غياب شون كونري

لم يقف شون كونري أو جيمس بوند، على الحجر الذي نام عليه. لم يقف على الآداء المسرحي والتلفزيوني والسينمائي، إذ وجده مركوناً في صندوق الحياة. لم يقفز من الولادة ليجد نفسه أحد كبار الممثلين وأشهرهم بالعالم، ذلك أن هذا الفتى الإسكتلندي بحث كثيراً عن العلامات المختلفة ليجدها، بعد أن طفا فوق بحار مهن كثيرة لتأمين لقمة العيش. لا داعي للقول بأن كونري مولود من عائلة فقيرة، لم يجد على أوراقها الأولى في الحياة حرفاً أو نوتة موسيقية. وجد الفتى نفسه في مطحنة لم تأخذه إلى شرب كاسات الشاي في الأوقات المحددة، التقليدية، كما تعودها الإنكليز. إنساب بالكثير من المهن قبل أن يقفز إلى صورته المعروفة بالعالم، من ملمع للتوابيت إلى موديل في كلية الفنون في أدنبرة إلى سائق شاحنة وعامل بناء. أقيم عليه الحَجرُ في هذه المهن، حتى وجد نفسه في مسرحية الجنوب الهادئ بالعام 1955. مذاك، لم يجد خيوط الشعر القليلة في حياته إلا في الآداء الدارمي. تغيرت كامل هيئته حين أدرك أن المهنة هذه مهنته لا أي مهنة أخرى.

شون كونري أو جيمس بوند

لمَّا افتقد الرجل وسادة حياته وجدها على وجه الفجأة في طائرة التمثيل المكدسة بالأسماء. الأمر بالغرب لا كالأمر بالشرق، حيث لا يهم المنتجين أن تلتمع النار في الحضور والكلام. الأمر بالغرب، احتضان المهنة بالموهبة والدراسة والثقافة والوقوف في معادلات الإنتاج الدقيقة، في حضور مدراء الأعمال وآلاف الهاربين من روائح الفقر أو النائمين على سحاب الوصول إلى أطراف اقمار الشهور أو أهلتها. أخذ الرجل مقعده في طائرة لا تحط على مدرج في مسلسل تلفزيوني: ديكسون الأزرق. دراما تلفزيونية ماتت حين شاهدها الجمهور. إلا أن صرخته العنيفة لم تسمع إلا حين رآه العالم قادماً عليها من بعيد في ثياب وأدوات العميل السري الإنكليزي. رجل يحمل رخصة دائمة بقتل أعداء المملكة. لا بأس في أن تستدعيه أنظمة دول أخرى، تخاف من يفجر الإرهابيون اعيادها ومقراتها وناسها السائرين أمنين في الشوارع، بعيداً من صراع أجهزة المخابرات تحت شمس العالم الجماعية، بطرق خفية. لم يحمله عريه أمام طلاب الفنون في جامعة أدنبرة إلى استعراض حضوره على العالم. أخذته إلى العالم شخصية العميل السري، دابل أو سفن، أخذته فوق سطح الماء إلى حلمه الخارق. لم يناسب أحد الشخصية هذه بعد أن تركها كونري مستمتعاً بخوف لعب شخصيات أخرى. بقيت شخصيته. حين استعارها رجال آخرون، روجير مور واحد منهم، لأنها الآخرون من كثرة قدرة كونري عليها بدوا أعداءها أكثر مما بدوا لاعبيها. عصافير بعيدة وضعيفة. هكذا شهدهم الجمهور بالعالم، كلما قارن بين لعبهم ولعب شون كونري لشخصية جيمس بوند. لأن الأخيرة حيوانه الأليف، ما دامت متوحشة مثله وصادمة ولا تمتلك أو تطرح إحتمالات المقارنة. ذلك أن بين كونري والشخصية شخصيته بالحياة. رجل صلب، واجه ستة لصوص حاولوا سرقة معطفه، إلا أنهم لم يستطيعوا. ثم أنه طاردهم واحداً واحداً وانتصر عليهم كما ينتصر جيمس بوند في أفلامه. انتصر عليهم قائد الشاحنة، المنقذ، ملمع التواليت، الموديل. جمع صفات يصبغه بالشراسة والأناقة والجمال وصيحة الحرية المخبؤة فيه.

رفع السير طوماس شون كونري كأس الشخصية، دافعاً العالم إلى الرد برفع الكأس في صحة الشخصية هذه. ناسبت واقعه الحاضر ومستقبله، حيث سيبقى يحتفل بها ما دام العالم في قلب الحرب الباردة بين المنظومة الإشتراكية والعالم الرأسمالي الوحشي. صعب عليه أن يلعب الشخصية إثر انتهاء الصراع بسقوط الإتحاد السوفياتي بضربات تحت الحزام، وجهها النظام الرأسمالي الوحشي والفاتيكان البابوي وبعض دول المنظومة الإشتراكية، من عافت الطعنات في جلودها الصادمة بحجة الصراع وضرورة انتصار النخب السياسية الإشتراكية والماركسية على أوباش الرأسمالية المتوحشة. وبعد أن وجدت أن النهايات السعيدة بعيدة. هكذا، بدت الشخصية كمفتاح مكسور في يد كونري. كما وجدت وقد فقدت وسعها، حين انتهى مشوار السير في جاذبيتها. لأن كونري أحب أن يرى نفسه في أكثر من وجه، بعد أن دفعته الطبيعة إلى الهرب منها، بعد أن بدت كمدينة مصنوعة.

رأى العالم الرأسمالي ظلاله في شخصية العميل السري، من لعب الدور بنشوة حين إكتملت لم يجد بوند بداً من تركه. لأنه لم يرد أن يحتضن نهايتها بعد أن وجدَ فيها في أفلام: أصابع من ذهب، كرة الرعد، الدكتور نو، من روسيا مع الحب، أنت فقط تعيش مرتين، ألماس إلى الأبد. سلسلة شعبية، يراها المثقف والناقد شخصية كيتش إذا ما وضعاها في ضوء قمرهما. وحين أدرك كونري أن بوند راح في رحلة سيره إلى الفراغ تركه في قلبه ليصعد في عقله إلى أدواره الأخرى. أدوار لا تذوب في لحظات الخرافة، كما ذابت شخصية بوند في خرافاتها. ذابت الشخصية في كتلة ضوئها الناعمة الشرسة، بحيث لم تعد ترى إلا بالعيون القديمة، مسرعة في دفع البطل إلى دائرة دفئك الجديدة مع مجموعة من الأفلام السينمائية، ما يوضع بعضها في الوعي الجديد، بعيداً من القوانين والأعراف القديمة. أفلام أصلحت حضوره، بعد أن إستلقى امام أبواب بوند على مدى شموس باردة. الأبرز على ستارة الندى الجديدة  »إسم الوردة« و »صيد أكتوبر الأحمر« و »الصخرة« وعشرات الأفلام الأخرى. من  »من روسيا مع الحب« إلى  »صيد أكتوبر الأحمر« رحلة آداء على قدر كبير من الإثارة. ذلك أن الرجل إمتلك حضوراً لا يرحم وصوتاً تنتظره الآذان بكامل الأشواق. لا تبدو الجوائز قطعاً مثيرة في حياته ولو أنه حاز أعلاها، جائزة الأوسكار عن أفضل دور مساعد في فيلم  »الممنوع لمسهم« بالعام 1988. وجوائز أخرى. ولكي يكتمل حفل الرجل في الحياة اختير بالعام 1989 كأكثر الرجال إثارة على قيد الحياة وهو في الواحد والستين من عمره.

وضع الرجل على خارطة السرداب الطويل للرغبات وهو يطير بلا تردد بين العمل السينمائي والعمل السياسي. لأنه عضو في الحزب القومي الإسكتلندي الداعي إلى استقلال البلاد عن إنكلترا، على الرغم من خدمته في البحرية البريطانية. ولأن الرجل لم يهمه العمق المناسب في إطلاق المواقف، منحته ملكة بريطانيا لقب سير.

لم يبدُ الرجل كالبطة المرحة في مواقفه السياسية، حين راح يتبرع للحزب القومي الإسكتلندي بمبالغ مالية وفيرة، هو المعروف ببخله في حياته الطويلة المدى.

لم تهمه الجوائز، لأنه وجد في بعض الشهادات جوائزه الفعلية، إذ قال فيه سبيلبرغ أنه اسطورة (اشتغل معه في إنديانا جونز) وأشغله هيتشكوك في واحد من أفلامه(مارني) وحين اختاره إيان فليمينغ لكي يلعب دور العميل السري اختار رجلاً يمتلك طعم الكوكتيل المسكر لا صندوق من زجاج ليرى على قدر هائل من الوضوح في الكيانات الكبرى. بموته، يؤكد الموت أن الحفر بالأسنان وحده يقود إلى الخلود.. شخصيتان خالدتان في حياة الرجل: كونري وبوند. جيمس كونري وشون بوند.

العدد 112 / كانون الثاني 2021