أن الجامعة العربية لم تكن سوى صناعة بريطانية استعمارية

كذبة كبيرة تم الترويج لها زمنا طويلا أن الجامعة العربية لم تكن سوى صناعة بريطانية استعمارية !

 السؤال: هل وضع الجامعة تحت المقصلة، يداوي جروحنا، ويضمن لنا السلامة؟

أمين الغفاري

تتعرض جامعة الدول العربية إلى الكثير من الحملات الظالمة، وتحظى بالكثير من المشاعر الغاضبة التى لا تتورع عن تسديد كل السهام الجارحة سواء إلى أمينها العام  على اختلاف اشخاصهم  أو إلى طبيعة وجودها من الأساس ـ باعتبارها صنيعة استعمارية بريطانية لتمرير سياسات تخدم قوى الهيمنة والاستغلال والاستعمار، ثم يمضي الاتهام في الاسترسال إلى كل ما يتوفر عند البعض من طعنات. ليست تلك السطور محاولة للتقليل من عوامل الغضب أو الاستهانة من بعض قراراتها نظرا للمواقف الحرجة التي تتعرض لها، أو تفرض عليها، لا سيما وان الواقع العربي بالفعل مؤلم وسيئ ومزري، والأحداث تفتك بالفعل بأعصابنا، فنغضب ونثور، وغضبنا صادق، وثورتنا مشروعة، ولكن إلى أي مدى يمكن ان يقودنا هذا الغضب؟، والى أي مصير يحتمل ان تدفعنا اليه تلك الثورة؟، ذلك هو السؤال الذي ينبغي ان نتحسب له، ونتمعن في احتمالاته، ولا نصبح كالأطفال حين تثور ثائرتهم يحطمون كل مقتناياتهم وكافة لوازمهم، ثم يعودون للبكاء عليها من جديد بعد تحطيمها. لا أحد ينكر حجم الكوارث التي تحيط بنا، ولا يجادل أحد في مدى حجم التردي الذي وصلت اليه أحوالنا، حيث أن القضية في النهاية ليست في مجرد أن خصما أصبح صديقا، ولكن المأساة الحقيقية تكمن في ان عدوا حقيقيا ـ بحساب الجغرافيا والتاريخ، وبحجم طبيعة القضية ومضمونها،

عمرو موسى الأمين العام الأسبق
يروي في مذكراته الكثير من اجتهادات الأمين العام

وبتقدير مطامعه بل وتصريحاته ـ هناك من أهلنا من أصبح يعده صديقا ان لم يكن حليفا بل وحاميا ان لزم الامر يمكن ان يمده بأسباب المنعة والقوة ان استدعت الظروف وحكمت الوقائع، في مواجهة بعض خصومه من جيرانه، بل والأكثر مدعاة للوهم ذلك الزعم أن عمليات التنمية والبناء سوف تتصاعد، وان ثقافة السلام سوف تزدهر. نتساءل بقدر كبير من الدهشة والبراءة هل نحن في خاتمة الأمر امام كوميديا سوداء، أم اننا بالأحرى في مواجهة مهزلة تبلغ حد الهوان. يتعاظم الأمر، على الجانب الآخر، ممن يرفضون، ويشجبون ويدينون، فنراهم، وحمم الغضب تشتعل في عقولهم، ووجدانهم، إلى حد ان تختلط الأوراق أمام عيونهم، فيعرضون ويدينون الخيط الرقيق الواهي الذي ما زال يربط بين العرب، ويجمع بينهم حتى وان كانت الخلافات تستعر بينهم، والتربص بينهم يشرع كالسكين الماضية ليفرق بينهم، واعني بها الجامعة العربية، التي ما زالت رغم المحن هي الوعاء الجامع والحضن الواقي رغم ضعفها، وهي الوسيلة الوحيدة، لأستنهاض الهمم من جديد، وكسر عوامل العزلة، وجمع الشمل على هدف واحد، وهو الخروج من أزماتنا المتلاحقة، والنظر إلى الأمام بقدر من التصميم والتفاؤل. ان الامة العربية عائلة واحدة، ولا ينبغي تحت أي عذر ان تشرع العائلة بأسرها في عملية انتحار جماعي لأن اعضاء منها قد تنكبوا الطريق أو انتهجوا مسارا يتنافى والمصالح العربية، تحت وهم مصالح شديدة الضيق، ونتائجها بالضرورة عميقة الضرر لمستقبل الأمة العربية كلها، وليس لهم أو للفلسطينيين وحدهم.

كيف نشأت الجامعة..؟

الذين يستندون إلى بيان وزير الخارجية البريطاني (اتوني ايدن) في 29 مايو 1941 الذي قال فيه (ان العالم العربي قد خطا خطوات عظيمة منذ التسوية التي اعقبت الحرب العالمية الماضية ويرجو كثير من مفكري العرب للشعوب العربية درجة من درجات الوحدة اكبر مما تتمتع به الآن، وأن العرب يتطلعون لنيل تأييدنا في مساعيهم نحو الهدف، ولا ينبغي ان نغفل الرد على هذا الطلب من جانب أصدقائنا). في تصريح آخر للسيد (انتوني ايدن) في مجلس العموم البريطاني يوم 24 مارس 1943 يقول فيه (ان الحكومة تنظر بعين العطف إلى كل حركة بين العرب ترمي إلى

الرئيس الأسبق للجزائر هواري بومدين
يحفظ له التاريخ انجازاته في التضامن العرب

تحقيق وحدتهم الثقافية والاقتصادية والسياسية، ولا يخفى ان المبادرة لأي مشروع يجب ان تأتي من جانب العرب).

في اطار هذا السياق، ومن خلال تلك التصريحات تشكلت تلك الفرية أو ألأكذوبة الفاضحة بأن بريطانيا الدولة الاستعمارية هي التي قامت بانشاء الجامعة. في دراسة بالغة الاهمية للمؤرخ الراحل الدكتور يونان لبيب رزق عن موقف بريطانيا من الوحدة العربية يقول (لا تستطيع دولة مهما بلغت درجة هيمنتها السياسية في حقبة تاريخية ما.. ان تخلق شيئا من العدم، فالفكرة العربية كانت موجودة طوال الوقت، بدءا من تأسيس الجمعيات والأحزاب العربية في فترة ما قبل الحرب العالمية الاولى، مرورا بثورة العرب التي استعرت خلالها، وانتهاء بالثورات التي تفجرت ضد القوي الامبريالية، ومن ثم فان بريطانيا كانت تواجه أمرا واقعا أرادت احتواءه). ان المناخ السياسي العربي، بعد انتهاء الحرب العالمية الاولى، وتصفية الامبراطورية العثمانية بعملية التقسيم لولاياتها، جعل الفكرة القومية تأخذ في التصاعد لدي العرب، وكانت ارهاصاتها تتبلور وهي تراود عقل بعض المفكرين، ولعل من المفيد ان نتذكر، ان (محمد علي) مؤسس مصر الحديثة، كانت لديه احلام تجديد الدولة العثمانية إلى حد غزوها، بينما كان ابنه (ابراهيم باشا) وهو قائد جيوشه لديه حلم آخر وهو تكوين الدولة العربية، فقد ادرك تماما طبيعة الأمن العربي ومدى ترابطه، كما ادرك ان أمن مصر تحديدا يرتكز على شمال حلب، خصوصا بعد دخوله للشام، وتفاعله مع شعبها وله تصريح يقول(وددت لو تعرفت ع لى تلك الشرايين التي تحمل دما تركيا في جسدي، لكي انهشها بأسناني، لكي اصبح بدم عربي خالص)، في النهاية كان له مشروع عربي، وان كان هناك على جانب آخر زعماء مصريين كانوا عثمانيين في منطلقاتهم الفكرية مثل مصطفي كامل وحتى احمد عرابي، لم يسع في ثورته للأنفصال عن الدولة العثمانية، حتى وان كان الخليفة العثماني قد نعته بـ(العاصي عرابي ورفاقه البغاة)و قام بمناصرة الخديوي توفيق في مواجهته، الا ان هناك شخصيات مصرية لها مواقعها لدي المصريين مثل طلعت حرب الذي كان منحازا حتى في فكره الاقتصادي إلى الجانب العربي وضرورة الانفتاح عليه، كذلك استاذ الجيل احمد لطفي السيد صاحب مقولة (مصر للمصريين) فقد كان يرددها في مواجهة الانجليز فقط، الا ان توجهه كان عربيا، كما ظهرت شخصيات أخرى عربية، كان لها تأثيرها العميق في تنمية فكرة (العروبه) مثل الدكتور قسطنطين زريق وهو استاذ سوري ومن اشهر دعاة القومية العربية، وساطع الحصري وهو من ابرز دعاة القومية أيضا وهو سوري. على اية حال ظهر اكثر من مشروع على سطح العالم العربي، في فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى. بالأضافة إلى الجانب الفكري كانت هناك أيضا مشروعات عربية محددة، منها المشروع العراقي ويعرف باسم (الهلال الخصيب) وقد اجتهد فيه نوري السعيد، وكان يطمع في ضم سوريا ولبنان وفلسطين والأردن مع العراق تحت قيادة الملك فيصل ثم غازي، وكان هناك المشروع الأردني ويعرف باسم (سوريا الكبري) تحت قيادة الملك عبدالله ويطمع في ضم سوريا ولبنان

المفكر العربي منح الصلح
يقول (الجامعة) بها قصور تكويني وهو النص على الاجماع في القرارولذلك
تسير وفق قاعدة القوافل في الصحراء (سيروا سير أضعفكم)

وفلسطين إلى شرق الاردن. أما السعودية فقد كانت تتطلع إلى توحيد الجزيرة العربية تحت قيادتها. كان الملك فاروق في مصر يمني نفسه أيضا بذلك الأمر، فأطلق لحيته، ولقب بالملك الصالح. كانت الأسر المالكة في مجملها، أزاء حالة تسابق لوراثة الدولة العثمانية بعد سقوط الخلافة، وكان الوازع الذي يحركهم لأتساع سيطرتهم ادراكهم لمدى هشاشة الدولة القطرية، وعدم قدرتها على حماية حدودها، ولذلك بعد استجابة بريطانيا، وقيامها باعلان تأييدها لنوع من الوحدة العربية التى يطمع مفكروها في ذلك، حتى نشطت الحركة بين القيادات العربية لبحث ذلك الأمر. هنا لابد ان نلاحظ ان بريطانيا ايدت، ولكنها لم تبتكر، وسايرت وان لم تبتدع، و انما هي لم تشأ ان تعرقل، أو تعيق، حتى لا تصطدم وذلك لحساباتها في ان تأيد لكي تحتوي، بدلا من ان تعرقل فتعادي.

وبداهة فان مشروعا للوحدة العربية، من شأنه ان يهدد أي قوى استعمارية في المنطقة العربية، وعلى ذلك فان بريطانيا بأرثها الاستعماري الممتد في الارض العربية، لا يمكنها أن تعمل بذاتها على تحقيق مشروع حقيقي للوحدة العربية يمكنه ان يهدد مصالحها على امتداد الارض العربية، وقد رأينا بالفعل في اطار الصحوة القومية الصارخة في الخمسينات والستينات، أن تمت بالفعل مطارة الاستعمار البريطاني في مصر بتحقيق الجلاء، ثم بتأميم قناة السويس، ثم تأييد ثورة اليمن، ومساندة قوى المقاومة في اليمن الجنوبي حتى تم تحقيق الجلاء، وخرجت القوات البريطانية بعد مقاومة عنيفة، ثم ثورة الجزائر واعلانها عام 1954 ومساندة قوى المقاومة حتى تم الجلاء الفرنسي بعد احتلال اكثر من مائة عام.

هل الجامعة العربية مجرد منبر خطابي؟

لم تكن الجامعة مجرد منبر خطابي، ولكنها كانت قوة فاعلة ان توفر لها عنصر الاجماع في القرار العربي، وتوفر لهذا الاجماع آلياته للتنفيذ، ونذكر في اعقاب نكسة يونيو عام 1967، ومؤتمر اللاءت الثلاث في الخرطوم، قول الملك فيصل ملك السعودية في اعقاب خطاب الرئيس عبد الناصر عن ظروف النكسة ومتطلبات الصمود من تكاتف وتآزرأن قال (ان خطاب الرئيس عبد الناصر هو جدول اعمال مؤتمرنا) ثم كانت القرارات التي تدعم المعركة ونذكر للراحل العقيد القذافي، بعد الثورة الليبية سعيه الدائم إلى ضرورة وحتمية (قومية المعركة لأستعادة الأرض المحتله)وقام بالفعل بالتعاقد مع فرنسا على شراء خمسون طائرة ميراج لدعم المعركة، ونذكر للرئيس بومدين أنه طار إلى موسكو في اعقاب النكسة للتعاقد على اسلحة تعوض مافقد طارحا ملايين الجنيهات، وقال بريجنيف السكرتير العام للحزب الشوعي السوفييتي ردا على ذلك (لسنا تجار سلاح) وان كنا على استعداد للتعاون. كانت الجامعة العربية في اطار حركة المد القومي قادرة على بلورة الحلم العربي بالنسبة للقضية الفلسطينية فاحتضنت جهود اقامة كيان فلسطيني يقوم بدوره في التعبيرعن آمال الشعب الفلسطيني في التحرير واستعادة الحقوق المسلوبة، وكانت منظمة التحرير الفلسطينية، وهو تطور بالغ الأهمية في حركة القضية الفلسطينية عام 1964. وكان عمرو موسى الأمين العام للجامعة هو الذي قام بزيارة للعراق في بداية تقلده لموقع الأمين العام لرأب الصدع العربي، وحل القضايا الخلافية في اطار عربي، حتى وان لم تكلل زيارته بالنجاح، ونال هجوما مقزعا من بعض الأنظمة العربية لقيامه بتلك الزيارة لبغداد، وفي اطار ذلك السياق يروي عمرو موسى في الجزء الثاني من مذكراته، وقد نشر منها بعض الفصول أنه تمكن أيضا من تجنيب العراق مغبة نزع الهوية العربية عنه في الدستور الأنتقالي، وقد قام بارسال خطاب يذكر القائمين على الأمر في تلك الفترة أن العراق عضو مؤسس للجامعة العربية، فكيف يمكن نزع العروبة عنه، وقد تم الأجتهاد بصياغات مقترحة للحفاظ على هويته.

الجامعة العربية هي راية العرب

الجامعة العربية رغم طوفان السخرية والمهاترات التي تتناولها هي راية العرب الجامعة الموحدة، واستمرارها حتى الآن أكثر من 75 عاما دليل لالبس فيه أنها تؤدي دورا عظيما في جمع شتات الأمة رغم كل المحن التي مرت بالمنطقة العربية، وتعرضت لها شعوبها. ان قوة الجامعة من قوة نظمها، وضعف الجامعة من ضعف نظمها، فالجامعة العربية كما ذكر الراحل محمود رياض الأمين الأسبق للجامعة الذي قدم استقالته من الأمانة العامة اثر اتفاقيات كامب ديفيد عام 1979 (أن الجامعة مرآة للنظم العربية قوة وضعفا)، ولقد قامت بجوار الجامعة العربية عدة تنظيمات اقليمية اخرى مثل (مجلس التعاون العربي) المؤلف من مصر والعراق واليمن والاردن عام 1989، وعصفت به احداث غزو الكويت عام 1990. ثم (اعلان دمشق) في مارس 1991 كصيغة تحالف تجمع بين مجلس التعاون الخليجي بالأضافة إلى مصر وسوريا ثم طوته الأحداث بعد ان استعرت الخلافات،  أيضا (الاتحاد المغاربي) وضم في عضويته كل من المغرب والجزائر وموريتانيا وتونس وليبيا) عام 1989، وسرعان ما أصيب بقدر من الشلل أزهق حركته، ولم يتبق سوى (مجلس التعاون الخليجي) الذي تأسس عام 1981 ويضم السعودية والامارات والبحرين وسلطنة عمان والكويت وقطر، ويتعرض الآن لعاصفة مدوية تهدد وحدته، بالسلوك القطري الناشز، ويترقب الجميع عقد مصالحة تحفظ له توازنه بديلا لأنهياره. الجامعة وحدها ظلت متماسكة رغم العواصف ان لم تكن المحن التي واجهتها، وما زالت تواجهها، ويرجع ذلك للايمان الحقيقي بأهمية دورها، رغم كل المثالب التي تحيط بها، ورغم كل عوامل الوهن والضعف التي تعتصرها. ان بقاءها يمثل الحدود الدنيا من الأمان وهي تتطلب من الجميع ان يسعوا إلى تجديد ميثاقها بما يضمن لها انطلاقة اكبر، بدلا من السخرية منها ومحاولات وأدها. انها راية العرب الجامعة الموحدة، وان سقطت الراية، فهو اعلان صريح عن كبرى نكبات الأمة، فهي الراية الموحدة.

الجامعة العربية مرآة للنظام العربي قوة وضعفا

وهي أيضا ما زالت السياج المانع من الانهيار

العدد 112 / كانون الثاني 2021