ذاكرة السينما 5

إيرمانو اولمي

»المجهول« الفائز بالسعف الذهبي يأخذ الفلاحين في رحلة العمر!

سيدني ـ جاد الحاج

قلة يعرفون إيرمانو أولمي خارج ايطاليا. عرضت الصالات الأميركية افلامه في مهرجانات ومناسبات عملياً لا مفر منها، لكن بعيداً من الصالات الكبرى، حتى بعد فوزه بالسعف الذهبي في كانّ عن  »شجرة قباقيب الخشب« سنة 1978.

ثلاث ساعات تمرّ مثل براق يخطفنا إلى مزرعة من نهايات القرن التاسع عشر بُنيت خصيصاً لأربع عائلات

ايرمانو اولمي

لومباردية من شمال إيطاليا. كلهم فلاحون حقيقيون، زرعوا الذرة وحصدوها. أنجبت نساؤهم مواليد إضافية. غنّوا وأولموا وذبحوا الدواجن، وتشاجروا وصلّوا واحبوا وتزوجوا، حتى لم يعد بين السينما والحياة فوارق قابلة للفصل.

بعد قداس الأحد يقول الكاهن لباتيستي إن إبنه مينيك مؤهل للمعرفة وان الإرادة الربانية تقضي بإرساله إلى المدرسة، وباتيستي فلاح إبن فلاح، اباً عن جدود لم يطأ احدهم عتبة مدرسة، يعني سيخسر يداً عاملة هو بأمس الحاجة اليها، فزوجته حامل وفي الأفق مولود جديد، مع هذا تراه يذعن، ويذعن الإبن أيضاً فيرتدي أسماله الكالحة ويشد السير ستة كيلومترات كل يوم إلى مدرسة البلدة. لا الريح ولا المطر ولا الضباب تنتزع منه نأمة، حتى عندما تتقطع فردة قبقابه الخشبي ويتأخر في العودة عارجاً، لا يبدو منهاراً أو مكدوداً، لا يبكي ولا يشكو، بل يقف صامتاً امام الباب محدقاً في قدميه العاريتين. تناديه امه كي يأتي لرؤية اخيه الوليد. يأخذه أبوه في ذراعيه هامساً ألا يأتي على سيرة القبقاب، فلا يجوز إحباط الوالدة بعد المخاض والوضع.

 تلك الليلة نرى باتيستي يقتحم الغابة بفأسه بحثاً عما يزيل العائق بين إبنه والمعرفة، ناسياً أو متجاهلاً نتائج قطعه شجيرة من أرض صاحب المزرعة لينحت من جذعها فردة قبقاب، ناجز اليقين ألا أمل لابناء الفقراء إلا بالعلم مهما كان الثمن. لسوء حظه يكتشف الاقطاعي، صاحب الأرض والمزرعة، أن باتيستي قطع شجيرة ليصنع لابنه من جذعها قبقاباً… فيعاقبه بالطرد من المزرعة مع عائلته.

صوّر أولمي رحيل الأسرة بهدوء لا تشوبه سوى طقطقة حوافر حصان منهك غير مستعد لمواجهة رحلة طويلة. وقد ذاب البطل الصغير في بوتقة والديه واخوته لئلا يؤدي التركيز عليه إلى ميلودراما تستدر الشفقة السهلة، لكن هذا التغريب يشدنا إلى مينيك أكثر فأكثر. وفي برهة خاطفة، قبل انطلاق العربة، كان عنق مينيك يلوي عنقه على مهل نحو الأفق الضبابي الدامس وكانت عيناه عابقتين بالدمع والخوف.

كيف استطاع أولمي أن يستنبط من صبي لم يبلغ الخامسة تعبير وجهه لحظة اقتلاعه من المزرعة ؟ كيف زوّد ذلك الوجه البريء بمشاعر متلاطمة في برهة لا تتعدى الثواني؟ هل كان مينيك يشعر بالندم أو بالذنب لأن عائلته ستتشرد بسبب قبقابه أم كان مرتعداً مما ينتظره وراء أفق مدلهمّ ؟ الأطفال يهابون الآتي لأنه ينتزعهم مما تعودوه، وحين لا يتبينون ملامحه يصيبهم هلع من يسير على حافة في الظلام. سكون ضاغط سيطر على الفجر. بقيت العائلات الأخرى على الحياد مما يحصل لباتيستي واسرته. اعترفوا بأن الحكم على العائلة برمتها جائر خصوصاً بوجود طفل وليد لتوّه، لكن لا وداع ولا صرة طعام للطريق. فالفقير يصبح معدماً حين يوصد باب رزقه، بل يمحى، ولا يراه حتى جيرانه.

 لكن من القادر على مواجهة الإقطاع والكلّ غارقون في المستنقع نفسه؟ الأرملة الغسّالة تمضي نهارها على ضفة النهر تغسل ملابس الناس وشراشفهم، عندها بقرة حلوب تسند مورد رزقها وتطعم أسرتها. وذات صباح جاءت ابنتها البكر إلى النهر وصاحت مقطوعة الأنفاس:  »أمي البقرة لا تنهض ولا تأكل«. هُرعت الأرملة إلى الإسطبل تاركة ما بيديها لتجد بقرتها رابضة لا تقوى على الوقوف. حاولت محاكاتها. مسحت وجهها بالماء. توسلتها أن تنهض… من دون جدوى. ثم جاء البيطري ونصح بذبح البقرة لعلها تفيد العائلة بلحمها قبل أن تنفق، لكن الأرملة عاندت وأخذت زجاجة ملأتها بماء الجدول وهرولت إلى الكنيسة حيث حمّلت المصلوب مسؤولية رزقها، وباركت الماء وعادت إلى الإسطبل وبللت به فم البقرة. وفي الصباح التالي وقفت البقرة وبدأت تأكل. بعد تلك المعجزة عادت الغسالة إلى النهر، وسلّمت صغيريها مهمة توضيب الشراشف وتسليمها إلى اصحابها. لم يعد في طاقتها الشاحبة ان تلتفت إلى أحد سوى اسرتها والحلوب العائدة من الموت.

افقر عائلات المزرعة أقربها إلى الورع. تشارك قليلها مع الأفقر منها. يزورها قبيل العشاء متسوّل جوّال. يرحبون به. وعلى نور الشموع في قبوهم الداكن يضطربون لأن ما لديهم بالكاد يكفيهم، لكن لا بد من عطاء مهما كان ضئيلاً. في النهاية ينضم الزائر إلى صلاتهم وطعامهم ويحصل على  »زوّادة« لدروبه المقبلة.  »لا يحن على العود إلا قشرته« بحسب امثالنا القديمة.

مادالينا وستيفانو في ربيع العمر. ستيفانو يتبعها من بعيد بين اشجار الحور. تشعر باقترابه لكنها لا تغيّر سرعتها ولا تلتفت. وهو حذر الا يزعجها لكنه لا يستطيع البقاء صامتاً. تقف مادالينا عندما يقترب منها ستيفانو. يطول الصمت قليلاً. ثم يطلب ستيفانو منها قبلة.

 كل شيء في وقته، تقول مادالينا بهدوء وثقة.

مفاده ان القبلة جاهزة لكن في المناسَبة المناسِبة.

وتجتمع العائلتان. لا علاقة مباشرة للكلام الدائر بين الحاضرين وبين موضوع الزيارة. لكن الفرح القريب يخفف تجاعيد الوجوه المتعبة. هنا يقصد اولمي تنشيط مخيلتنا كي نتورط أكثر فأكثر في ذلك العالم البدائي العذب. فالاجتماع واضح القصد، محسوم النتيجة، وسوف يتأكد المشاهد أن العقد الزوجي حاصل بلا شك. لكن اولمي ارادنا ان نلج إلى انسجام اجتماعي بسيط يعيشه اولئك الفلاحون في منأى عما يجري في إيطاليا الثائرة آنذاك.

واكب اولمي الحراك السياسي والتغيرات الإجتماعية في ايطاليا وانصرف في بداياته إلى التوثيق السينمائي. حقق سلسلة أشرطة عن بلاده بعد الحرب العالمية الثانية. بلاد مبعثرة، لكن أولمي اخترقها وفسرها في بساطة يفهمها المواطن العادي بلا جهد يذكر. خلفيته الفلاحية جعلته ينظر إلى العالم، لا من خلال اعتزازه بفرادة المثقف، بل عبر شغفه بالعمل مع الآخرين. مزارعون وفلاحون ورعاة، مثله يزدرون المبيدات الكيميائية، يزرعون بحسب اطوار القمر، وبالصلاة يشكرون السماء على حصادهم. ولعل الغرابة الوحيدة في افلامه كونها صنو الواقع إلى حد صعوبة الفصل بينهما. بل يصح القول ان  »الواقعية الجديدة« في السينما الأوروبية لم تعرف تماهياً مع الواقع بمستوى ما انتج اولمي.

سنة 1959 صوّر اولمي شريطا وثائقياً عن صيانة سدود ضخمة انشأتها شركة  »إديسون ولتا« على قمم جرداء في الشمال الإيطالي، هناك حيث يفقد الزمن انسيابه ويغدو مفلساً، أجدب في برد الخلاء وصلف الوحشة. صحيح ان اولمي طالما وجد في الطبيعة لغة عضوية لا غنى عنها، لكنه لم يكتشف من قبل مدى مؤثرات المحيط الطبيعي على حياة البشر كما عكسها امامه ذلك الجرد القصيّ. إثر انتهائه من تصوير الوثائقي نقل عدسته إلى الإبداع في المكان نفسه. وجاءت النتيجة فيلم مميز عنوانه  »الزمن يتوقف«: قصة صداقة بين حارس كهل وحارس فتى يسهران على صيانة السدود. حواراتهما مقتضبة. فتراتها الطويلة الصامتة سديم ساكن سكون الأزل يؤنسنه وجودهما في انسجامٍ طبع سينما التقشف الشفيف التي عرفتها اعمال اولمي بلاحقاً. ممثلوه اشخاص عاديون غير مشهورين، ادّوا ادوارهم بلا مؤثرات مصنعة أو ديكورات خلابة. وهو يكتب المشاهد وحواراتها على قصاصات ويحملها إلى مكان التصوير حيث يحادث الجميع، يستمع اليهم، يناقشهم، ويأخذ الوقت الكافي للتحقق من جهوزيتهم قبل ان يلجأ إلى الكاميرا. ثانية بثانية يتجاوب مع تحولات المشاهد واداءات المؤدين. لا يتشبث إلا بالخطوط العريضة، ويفاجىء نفسه اكثر مما يفاجىء من تعودوا العمل معه. ولعل المستغرب عموماً ان أولمي لم يحتفظ باشرطة فيديو عن افلامه أو بلقطات من مراحل تصويرها، ولا باسطوانات مدمجة عنها:  »كل حياتي ليست للسينما بل للحياة نفسها« عبارة طالما احب إيرمانو تكرارها.

 بعد عرض  »شجرة القباقيب الخشبية« سألته:

لماذا تصرّ على تصوير افلامك بنفسك؟

أن تسلّم عينك إلى شخص لم يتخيّل فيلمك ولم يبتكر شخصياته، كأنك فتى يتودد إلى فتاة بقوله: احبك – لكن صديقي سيبقبّلك نيابة عني! لا، لا يتم تصوير الروح إلا عبر اقصى القرب من الحياة. وانا اعتقد ان الروح الموجودة في اصغر المخلوقات جديرة باهتمامنا وهي لا تقل روحاً عن ارواحنا، كذلك الروح التي تبعث الحياة في الطبيعة. فالشجرة الإصطناعية في الستوديو محدودة التعبير لأنها بلا روح، بعكس الشجرة الحقيقية في الغابة أو في الحديقة. ولو كررنا اللقطة الواحدة مئة مرة تبقى الشجرة الإصطناعية نفسها ضمن الإضاءة المخطط لها وما توحي به لا يتغير، اما الشجرة الحقيقية في محيطها الحيّ فتغدق على كل لقطة نوراً وإيحاءات مستجدة.

ودائماً ممثلوك غير حرفيين؟

 معظم الاوقات، نعم. خذ مزارعاً يقوم بدور مزارع. ممتلىء سلفاً بجينات التربة والنبات وذاكرة الفصول. لغة جسمه تنطق باصالته فيبدو حيّاً في مكانه الطبيعي ولو تغيّر اسمه وتغيرت حكايته في السينما. مثل هؤلاء يمصلون افلامي بحضور ينبض خلجات صادقة لا يمكن تقليدها، أو تمثيلها. وانا لم اشعر بمثلها لدى محترفي التمثيل.

 »السكير البارّ«

عندما غدره المرض إبان تحضيره فيلم  »اسطورة السكير البارّ« سنة 1987 اضطرّ اولمي للبحث عن ممثل محترف. يومها اوقف التفتيش عن سكّير حقيقي واختار الممثل الهولندي روتغير هوور: اشقر. أزرق العينين. طويل القامة. طبيعته المتمردة علمته الخروج من جلدٍ والدخول في آخر بسليقة الحرباء وحنكة الثعلب. كان في الخامسة عشرة من عمره عندما ترك المدرسة ليعمل على باخرة شحن. أحب البحر وتمنى البقاء جوالاً فيه لولا أنه ورث عن جده عمى الألوان، مما حدّ من طموحه البحري. لدى عودته على باخرة الشحن الحقه والداه بمدرسة ليلية ووجدا له عملاً في مشاريع الإعمار. لكنه لم يثبت في المهمتين، فارسلاه إلى معهد للتمثيل حيث امضى وقته متسكعاً في شوارع امستردام ومقاهيها يكتب الشعر ويلقيه على الناس. مرة ثانية حاول العودة إلى البحر من الباب العسكري حيث ما لبث ان نَفَر وادعى الجنون. لكن الجيش لم يسرّحه على الفور، بل أودعه مصحاً للامراض العقلية عانى فيه الأمرّين حتى اقنعهم اخيراً  »بعدم حاجة البحرية إلى خدماتي«. تجربته الفنية المستقلة ومراحل حياته المتنوعة واتقانه فن الإيماء شكلت دوافع قوية لدى أولمي لاختياره في حكاية شريد مخمور مستوحاة من رواية النمساوي جوزف روث.

 سكّير متسكع في باريس يستدين مبلغاً من المال من رجل غريب ويعده برد المبلغ إلى كنيسة معينة. لكن لحاجته الماسة إلى الكحول يخفق السكير مرة بعد مرة في تحقيق رغبة المانح. حاز الفيلم جائزة الأسد الذهبي في مهرجان البندقية سنة 1988 واعتبره معظم النقاد ممتازاً لناحية الأمانة الأدبية واللياقة المرهفة في الإخراج.

الوظيفة

بعد سنتين شكل فيلم  »الوظيفة« نقلة حاسمة في مسيرة اولمي. وقد بدأ يستمد من تجاربه التوثيقية دافعاً معنوياً نحو التصدي للواقع مباشرة:

حصان عجوز يجر عربة متهالكة في وسط ميلانو، يسير خلفهما إنريكو، ابن الثامنة عشرة، مهندم، حليق، متوكل على صلوات امه ورغبته الصافية بتحقيق املها بــ  »وظيفة تدوم مدى الحياة«… عبارة سمعتها أجيال عبر أوروبا، بل عبر العالم كله بعد الحرب العالمية الثانية وانتعاش الثورة الصناعية. قبلها كان الولد المحظوظ يكمل دراسته متخصصاً في حرفة أومهنة ترفع مستوى دخله وشأنه الاجتماعي، أو يرث مِهنة اهله ويكمل طريقاَ تعود إلى مئات السنين. غير ان نشوء الشركات والمؤسسات الانتاجية الكبرى استنسل وظائف ومهمات جديدة تماماً. وقد الغى التقدم الآلي أيدي البشر وبالتالي طعن علاقتهم بالارض، فاصابهم الذعر حيال المستقبل ودفعهم إلى حث اولادهم على الالتحاق بقطار الواقع المستجد.

 تمضي العربة، رمز الماضي، بحملها المترهل وحصانها الكهل إلى غير رجعة، وينجح إنريكو في الحصول على الدرع الواقي من العوز والتشرد، منخرطاً في الكون الميكانيكي البارد. نراه يجول طويلاً تائه النفس في اروقة معقمة قبل ان يحصل على مكتب ضئيل، يقبع خلفه كزغلول في سلة، وتزدحم حوله الملفات والرفوف وهدير الآلات وصفيرها. لكنه يحتمل ويتحمل حتى يغرق تماماً في الإنضواء الصاغر، لا عن رضى، ولا عن شغف، بل على اساس  »إن لم يكن ما تريد فأرد ما يكون« وإلا فإلى البطالة ونوم الحصير.. لن نعرف ابداً أي طموح دفن انريكو في صدره ولا مصير مستقبله في تلك الوظيفة، وليس في الشريط ما يشير إلى انه سيلتقي من جديد بفتاة اعجبته وجاءت مثله من الريف لـ »تأمين مستقبلها«. كل ما نعرفه ان إنريكو سوف تبتلعه الآلة الفارمة المليئة بامثاله ممن سيمضون حياتهم في غيبوبة مدفوعة الأجر حتى التقاعد. وتقودنا الوقائع الموصوفة في الشريط إلى سؤال لا مفرّ منه: هل اجهز عالم الآلة على تواصل الانسان بالأرض إلى غير رجعة؟

 لن يتسع المجال هنا لتعداد بقية اعمال اولمي السينمائية والمسلسلة للتلفزيون، الا ان اعتباره احد اعمدة الواقعية الجديدة نتفق عليه مع مارتن سكورسيزي الذي اختاره في طليعة مخرجي ايطاليا لفترة تجاوزت ستة عقود من الزمن. توفي اولمي عن 87 سنة في احد مستشفيات الشمال الإيطالي.

العدد 112 / كانون الثاني 2021