جدليّة المعنى

د. نادين سمير طربيه *

يقول هيراقليطوس:  »الحمقى هم كالصّمّ، ولو أنّهم يسمعون. ينطبقُ عليهم القول أنّهم في أيّ مكانٍ وُجِدوا هم غائبون«. والحمق هنا لا يعني الغباء وفق المفهوم المسطّح، بل هو الحمق في إدراك ما هو مُدرَكٌ حتّى ولو كان مخفيًّا في ظاهره. بعد الكثير من المواقف الحياتيّة والوجوديّة التي كثيرًا ما تواجهنا، حتّى لا أقول نتواجهُ معها، أصبحتُ ألحظُ أنّ المشكلة ليست في المَقولِ بل في آليّة تلقُّفِهِ، ولكي أكون أكثر وضوحًا المشكلة تكمنُ في فهمِ الدّلالات. صحيحٌ أنّ للمتكلّمين ولمقاصدهم مكانةً محوريّةً في تشكيل المعنى، وقد يتجلّى ذلك عن طريق وجود شبكة من الرّوابط

د.نادين طربيه
شاعرة وروائية وأستاذة جامعية

الحيويّة، بين ما يُعرَف بالنّظريّة القصديّة ـ في علم الدّلالة  ونظريّة الإقتضاء التّخاطبيّ في علم الاستعمال اللّغوي، لكنّ الإشكاليّة لا تكون عند المتكلّمين بقدر ما قد نجدُها عند المتلقّين.

لا شيءَ أغنى من الحياة إلا الفهم، والفهم لا يعني المعرفة الثّقافيّة ولا يعني عمليّةً تراكميّةً للعلوم أو تجميعًا لحقائق علميّة أو فلسفيّة، الفهمُ ينطلقُ من العالمِ المُدرَكِ ثمَّ ينفُذُ إلى الباطن، الباطنُ بكلّ ما يكتنزُ من تجاربَ وخبراتٍ وأحكامٍ. لو عَلِقَ الفردُ في هذه البقعة سيكونُ مثقّفًا بحسبِ المفهوم الحديث للكلمة. أمّا لو خاطرَ وغامرَ إلى البنية الأعمق فقد يُصبِحُ مستنيرًا. والمستنير هو الذي لا يكتفي بفهمِ المُرسَل إليهِ بل يُجرِّدُهُ من كلّ الفضلات ويربطه بالمعنى.

 وقد سمّيتُ عمليّة الغوص في المعنى مغامرة، لأنّكَ حالما تدخُلها فعليكَ أن تقدِّمَ الكثير من التّضحيات، لأنّ المعنى يبدأ من مناخ اليوم ثمّ يخترقُ فضاءَك الدّاخليّ، لا بل قد يُطارِدُكَ!

ويطاردُ اناكَ المُقنّعة التي تدجّنَتْ بفعل الأنا الأعلى، المتمثّلة بالأنظمة الإجتماعيّة والمحظورات والقواعد والأسس، التي تهالكَ المجتمعُ الإنسانيّ في رصفِها فوق رأسكَ منذ بزوغِكَ الأوّل. يا قارئي العزيز، أنت لن تقدرَ على فهم المعنى إلا بالتّجرّد والتّخلي، فكلّ عارفٍ هنا جاهل. وكلّ ثقافتكَ لن تنفَعَكَ، عليكَ ان تعودَ إلى حالة الإندهاش الأولى التي حُرِمناها ! عليكَ أن تنسى أنّكَ تعرفُ وتنسى ما لقّنوك إيّاه، لتُعيدَ عمليّة الكشف المُبهِرة، بعيدًا عن عنجهيّة الأنا… فالغرقُ في الأنا سيُفقِدُكَ لذّة المعنى الحقيقي. معظمُ البشر في المنفى، هذا المنفى الذي صنعوهُ بإرادتهم وزيّنوه ورقصوا فيه، لكنّهم يعرفون أنّهم يغرقون في حزنٍ غريبٍ، هذا الحزنُ هو غربة الذّات عن ذاتِها، وغربةُ الذّات عن معناها. ما هو المطلوبُ إذًا؟ هل المطلوب هو أن نعبرَ هذا الكون المكتنز بالمعاني كغرباء؟

كيف تريدون أن تفهموا رسائل النّصوص المكتوبةِ، وأنتم عاجزون عن فهمِ رسائلكم، أو رسائل الكون إليكم!؟ نحنُ للأسف مأخوذون بهموم غبيّة ولا وقتَ لدينا لنفهمَ، وفوق ذلكَ نطفو فوق ماء الشّكليّاتِ ونخافُ أن نغامرَ. إدراكُ المعنى من كلّ شيء، من كلّ حدثٍ، من وجودنا مهمّةٌ قاسيةٌ لكن ثمارها مفرحةٌ. والمعنى مرتبطٌ بالطّاقة، طاقة النّصّ وطاقة الكاتب وطاقة القارئ، هذا المثلّث الذي يقابلُهُ مثلّثٌ آخر، يتمثَّلُ بطاقة الإنسان وطاقة الخالق وطاقة المعنى. وبعد أن تناولتِ المدارس النّقديّة موت المؤلّف وموت الخالق وآليّة نسف النّصوص، نقفُ ضائعين أمام كلّ هذه الإتّجاهات لنُعيدَ بناء تفكيرنا النّقديّ الخاصّ.

 بما أنّ إدراكَ الدّلالة لا يكونُ إسقاطًا لما في ذاتِكَ بل هو العودة إلى الفراغ، والتّخلّي عن المعتقدات النّصّية الجاهزة أو المعلّبة، أضحت عمليّة التّفريغ والتطهير الذّاتي أكثر من ضروريّة، لأن المُمتَلئ لا يمتلئ، بل سيفيضُ والفائضُ سيكونُ خسارةً فعليّةً للمعنى. البناء يُحَتِّمُ التّدميرَ، أي العودة إلى حالة العدم.. الصّمت… إلى حالة النّقاء الأولى! سنتواضعُ كثيرًا حينَ نقفُ أمام نهرٍ يجري، أو أمام شمسٍ تُشرقُ أو أمام زلزالٍ يضربُ..

كان الشّرقُ مدرِكًا لمعناه في زمنٍ حضاريٍّ معيّن، فدخلَ حيّز الخلق والإبداع من الباب العريض، وبعدما أضحى محنّطًا بدأ يتهاوى في ظلمات أمجاد أناه الغابرة. وراح الغرب الذي تفنّنا في جلدِهِ دهورًا، وفي إطلاق التّسميات عليه، ووصفه بالغرب المادّي والكافر، يتوجّه نحو المعنى أكثر بحثًا عن ذاتِهِ، مقوِّمًا ومُصلِحًا. لا تقدرُ أيّ حضارةٍ على النّهوض إلا بالنّقد الذّاتي البنّاء، ولن يقدرَ الإنسانُ أن يصلَ إلى إنسانيّته إلا عن طريق الهدم البنّاء. ليس هناكَ أسوأ من خداع أنفسنا وإيهامها بأنّنا وصلنا قِمّةَ الوعي، فيما نحنُ مقعدون.. المعنى يتمطّى من الوعي الفرديّ إلى الوعي الجماعيّ، ثمّ يتشظّى خيرًا وتطوّرًا على الإنسانيّة كلّ الإنسانيّة.

  »فيلوصوفيا« أو محبّة الحكمة، أمّ العلوم والفنون والإبداع، بدأتْ من طرح أسئلةٍ وجوديّةٍ حول المعنى، المعنى من الوجود، المعنى من الإنسان، المعنى من الخالق، المعنى من كلّ شيء.

ونحن اليومَ نضيعُ بين الإختصاص والثّقافةِ والوعي، الوعي هو الأكثر التصاقًا ببلوغ المعنى، الوعي الباطني حيثُ تحشُدُ الذات خبراتِها وتُسائل نفسَها وتعيش الليلة المظلمة بلا أملٍ، وبعبثيّةٍ لاذعة… حتّى تتخلّى عمّا تعرفُ، عن كلّ تراكماتِ الأنا المُكتَسبَة وتدخل في مجال الإلتقاط… وهنا يبدأ المعنى في التّجلّي في أبهى حلله.. هنا تبدأ المغامرة… المغامرة نحو ال.. م.. ع.. ر.. ف.. ة.

شاعرة وروائية وأستاذة جامعية