بايدن رئيسا لبلد منقسم والعالم ينتظر ترتيبا عاجلا للملفات الساخنة

فشل ترامب.. فهل سقطت الترامبية؟

محمد قواص (*)

تابع العالم كما الأميركيين مخاض الانتخابات الرئاسية الأخيرة في الولايات المتحدة. بدا أن الولادة عصية، وأن المجتمع الأميركي منقسم على نحو حاد غير مسبوق في تاريخ البلادج منذ انتهاء الحرب الأهلية. السجال لم يكن بين محافظين وليبراليين ولا بين يسار ويمين، بل اندلع حول هوية وطبيعة ووظيفة الولايات المتحدة. كثير من المراقبين تخوفوا من حرب أهلية جديدة. وكثيرة هي التقارية الإخبارية المحلية والأجنبية التي تناولت ظاهرة الميليشيا المدججة بالسلاح والتي باتت تظهر علنا متباهية مهددة موحية بعظائم الأمور. عاش الأميركيون بقلق ووجع عملية إخراج صعبة لدونالد ترامب من البيت الأبيض وعملية إدخال الساكن الجديد، جو بايرن، إليه.

ترامب: رئيس من خارج المؤسسات

قبل أربع سنوات، عشية الانتخابات الرئاسية الأميركية عام 2016، التقيت في واشنطن أحد الباحثين الأميركيين ممن عملوا في وزارة الخارجية مساعدا لهيلاري كلينتون. كان الرجل شديد اليقين، شأنه شأن استطلاعات الرأي آنذاك، بفوز المرشحة الديمقراطية، وبالتالي كان يتحدث عن علاقات بلاده مع إيران بناء على هذا المعطى. أفاض الباحث كثيرا في الحديث عن خطط أعدتها إدارة كلينتون المقبلة لإضعاف طهران وشل نفوذها الإقليمي وإجبارها على احترام قواعد السياسة الدولية. ونذكر أن طهران تنفست الصعداء كثيرا حين فشلت هيلاري كلينتون.

لماذا صوت أكثر من 74 مليونا لترامب

الرجل، كما هيلاري كلينتون، ابن المؤسسة الأميركية التي كانت، حتى في السنوات الأخيرة لعهد باراك أوباما، مستاءة مما وفره الاتفاق النووي لإيران من قوة، وترتب خطة طريق للانقلاب على الأعراض الجانبية المرفوضة التي أظهرتها طهران مستفيدة من صفقتها مع مجموعة الـ 5+1 عام 20015.

لم يكن انسحاب دونالد ترامب من الاتفاق النووي نتاج ذائقة شخصية لرجل العقارات المترجل داخل ملاعب السياسة. لم يكن قرار الرجل إلا صدى لما تفرضه مصالح الولايات المتحدة وفق ما تخطه مؤسسات الدولة الأميركية العميقة. وكان واضحاً أن ترامب، الذي يُخيل أنه صانع السياسات، يسير على خط ترسمه الإدارة، على نحو يجعله يُصلح، في دقائق، زلات ارتكبها في الإعلان عن الانسحاب الكامل من سوريا مثلا، فيتراجع عن الأمر انصياعا لمؤسسات الأمن والعسكر في بلاده.

لم يكن ترامب يهمه أن يصنع التاريخ ولا هو أساسا يملك كفاءة تلك الصناعة. خاض رجل العقارات مغامرة الرئاسيات قبل أربع سنوات بصفتها تمرينا مسليا يشبه ذلك الذي يمارسه في برامجه التلفزيونية، فإذا ما نجح فالأمر صفقة من صفقاته الرابحة، وإذا ما خسر فالأمر صفقة خاسرة من صفقات كثيرة خسرها في حياته. وقد أظهر الرجل من الشعبوية والسطحية والعبثية، ما جعل ترشحه عراضة مقيتة مقززة تحمَّلها الحزب الجمهوري كقدر غير مُقنع لا بديل عنه، ونظر إليه الديمقراطيون ومرشحتهم كنكتة سمجة تسهل إزاحتها. ترامب نفسه فوجئ قبل خصومه وأصبح رئيسا لأميركا.

قدم ترامب في حملته الانتخابية الأولى خطابا عنصريا يمينيا متطرفا محشوا بشعبوية مفرطة تكاد تكون مضحكة على سبيل  »شر البلية ما يضحك«. ولأنه من غير الحكمة تغيير حصان رابح، بقي ترامب ممتطيا حصانه الرابح.

مارس الرجل السياسة في البيت الأبيض بصفتها حملة انتخابية دائمة تحضيرا للانتخابات الرئاسية الأخيرة. في ذلك أن مشاداته مع كندا والمكسيك، كما مع أوروبا والأطلسي استدرجت البهرجة والفرجة اللتين من شأنهما مخاطبة كتلته الانتخابية. وحتى في موضوع إيران والسلم في الشرق الأوسط وصفقة القرن، بقيت تلك الملفات داخل سياقات لا تشكل انقلابا لا يمكن الرجعة عنه، لكنها تضيف مشاهد تباهٍ وبطولة يتبجح بها أمام ناخبيه. فهل ما وعد به بالنسبة لكوريا الشمالية، مثلا، يتعدى صورة جمعته مع كيم جونغ أون؟

الظاهرة الشعبوية

ليس صحيحا أن هناك من سيأسف على هزيمة دونالد ترامب. حتى من اعتبره في العالم حليفا لم يؤمن به قيمة مستقرة في الولايات المتحدة ومستقبل العلاقات معها. تعامل العالم، الحلفاء والخصوم، مع ترامب بصفته أمرا واقعا، وكان سيتعامل معه مرة أخرى كأمر واقع لو انتخب مرة أخرى، بانتظار أن تستعيد الولايات المتحدة رشدها وتصلح خطأ عام 2016.

أميركا التي استفاقت قبل أربع سنوات مصعوقة بفوز دونالد ترامب بالرئاسة، اعتبرت الأمر نزوة عرضية في تاريخها. غير أنه يسجل لترامب أنه، وعلى هدى عقيدة جوزيف غوبلز  »أكذب ثم أكذب حتى يصدقك الناس«، تمكن من اقناع أنصاره أنه ليس نزوة عابرة، بل حقيقة زحف أكثر من 70 مليونا للتصويت لها في الانتخابات الأخيرة مسجلين رقما قياسيا تاريخيا في عدد من يصوت لرئيس مرشح في تاريخ البلاد. والحقيقة أن ترامب لم يصنع تلك

بايدن: مصالحة داخلية ومصالحة أميركا مع العالم

الملايين، بل أنها كانت موجودة داخل المجتمع الأميركي تنهل عقائدها من تاريخ عنصري معطوف على مظلومية طبقية سهل قطافها وكانت تنتظر قاطفها. تلك الكتلة خجلت من الظهور في عهود اوباما وكلينتون وبوش الاب والابن وحتى في عهد ريغان، وانتعشت من جديد بوقاحة في عهد تاجر العقارات.

بالمقابل استفاقت أميركا من جديد، وعملت ليل نهار، ومن خلال كل ولاية ومدينة وحيّ، على الإطاحة بالإكذوبة، ومنح جو بايدن أكثر من 80 مليون صوتا حطموا الرقم القياسي التاريخي لأي مرشح في تاريخ الولايات المتحدة.

نعت ترامب منافسه بـ  »جو النعسان«. صوتت أميركا لـ  »النعسان«، وكانت ستصوت لأي نعسان آخر تخلصا من كابوس ايقظ انحرافات عنصرية متقادمة لطالما كانت سوداء في تاريخ البلاد.

والحال أنه ليس صحيحا أن هناك ترامبية. هناك دونالد ترامب بحيث تغيب أي ترامبية بغيابه. فمشواره لم ينبنِ على نهج واستراتيجية، بل على ارتجال ونزق ومزاج وعدم توقع على نحو لا يؤسس لعقيدة يمكن أن تسمى ترامبية.

في العالم من سيحب بايدن ومن سيكون حذرا منه. لكن العالم سيصبح أكثر عقلانية، سلبا أو إيجابا، في بناء تحالفاته وشق خطوط مواجهاته، على نحو يعيد للعقل مكانه في عالم كانت تربكه أزمة اللاعقل في رأس السلطة في دولة هي زعيمة هذا العالم.

حدث التحول الكبير في أميركا حين انتخبت عام 2009 باراك أوباما رئيسا أسود للولايات المتحدة. أكد البلد هذا التحول حين أعاد انتخابه لولاية ثانية. والظاهر أن هذا التحول حقيقي أصيل إلى درجة أن تهتز مناعة الجسد الأميركي بأعراض جانبية أتت بدونالد ترامب كردة فعل لا فعل. أعادت أميركا تأكيد هذا تحول 2009، بانتخاب الكاثوليكي جو بايدن وإلى جانبه كمالا هاريس، أول إمرأة من أصول أفريقية آسيوية في منصب نائب الرئيس. لن يعرف معنى هذا التحول إلا من عرف ويعرف أميركا جيدا.

ملايين ترامب القياسية

استمر الجدل القانوني حتى الرمق الأخير قبل إصدار النسخة الرسمية النهائية لنتائج الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة، وفيما يتأمل البعض الرقم القياسي التاريخي الذي حققه المرشح الديمقراطي جو بايدن بمستوى وصل إلى أكثر من 80 مليون صوت، وهو مستوى لم يحققه أي مرشح في تاريخ البلاد، تنهمك التحليلات في محاولة لتفسير حصول الرئيس المرشح دونالد ترامب على أكثر من 74 مليون صوت، وهو أيضا مستوى تاريخي لم يسبق أن حققه رئيس مرشح في تاريخ الولايات المتحدة.

تكال الاتهامات ضد ترامب بسوء تقدير خطورة  »الفيروس الصيني« وباهمال اتخاذ إجراءات جدية مبكرة تليق بدولة كبرى كالولايات المتحدة. لا بل ذهب الرئيس الأميركي إلى السخرية من الفيروس (حتى حين نال منه شخصيا) ومن قدرته على النيل من  »أميركا العظيمة«. وبات عدم ارتداء الكمامة من طقوس القوة بالنسبة له ولأنصاره في البلاد.

بطش كوفيد-19 بأميركا فقضى على ربع مليون مخلفا أقسى النتائج الكارثية لتلك الجائحة في العالم. أساء ترامب وإدارته إدارة الأزمة والتعامل معها، وبدا أن هذا الهراء كان وراء الكارثة في أميركا. ومع ذلك صوت 71 مليونا لترامب مجددا.

في التفسير العاجل أن دونالد ترامب الذي فاز في انتخابات 2016 على نحو غير متوقع، استطاع خلال السنوات الأربع الماضي تحويل الصدفة إلى واقع يراد له أن يكون دائما يستحق أربع سنوات أخرى، فأضاف إلى رصيده أكثر من 10 ملايين ناخب جديد (حوالي 63 مليونا صوتوا لترامب عام 2016). في بعض ما كتب استغراب من أن تذهب هذه الملايين لانتخاب رئيس لم يخف عنصرية ولا صلفا ولا سخرية من النساء أو أصحاب العاهات، ولم يخف غطرسة وغرورا ونرجسية وزعما متخيلا بالقوة. وفي بعض ما كتب أيضا دعوة إلى فهم هذه الملايين التي لم تصوت لترامب بالرغم من ذلك، بل لأنه كذلك.

باتت أميركا نفسها تدرك حدة الانقسام المجتمعي الذي كشفته الانتخابات الأخيرة. ربما أن الأمر كان سيكون أسهل لو أن أحد الفائزين حقق تسونامي، فيما أن ما نتج عن هذه الانتخابات هو أن أميركا شهدت حالتي تسونامي أحدثتا زلزالا في بنية المجتمع الأميركي وأعادتا إليه وجع الانقسام الأليم المتناسل من حرب أهلية قديمة. وفي ذلك أن الحزب الديمقراطي ومرشحه الفائز جو بايدن يقفان أمام حقيقة أن كتلة فوز من 80 مليونا تفرض الأخذ الجيد بالاعتبار كتلة مضادة من 74 مليونا وجب فهمها، وقد يكون ذلك صعبا وعسيرا.

أميركا تخاف اليسار

ما يجعل التفسير معقداً هو أن الكتلة الناخبة لترامب ليست بالضرورة عنصرية كارهة للسود والأجانب وتنهل حوافزها الانتخابية من عقائد يمينية متطرفة أو إنجيلية متعصبة. أعداد كبيرة من ناخبي ترامب هم مواطنون صالحون وجدوا في خطاب ترامب، على شعبويته، ملاذا يقيهم خطابا مضادا يعد بحُقنٍ من الليبرالية الأخلاقية تهدد أسوار المحافظة الأخلاقية التي لطالما التصقت بقيم الحزب الجمهوري. وفي ذلك أن  »السمعة« اليسارية التي نفخها بيرني سندرز في دعمه الأكيد لبايدن (شيء لم يفعله مع هيلاري كلينتون)، سهّل لحملة ترامب الترويج لشيوعية اشتراكية زاحفة على البلاد وجب دعم جدار ترامب لصدّها. وبدا أن شعبويتين، يسارية ويمينية، يملآن أي فراغ.

ربما كتلة ترامب المليونية الناخبة قد تستدعي أن لا يقلق بايدن من احتمال احتفاظ الجمهوريين بالأغلبية في مجلس الشيوخ (بانتظار الفرعية المزدوجة في ولاية جورجيا في 5 يناير المقبل). لن تقوى أميركا المنقسمة أن يخضع بايدن الرئيس للتيار اليساري المتشدد داخل الحزب الديمقراطي، وبالتالي سيستند الرئيس الديمقراطي على واقع الأغلبية الجمهورية المحتملة في الكونغرس لكي يواجه لوبي ساندرز ودوائره.

والواضح أن بايدن، الذي يدخل البيت الأبيض محمولا بتصويت شعبي تاريخي غير مسبوق، رأى جيدا ملايين ترامب القياسية أيضا. توجه إلى أميركا متحدثا إلى كل الأميركيين، خصوصا الذين لم يصوتوا له، في محاولة لمقاربةٍ فطنةٍ لنصف شعب الولايات المتحدة الذي ما زال يعتبر أن دونالد ترامب رئيسا جيدا يستحق ولاية أخرى في البيت الأبيض.

على أن ترامب، الذي بالغ في عناده في رفض قبول الأمر الواقع الجديد، بات رقما صعبا داخل الحزب الجمهوري. لا تستطيع أركان الحزب إلا الاعتراف بقوة قاعدة الرجل الشعبية، والإقرار بأن لا بدائل أخرى غير ذلك الحصان الذي أتى من خارج الحزب وخارج المؤسسات السياسية ودخل البيت الأبيض في انتخابات 2016 مطيحا بكل المرشحين الجمهوريين، قبل أن يطيح بالمرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون.

وإذا ما كان ترامب سيدخل خلال الأربع سنوات المقبلة في حملة انتخابية يومية تمهيدا لليوم الكبير في نوفمبر 2024، فإن أمام جو بايدن وكمالا هاريس والحزب الديمقراطي كثيرا من العمل الدؤوب للمحافظة على القفزة التي تحققت داخل الكتلة الأميركية الناخبة، والكثير الكثير من العمل الخلاق لمقاربة كتلة أميركية هائلة ارتضت دونالد ترامب زعيما لها وتوده زعيما لأميركا.

مصير صفقة القرن

من حق الفلسطينيين أن يتحدثوا عن فاجعةٍ أصابتهم بسبب الخياراتِ القاسية غير المسبوقة التي انتهجَها الرئيس الأميركي دونالد ترامب وإدارته حيال قضيتِهم. بتوقيعٍ بسيط صادَرَ سيد البيت الأبيض حلمَهم بإقامة دولة فلسطينية على حدودِ عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية. بتوقيعٍ بسيط نفذ ترامب قرارا صادرا عن الكونغرس الأميركي عام 1995 لم يُنفذه أي رئيسٍ سابق مذاك، فاعترف، هو دون غيره، بالقدس عاصمة لإسرائيل وأمر بنقل السفارة الأميركية إلى هناك.

لم يكتف ترامب بذلك بل صدّع رؤوس المنطقة بصفقةِ قرن موعودة كلف فريقا برئاسة صهره جاريد كوشنر وضع خرائِطها. وحين أفرج الصهر عن تفاصيل فعلته قدّم للفلسطينيين أراض مبتورة مجزأة مقطعة على نحو لا يشبه وطنا لطالما ارتضوه بديلا عن وطنهم التاريخي الكبير.

بدا أن إدارة ترامب ترسم خرائط إسرائيل وربما خرائط بنيامين نتنياهو شخصيا. الانتخاباتُ الرئاسية الأميركية أطاحت بدونالد ترامب، وأطاحت طبعا بفريق صهره، وبالتالي أعادت عقارب كثيرة إلى الوراء. جو بايدن الذي انتُخب رئيسا أدلى بأعراضٍ أخرى تَعِدُ بقراءة أخرى، وربما معاكسة بديلة لقراءة ترامب وصحبة. يعرف الفلسطينيون جيدا أن الانحياز الأميركي لإسرائيل كاملٌ أيا كانت الإدارة في البيت الأبيض، لكنهم باتوا ربما يرون أن لا شيء سيكون أسوء مما عرفوه في عهد ترامب. بايدن يتحدثُ عن إعادة الوصل مع القيادة الفلسطينية وإعادةِ فتحِ قنواتِ تمويلٍ لمؤسساتٍ فلسطينية سُدت في عهد ترامب، يعد أيضا بالدفعِ باتجاه مقاربة أخرى تشجع على استئناف المفاوضات. وعلى الرغم من الدراما التي أحاطت بانتخابات مثيرة للجدل أطاحت بدونالد ترامب فإنه يحق لنا جميعا أن نتساءل هل انهارت بذلك صفقة القرن؟

بايدن والصفقة

إذا ما قطعت الانتخابات الرئاسية الأميركية الطريقَ على طموحات دونالد ترامب لاحتلالِ البيت الأبيض مجددا، فإنها لا شك سددت ضربة موجعة لمشروعِ صفقة القرن في المنطقة.

هل ينهي بايدن صفقة القرن؟

ما صدرَ عن الرئيس الأميركي المنتخب جو بايدن يفيد بمقاربةٍ أخرى تعيدُ مدَّ الجسورِ مع منظمةِ التحرير الفلسطينية والسلطةِ الفلسطينية، سواء على مستوى التواصلِ السياسي والدبلوماسي أو على مستوى العودةِ إلى تمويل ما قطعتهُ إدارةُ ترامب عن المؤسساتِ الإغاثية والأهلية والسياسية الفلسطينية.

قد لا يمكن أن يعودَ بايدن عن قرار ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، ذلك أن ما ارتكبه ترامب هو تنفيذ وتفعيل قرار صادر عن الكونغرس الأميركي منذ عقود. بيد أن بايدن وإدارته يستطيعان أن يجردا ما هو رمزي من أي مفاعيلٍ لم تعترف بها غالبية دول العالم، ويعيدا الاعتبارَ لعمليةِ سلام حقيقية تنعشُ الآمال في هذا الصدد.

قد لا يكون واضحا ما سيطرأ على ملف السلام العزيزِ على كل رئيسٍ جديد في البيت الأبيض. غير أن الواضح أن الحقبة السوداء التي عاشها الفلسطينيون إبان عهد ترامب وصفقته قد زالت، وأن عتمةَ الغموضِ قد تزول لتدخلَ المنطقةُ حقبةَ صراع جديد واضحِ المعالمِ واللاعبين.

بالمقابل يُطرحُ السؤال حول جاهزية إسرائيل لطي صفحةِ ترامب والولوجِ نحو مفاوضاتٍ دعا إليها وزير الدفاع بني غاينتس. كما يُطرح السؤال أيضا حول الجاهزية الفعلية للفلسطينيين المنقسمين لخوضِ مفاوضاتٍ من هذا النوع. ويُطرح السؤال أيضا وأيضاً حول جهوزيةِ العالم بانقساماته، كما البيئة الإقليمية بصراعاتها، على تأمينِ خلفية ووعاء حاضنين لانجاحِ أي تسوية سياسية حقيقية. والسؤالُ الأكبر الذي لا بد منه يدورُ حول ما إذا كانت صفقةُ القرن قد سقطت فعلا، أو أنها باتت واحدة من المراجع الدولية الكثيرة التي لطالما غصّت بها سماءُ فلسطين.

تركيا في غياب بايدن

قاد رجب طيب أردوغان حزب العدالة والتنمية إلى الحكم في تركيا رافعا لواءَ إسلام معتدل منفتح أراد تسويقه في داخل تركيا الاتاتوركية قبل أن يجهد للترويجِ له لدى الغرب بقيادة الولايات المتحدة.

بدا أن باراك أوباما اقتنع بالإسلام الاردوغاني التركي. تحرك أوباما صوب العالم الإسلامي من اسطنبول قبل أن يروح صوب القاهرة. استطاع أردوغان التبشير بمشروعه من خلال عقيدة صفر مشاكل التي نظّر لها أحمد داود أوغلو. وفتح أردوغان حينها صفحاتِ انفتاحٍ مع الجوار القريب والبعيد، واعدا بمآلات سعيدة لملفيّ العلاقة مع الأكراد ومع الأرمن.

بيد أن كل شيء قد انقلب رأسا على عقب. انتهت سياسة صفر مشاكل. غادر أحمد داود أوغلو سفينة أردوغان. وبدا أن هذا الاسلام المعتدل الذي بشّر به أردوغان يرعى كل حركات الإسلام السياسي، بما فيها تلك الجهادية الرديفة.

اصطدمت تركيا مع أوروبا والحليف الأطلسي. بدا أن العلاقةَ مع الولايات المتحدة متدهورة لا ينقذها إلا علاقةٌ شخصية خاصة بين أردوغان دونالد ترامب. بدا أيضا أن تطورَ علاقة تركيا مع روسيا إلى حد اقتناء منظومة صواريخ أس 400 باعدت من المسافة مع الغرب دون أن يقرّب الأمرُ المسافةَ مع موسكو.

رماديةُ الموقفِ الأميركي وانتهازيةُ الموقفِ الروسي مكّن تركيا من لعب أدوارٍ ناشطة في ليبيا وسوريا والعراق وشرق المتوسط. تعبثُ تركيا داخل النزاع الخليجي الخليجي، تُطلُ في الصومال ونواح أخرى، حاولت ذلك في السودان وانجزت اختراقا في آذربيجان. بيد أن الرياح ذاهبة باتجاهات أخرى. الوضعُ الاقتصادي التركي في تراجع. أوروبا تهددُ بعقوبات قاسية، ولا يبدو أن روسيا مرتاحة لأداء تركيا في سوريا وليبيا. وفوق ذلك يواجه أردوغان جو بايدن، الرئيس الجديد في البيت الأبيض، الذي لم يخفِ انتقاداتِه للرئيس التركي داعيا على نحو مباشر بتشجيع الانقلاب عليه.

تحولات أردوغان

على ذلك تنتقل تركيا في علاقاتها مع العالم من عصر ضبابي غامض إلى عصر أكثر حزما وحسما في التعامل جديا مع الظاهرة الاردوغانية. فجأة في الأسابيع الأخيرة صدرت عن أنقرة مجموعة من المواقف الانقلابية الطارئة. في تلك المواقف ما يتحدث عن ودّ منشود مع مصر. وفي مواقفَ أخرى عن حوار وانفتاح مع أوروبا، وفي مواقفَ ثالثة وعد بإجراء إصلاحات سياسية واقتصادية داخلية وحتى إصلاحات تطال ملفِ حقوق الإنسان. ربما إذا أردت أن

بايدن دعا إلى دعم أي انقلاب ضد أردوغان

تعرف ماذا يجري في أنقرة وما الذي تبدل في استراتيجيات الرئيس رجب طيب أردوغان، فيجب أن تعرف أن شيئا كبيرا حصلَ في واشنطن قد يكون وراءَ هذه الاستدارة.

لم يفز دونالد ترامب مرشح تركيا المفضل، وفاز جو بايدن خصم تركيا وخصم أردوغان شخصيا. بايدن أصدرَ أثناء حملته الانتخابية مواقفَ قاسيةً لافتةً ضد أنقرة، حتى أنه وعد على نحو مثير للجدل بدعم إنقلاب ما للاطاحة بأردوغان. وبغضِّ النظر عما إذا كان كلامُ الحملات الانتخابية تمحوه قواعد الحكم والرئاسة في أميركا، إلا أن أردوغان الذي تمتع بغطاء وغضّ طرف من قِبل ترامب أتاح له التوسعَ في ليبيا وسوريا والعراق وأذربيجان مثلا وفتح المعارك شرق المتوسط مثلا آخر، لن يحظى بذلك في عهد بايدن، بما سيفرض عليه حكماً التراجع والتواضع والانسحاب والسعي إلى تموضعٍ جديد. وفي قراءة أنقرة الداهم للمشهد الإقليمي والدولي الجديد، جدير بنا نحن أن نعيدَ قراءةَ علاقة تركيا بالعالم في عصر بايدن!

إيران: أسئلة ما بعد ترامب

قيل كثيرا عن تعويل إيران على خروج دونالد ترامب من البيت الأبيض. وقيل إن طهران تعوّل على تبدل الإدارة في واشنطن لتبني على الشيء مقتضاه. حصل هذا الشيء فما هو مقتضاه؟ قبل ذلك راجت أنباء، هي أشبه بالإشاعات غير البريئة، تحدثت عن عزم ترامب توجيه ضربات عسكرية ضد إيران. طهران أخذت الأمر على محمل الجد، أو هكذا ادعت، ووعدت، لا سيما بعد اغتيال  »أبي البرنامج النووي« محسن فخري زاده، بالرد الساحق. في الأثناء تستمر إسرائيل في تسديد ضرباتها ضد أهداف إيرانية في سوريا، وتلوِّح إيران بما تملكه من نفوذ في العراق من خلال وقف هُدنة جماعاتها وجولات إسماعيل قآني هناك، كما تطلق أذرعها الحوثية في اليمن صواريخ ضد جدة في السعودية.

في البال أن كل الفرقاء يتموضعون وفق نهائيةِ خروجِ ترامب من المشهد وحقيقةِ دخول بايدن إلى المشهد. كل عواصم المنطقة كما عواصم العالم، بلا استثناء، بما في ذلك طهران، متوجسة مما قد تحمله الإدارة الديمقراطية الأميركية إلى ملف إيران. وفي التحديقِ بكل كلمة قالها بايدن والمقربين منه حول الأمر، ما قد يقلق أطرافا في المنطقة، لكنه لا يطمئن طهران نفسها. تكاد إيران تقول إن ترامب واجهنا لوحده، بينما يطل بايدن واعدا بمواجهتنا مع العالم أجمع.

قبل بدء ولاية جو بايدن رئيسا للولايات المتحدة، أرسلت إدارة دونالد ترامب إشارات متناقضة غامضة صوب طهران. قائد القيادة المركزية للجيش الأميركي الجنرال كينيث ماكينزي أعلن عن سحب قوات أميركية من أفغانستان شرق إيران ومن العراق غرب إيران. قال الرجل، بما يشبه الامتعاض، أن ذلك يأتي تنفيذا لقرار الرئيس دونالد ترامب.

مواكبةٌ للأمر جال وزير الخارجية الأميركية مايك بومبيو على عواصم في المنطقة والعالم يبشر بأن واشنطن لن تغير مواقفها بما يُفهم أن القسوة الترامبية ستكملها قسوة بايدينية.

في الأثناء أكثر المبعوث الأميركي إلى إيران اليوت أبرامز من إطلالاته الإعلامية كاشفا، بعد أربع أعوام على ولاية ترامب، أن إيران ما زالت تشكل أخطارا وأنها متواطئة مع الإرهاب.

وفيما الدبلوماسيون يُحدثون جلبة وينفثون غبارا، نشرت صحف أميركا أنباء عن خطط فكر بها ترامب لتسديد ضربات عسكرية ضد إيران، وأعلنت المصادر العسكرية تحريكَ قطعٍ بحرية (خصوصا USS Nimitz أكبر حاملة طائرات في العالم) وقاذفات B-52 الاستراتيجية إلى المنطقة.

إيقاعات الحدث أعاد ملف إيران أولوية على طاولة ترامب كما على طاولة خلفه بايدن. ووفق تلك الإيقاعات تتأمل عواصم، العالم لا سيما عواصم المنطقة، أعراض ما يمكن أن ينتهجَه الرئيس الأميركي الجديد من سياسة قد لا تتبع ما سلكه باراك أوباما دون أن تنقلب على ما سلكهُ دونالد ترامب.

في التقييم أن ترامب فشل في اقناع العالم بسياسته الإيرانية، وفشل في جرِّ طهران نحو طاولة مفاوضات تعيد كتابة الاتفاق النووي وتسلط المجهر على برنامجها النووي وسلوكها في الشرق الأوسط. وفي التقييم أيضا أن ترامب أسقط عقيدة أوباما حول إيران وكبل خليفته بمفاتيح جديدة لا رجعة عنها للتعامل مع جمهورية الولي الفقيه.

بالنهاية يدخل بايدن إلى البيت الأبيض مكبلا بظروف جائحة كورونا وتداعياتها الاقتصادية الموجعة على بلاده. ويطل الرجل على العالم واعدا بإعادة ترتيب ما عبث به ترامب. يعد بايدن بترتيب البيت الغربي بالتفاهم التام مع الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، وبمواجهة دون لبس مع الخصوم التقليديين، روسيا والصين، والتي شابها كثير من الخلط والغموض في سلفه.

لم يكن ترامب يهمه أن يصنع التاريخ ولا هو أساسا يملك كفاءة تلك الصناعة. خاض رجل العقارات مغامرة الرئاسيات قبل أربع سنوات بصفتها تمرينا مسليا يشبه ذلك الذي يمارسه في برامجه التلفزيونية، فإذا ما نجح فالأمر صفقة من صفقاته الرابحة، وإذا ما خسر فالأمر صفقة خاسرة من صفقات كثيرة خسرها في حياته. وقد أظهر الرجل من الشعبوية والسطحية والعبثية، ما جعل ترشحه عراضة مقيتة مقززة تحمَّلها الحزب الجمهوري كقدر غير مُقنع لا بديل عنه، ونظر إليه الديمقراطيون ومرشحتهم كنكتة سمجة تسهل إزاحتها. ترامب نفسه فوجئ قبل خصومه وأصبح رئيسا لأميركا.

الكتلة الناخبة لترامب ليست بالضرورة عنصرية كارهة للسود والأجانب وتنهل حوافزها الانتخابية من عقائد يمينية متطرفة أو إنجيلية متعصبة. أعداد كبيرة من ناخبي ترامب هم مواطنون صالحون وجدوا في خطاب ترامب، على شعبويته، ملاذا يقيهم خطابا مضادا يعد بحُقنٍ من الليبرالية الأخلاقية تهدد أسوار المحافظة الأخلاقية التي لطالما

هل يفرض اغتيال محسن فخري زاده أجندة إسرائيل الإيرانية على بايدن؟

التصقت بقيم الحزب الجمهوري. وفي ذلك أن  »السمعة« اليسارية التي نفخها بيرني سندرز في دعمه الأكيد لبايدن (شيء لم يفعله مع هيلاري كلينتون)، سهّل لحملة ترامب الترويج لشيوعية اشتراكية زاحفة على البلاد وجب دعم جدار ترامب لصدّها. وبدا أن شعبويتين، يسارية ويمينية، يملآن أي فراغ.

قد لا يمكن أن يعودَ بايدن عن قرار ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، ذلك أن ما ارتكبه ترامب هو تنفيذ وتفعيل قرار صادر عن الكونغرس الأميركي منذ عقود. بيد أن بايدن وإدارته يستطيعان أن يجردا ما هو رمزي من أي مفاعيلٍ لم تعترف بها غالبية دول العالم، ويعيدا الاعتبارَ لعمليةِ سلام حقيقية تنعشُ الآمال في هذا الصدد.

كل الفرقاء يتموضعون وفق نهائيةِ خروجِ ترامب من المشهد وحقيقةِ دخول بايدن إلى المشهد. كل عواصم المنطقة كما عواصم العالم، بلا استثناء، بما في ذلك طهران، متوجسة مما قد تحمله الإدارة الديمقراطية الأميركية إلى ملف إيران. وفي التحديقِ بكل كلمة قالها بايدن والمقربين منه حول الأمر، ما قد يقلق أطرافا في المنطقة، لكنه لا يطمئن طهران نفسها. تكاد إيران تقول إن ترامب واجهنا لوحده، بينما يطل بايدن واعدا بمواجهتنا مع العالم أجمع.

(*) كاتب سياسي لبناني

العدد 112 / كانون الثاني 2021