كامل مهنا :أبعادالتنمية والعولمة المستبدة

لا يترك الدكتور كامل مهنا، رئيس مؤسسة عامل الدولية في لبنان، قضية خلف ستار ولا جداراً يحجب ضوءاً. بين أصابعه أهم القضايا. وهو إذ ينشر الأبواب بحثاً عن بيوت الريح، لا يجرب ويقف عند ما يفعل، لأنه يدرك بأن الأفعال بدون تدوين، بدون تسطير صرخة دون ولادة. لذا يقفر فوق الغيبوبات المنتشية، من يمص أصحابها حليب خيالها، سارحاً في كتابة استشراف النبضات الجديدة، لكي يساهم في إبعاد عالم الحركات الإجتماعية عن كوكب الأموات. كتابه الأخير الصادر عن دار الفارابي موجة يطوف بها الغرقى في جدران ملح العمل الإجتماعي  »أبعاد التنمية والعولمة المستبدة« ما دام يقرأ بلغة طيلة في دهاليز العمل الإجتماعي. قراءة إستشراف لا مرواحة أمام الأسئلة القديمة، اسئلة الشواطئ القديمة.

هذا كتاب نجاة، كتاب وقوف على أصابع الأنفاس. هذا رجل لا يحرق الأشرعة وهو يغادر السفن، بعيداً من غباء البحارة من لا يزالون يعتبرون أن القراصنة يحتلون البحار بمناظيرهم القديم. وأيديهم المنتهية بخطافات من حديد. المأسسة في خرائطه الأصلية. لأنه مدرك بأن كل المعادلات الأخرى لم تفعل سوى أن تدفع بالمحاولات والتجارب إلى الوقوع على العتبات الحادة، اللاذعة. يركز على المفهوم ويغوص به، حتى تضحي المساعدة، بركة لا خيمة يقيم المحتاجون بها. المساعدة كف مفتوحة ومضي إلى حيث البحر. إنها الهواجس بإخراج العمل الإجتماعي من حاسة الغيب إلى الحواس الخمس. سلوك الدروب لا الأمنيات. قفز إلى الإستراتيجيات من التكيكات، إذ يعتبر مهنا أن الإستراتيجيا هي دفتر الأيام، حين أن التكتيك ورقته. حيث يصبح طالب المساعدة جزءاً من عائلة لا تضعه على صهوة الغيم لترميه بالفراغ الإجتماعي. عصيان على المشهد اللبناني، حين يرى جمع العاملين بالحقل الإجتماعي أن المساعدة بقميص يستر من يسير عارياً بالبرد القارس هو أساس، لمَّا يجد دكتور مهنا في المهمة هذه إنزلاق هش نحو الصور ما قبل النمطية للعمل بالشأن الإجتماعي. عنده، كل بشري بشري ناقص إذا ما بقي جفناه باردين بين منحتين، صندوق مؤونة، مال سائل أو متكآت ظرفية أخرى. هذه أحلام قديمة، هذا فعل ناقص بالعمل الإجتماعي من متوتر أو موتور أو صاحب مصلحة في أن تفر اللحظات الحقيقية للعمل الإجتماعي، بحيث لا تعود إلا بالصور المبسطة أو ذات الوجه التبسيطي. ما يوقع العمل الإجتماعي بالتسطيح.

العمل الإجتماعي في كتاب الدكتور مهنا بيت لا إناء ضيق، مسحه الراوي بالمعرفة والخبرة (لأن الكتاب كتاب تجارب على الأرض). إنه هواه، وجهه، تلويحاته في المدن وعند أنهار القرى حيث التبغ لا زجاجات العطور وحيث الأكف الصلبة والأمهات تمسحن الغبار عن وجوه الايام.

لم يكتف دكتور مهنا بالدخول في سمات العمل الإجتماعي بالرقي، يداخل على الدوام كغيري، كغجري، في نزيف الماء والدم من شقوق العلاقة بين الطالب والملبي. ذلك أنه يمتلك مسرح السجال العميق معها. يمتلك ما يحمي مفاهيم العمل الإجتماعي كآخر البرازخ الحية في العالم المتهافت عند بدايات الألفية الجديدة. لم يصب بالنعاس ولا بدا ثقيلاً وهو يقف على سطوح مؤسسات عامل (أوجدها كمعاجم حرة لا كطواحين)، منذ عقود، لكي يرمي نظرة شاملة، على حقول الناس وهو يتحسس بعينيه الأشياء، بدون أن ينتظر بلعبة تنتهي باستجابة اليدين إلى مركز العمليات / العقل. لأن العقل نويون الأيام. بعد أن وجد العقل بذرة مهملة بالعالم المسمى العالم العربي.

الأهم في كتاب دكتور مهنا الجديد الرؤى المصنوعة من قراءة الخلاصات على الأرض. هكذا، وجد أن ربط التنمية بالعولمة علامة لا ترجمة. وزواج العولمة بالإستبداد فتح ُ جدل يصيد به رجل قضى ثلاثة أرباع عمره وهو في مقعد حركات التحرر في لبنان وبعض دول الخليج وفي فرنسا، يصيد التصلب بالصلب من المواقف والإنحناءات على حدة العالم الجديدووجه الموت فوق العالم مهدداً برمي البشر فوق الصخور الناتئة.

الآن: التنمية شمعة من أمضى نصف قرن فوق الأريج الغامض لواحدة من أهم المؤسسات الإجتماعية، مؤسسة بساقين طويلين وقدمين تملكان حرية المشي (رشحت لنيل جائزة نوبل). لأن من نبهها إلى حضورها وما لبث أن أوجدها كهتاف وسط المؤسسات المرتعشة، لم يتركها على بقعة ضوئها الأولى وهو يطور إنفراجاتها، بحيث لا يخشى من يقصدها من البغتة، العتمة، الضغط على معصميه بعصبية. التنمية عنده فم صامت أو فم مزموم إذا لم يدعُ بالشفاء للدولة، بحملها من دولة محسوبيات طائفية ومذهبية إلى الدولة المدنية. لا صوت أجش ولا صوت مشروخ بالكلام على التنمية، لأن مهنا مدرك أن الكلام على  »عامل« كلام رسالة ناقصة إذا لم تقترن المؤسسة بالمؤسسات الإجتماعية الأخرى، على إتساع عيني عامل أمام العيون الأخرى. ما يتركه الرجل خلفه. لأن مديح مؤسسة مديح ضفيرة على كتف، لا مديح كتف يسع الضفائر كلها. يخصص للمؤسسة محوراً، لا لأنه يجدها اليد اليمنى للعمل الأجتماعي في لبنان. لأن المؤسسة لم تلبث تمسح العرق عن جبهات المتعبين، بالسياسة الإجتماعية لا بالعمل الإجتماعي وحده. الأولى هي الكرسي العريض، حيث يرتاح العمل الإجتماعي. يؤكد مهنا، أن التنمية عنصر الإستقرار وعنصر التطور الإجتماعي والإنساني. تحضر السياسة (لا السياسة الإجتماعية) بظلالها العميقة بالعمل الإجتماعي، على الرغم من أن مهنا يرى فيها (كما يمارسها أهل السياسة) قسوة تظهر في لهاث الناس وفي فقدانهم أسمائهم وألسنتهم في حضرتها. التنمية، عمليات بتقنيات تطور شامل، تتخذ أشكالاً مختلفة بما يتوافق مع الإحتياجات الفكرية والإجتماعية والإقتصادية. وتعتبر وسيلة الناس وغايتهم. تبدأ الخارطة هنا، في خمسة مبادئ أولها التوجه إلى الفئات الشعبية الموجودة على تقاطع طرقات الحياة. ثم تحقيق التنمية في الطريق إلى الإنتقال إلى النضال من أجل توزيع الثروات بعدل. الرجل أممي الوجهة، لا يفرق بين المواطن المحلي و »الآخر« في العالم. إقامة الدولة الإجتماعية وبناء الإنسان / المواطن من مأثورات كلامه وسلوكه. ورفض ازدواجية المعايير بين الشرق والغرب. مهنا خبير في كتب الممنوعات على هذا الصعيد. هكذا، يجده من يعرفه، يقف في وجه عواء ذئاب الغرب، من يضعون المفهوم الفرائسي على صدرهم كالجعب العسكرية. فلسطين هنا، جدة الرجل. رجل من حرير يستخدم خيط الحرير في ردع جن الحرب وسميعة الرأي الواحد.

لا يحذف الدكتور مهنا شيئاً، لأنه لا يخشى الرقابة، رقابة ذاته أولاً. وإذ يعتبره البعض شيوعياً وبعض آخر بفكر آخر، يشعر هو نفسه بالحرية أمام التصنيفات السياسية هذه، في الإختيار والتصرف والقول. حرية تجعله مختلفاً عن من يخشون الكلام. لأن الكلام ليس ماء. الكلام إرسال في خدمة المجتمع. ثمة ثورة في التدوينات، ثورة الوعي بعيداً من الإخفاقات السالفة. وإذ يتحدث عن التنمية يتحدث عن العولمة، كفكرة واحدة في مداها وتطبيقها وضدها كمجال إستثماري، بطلتها الشركات متعددة الجنسيات. سوف ينفجر إذا لم يحيي الفكرة هذه في فضاء متاعبها. لا يجد العولمة حديقة. بالعكس. العولمة، مدينة واحدة وضواحي. دولة واحدة وضواحي. إستعلاء يصرع الآخر بحجة أنه يقاسمه المآكل والشراب و… المعلومات. تتلاشى العولمة أمام من يرفض إستعارة أو نسخ مواقف الآخرين. وعند الشاردات والواردات، يبقى الهاجس والجناح ومحرك الرياح والظهر والليل والصباح هو المجتمع المدني. الكلام على الموضوع هذا كلام تشريع في مشاهد يكرهها من يمتلكون وجوهاً من فراغ. المجتمع المدني، تكوين، تشكيل، صحوة، تشكيلات وصحوات. مجتمع ديمقراطي مؤسس على حقوق الناس.

الكلام على تجربة  »عامل« كلام على طبيعة المخطط والمُخطِط والتخطيط. إنه المكون والأثر، أمر لم يقم على السهولة ولا على مفهوم المعارض الدوامة والتقديرات. حضور أقام تحولاً جذرياً في مفهوم العمل الإجتماعي. السياسة الإجتماعية بالأحرى. مركز الحركة مركز المدينة. حركة  »عامل« حركة المدينة. الإنطلاق من الأفقر في المتوسط، للخروج من التنميط الإجتماعي. عند دكتور مهنا، حين يتم الإستثمار الصحيح، يعود المواطن إلى مواطنيته والمهاجر من هجرته والمهجر من تهجيره والخارج من خروجه. عامل إذن، ليست منشأة فقط. عامل خط ومرفأ. ومهنا رأس منفتح. رجل لا يحدث الأشباح بالهواتف المحمولة. لأنه الأكثر إنفتاحاً على فكرة أن السير في المرآة سير مفرغ من الحق والحقيقة. وأن السير على السنين الطويلة وسط الناس، يكفل فرح البشر من أصغر الإخوة إلى أكبرهم ومن أصغر الأخوات إلى أكبرهن. يقع الرجل بالحياة بالتجربة، جزء من تجربته في كتاب، وقوع في هوى الخيل وفي خطوط المشيب.

العدد 112 / كانون الثاني 2021