.. استمتاع هي الكلمة التي يستخدمها الآخرون في مناسبات كهذه، لكنه الآن غير متأكد ان كان قد بقي لتلك الكلمة صدى في نفسه.. بدت المدينة ساحرة فاتنة وهي ترتدي غلالة النور التي غزلتها خيوط شمس ذلك الصباح.. تحرك ذلك الشعور ثانية داخل صدره لمرآى الشوارع والناس.. لمشهد أوراق الأشجار وهي تتلامع تحت ضوء الشمس وكأنها كانت تلقي إلى الكون ابتسامات من ضياء.. لمشهد مياه البحيرة القريبة وقد ألقت الشمس عليها سحرها فحولت وجهها إلى فيض من لآلئ تتراقص بغنج وخيلاء.. كانت تلك المشاعر تكبر وتتمدد داخل نفسه كلما تشربت حواسه المزيد من ذلك البهاء، فاضت فأحسها تنساب من عينيه واذنيه… ملأ أريج ذلك الصباح رئتيه فأغرقهما وسال من أنفه كما الرعاف، ولكنه لم يفقد القدرة على ابقاء الكلمات التي قد يصف بها كل ذلك السحر حبيسة في داخله، فما جدوى انسياب كلام في الفراغ.. لو وجد اذنا صاغية واحدة لربما حدثها عن كل هذا الجمال الآسر الذي يحيط به، والذي، ويا للغرابة، كان يعزز مشاعر الوحدة والاغتراب لديه..

اتخذ لنفسه مجلسا على مقعد مواجه للبحيرة وصار يتأمل الطيور وهي تنساب وادعة فوق مياهها.. آه كم كان يغبط الطيور على أجنحتها وحريتها ومقدرتها على الطيران، وها هو اليوم يجد نفسه يغبط الأشجار على ثباتها ورسوخها في مكان واحد. تموت الشجرة حيث تنبت، تمضي حياتها مهما طالت دون ان تترك الحضن احتواها عندما دبت الحياة فيها أول مرة!

طارت سربة طيور فحياها بخفقة متسارعة من قلبه.. يا ترى هل هذه نفس الطيور التي كان يتابعها بعينيه حتى تختفي في رحبة السماء حينما كانت روحه تئن تحت ثقل القيود وتصارع كي تتنفس الحرية ؟.. هل هي نفس الطيور المحلقة التي تأملها وهو يقف على عتبة الوطن مولياً وجهه وقلبه شطر المجهول، حارقا بثبات واصرار جميع سفن العودة؟

يدرك الآن ان الوحدة هي قيد من نوع جديد، سجن آخر يجده عندما يختلي إلى نفسه لا يختلف عن السجن الانفرادي.. اضحكته عبارة (عندما يختلي إلى نفسه) لان كلمة (عندما) تلك كانت قد فقدت لديه معناها المتعارف عليه حيث اتسعت حدودها وتمددت واصبحت تملأ كل حيز في حياته التي بات يمضيها في خلوة مع نفسه .. كان جمال الطبيعة ذلك اليوم فوق قدرته على ان يحتمله بمفرده، فلم يكن أمامه سوى ان يلجأ إلى هاتفه؛ رفيقه الأوحد… التقط عدة صور وشاركها مع اصدقاء له في اماكن متفرقة من هذا العالم، يقال عنهم اصدقاء افتراضيون، لا يعرف لأكثرهم عنوانا، ولا يعرف لبعضهم سوى صور رمزية وأسماء وهمية.

العدد 111 / كانون الاول 2020