عراق عام 2021 الطبقة السياسية الحاكمة سلبت حقوق العراقيين وآمالهم 

د.ماجد السامرائي

لا تقاس أعمار الدول والشعوب بالأشهر والسنوات بل بما تنجزه حكوماتها من إنجازات في الحياة المدنية الحرة الكريمة المُعترفة والمطبقة لحقوق الانسان وخياراته وخصوصيات أفراده الدينية والعرقية.

للعراق قصة أخرى فعهده ونظامه الجديد الذي ابتدأ في أبريل (نيسان) 2003 صنعه الاحتلال الأمريكي على مقاييس هجرها العالم الإنساني منذ عهد الكهنوت الأوروبي حينما كانت الكنيسة تتحكم بسلطات الحكم. لم تعد محاصصة الطوائف كافية لغلق منافذ الحرية والسلم الأهلي في العراق، بل أصبح الانفراد الطائفي تحت مسميات الأغلبية العددية  »الشيعية« هو المتحكم بالسلطة، مما ولّد الاحتقانات الطائفية التي اقتربت في أكثر من مرة من الحرب الأهلية في تناسل لحرب لبنان التي ابتلى بها شعبه وخلفت آلاف الأرواح وكانت نتيجتها المحاصصة الطائفية التي يعاني منها الشعب اللبناني اليوم.

روزنامة السياسة في العراق منذ عام 2003 حتى 2020 احتوت على صورة رثّة لتحكم الإسلام السياسي الشيعي، كانت نتيجتها إفقار شعب العراق ونهب مردودات ثروته النفطية التي كانت قادرة قبل انحدار الأسعار الأخير إلى بناء قاعدة تنموية تعزز القطاع الخاص الإنتاجي وتخلص البلد تدريجياً من الاقتصاد الريعي إلى الإنتاجي.كما تسيّدت المليشيات المسلحة ذات الولاءات الخارجية كرديف وبديل في مواقع كثيرة عن المؤسسة الأمنية والعسكرية الرسمية في ظل انعدام الأمن الفردي والجماعي وشيوع الفوضى الأمنية وهيمنة السلاح المنفلت في الشارع العراقي.

رغم ادعاء الأحزاب تمثيلها للطائفة الشيعية وانها جاءت للحكم تلبية لنظرية  »المظلومية الطائفية« لكنها عملياً حرمت وفق التوصيف الطائفي أبناء الشيعة من حقوقهم الأولية في إعمار شوارع مدنهم ومستشفياتها وجامعاتها ومدارسها، بل على العكس لم تحافظ مدن كالبصرة التي كانت مثالاً للزهو والاعمار أو الموصل على مقومات استمرار حياتها فمنع عن البصرة الماء النقي وهي مكان لقاء الرافدين، ودمرت الموصل القديمة ذات البهاء المعماري تحت عنوان محاربة  »داعش«.

خلال سبعة عشر عاماً جرى تدمير ممنهج للبنى التحية في عموم العراق دون أية مؤشرات على بدء قيام دولة بديلة للدولة التي أسقطها المحتل الأجنبي، خراب في الاقتصاد وعجز في ميزانيات الحكومة وانهيار أمني وهيمنة المليشيات على مرافق الحياة العامة. واستمرار قمع المواطنين المطالبين بحقوقهم الأساسية بعد إنجاز معظم متطلبات برنامج التغيير الديموغرافي لمدن العراق المسماة بالسنية تحت شعارات محاربة الإرهاب والانتقال إلى قمع الشباب المتظاهرين وثورتهم السلمية في مدن وسط وجنوبي العراق.

العجز الاقتصادي

الأرقام تتحدث عن تداعيات مخيفة للعجز الاقتصادي بسبب الاعتماد الرئيسي على واردات النفط وانصراف أعمدة النظام القائم عن وضع برامج للإصلاح وتنمية القطاع الخاص لأن الحكام منشغلون بالنهب وليس لخدمة المواطن. بلغ العجز في موازنة العراق نحو 112 مليار دولار لعام 2019. وجرت محاولات تسديده من خلال القروض من جهات عالمية لشراء الأسلحة والدعم اللوجستي لوزارتي الدفاع والداخلية والحشد الشعبي ثم انتقلت اخيراً إلى القروض الداخلية لسد متطلبات رواتب موظفي الحكومة.

تراجع مؤشر النمو والاعتماد على مصدر وحيد للدخل القومي (النفط) الذي هبطت أسعاره إلى النصف عما كان في الأعوام السابقة. بلغت إيرادات النفط لشهر يونيو من عام 2020 مليارين دولار في حين كانت 5 مليارات شهر فبراير من نفس العام. كانت حصة الفرد من الإنتاج القومي في عهد النظام السابق عام 1990 وفي ظل الحصار (7000) دولار، أصبحت 4990 دولار عام 2017. تقول الحكومة ان عدد موظفيها 4 ملايين موظف لكن التقديرات تقول 7 ملايين مع احتساب العاملين في العقود والأجراء اليوميين وأفراد المليشيات ضمن الحشد الشعبي.

تكلفة واردات الطاقة الكهربائية من ايران 1،2 مليار دولار سنويا وبسعر 11. 23 دولار لكل ألف قدم مكعب مقارنة ب 5.42 دولار دفعتها ألمانيا لشراء غاز أبعد مسافة من روسيا فيما يهدر العراق ما مقداره 1.55 مليار دولار من الغاز الطبيعي.

اصبح الفساد جزءا من النظام السياسي والاقتصادي حيث يحتل العراق المركز الأخير في مؤشر مدركات الفساد التابع لمنظمة الشفافية الدولية محتلا المرتبة 169 من أصل 180. وتقول هذه المنظمة بأن حجم الأموال المنهوبة ما بعد 2003 يصل إلى 300 مليار دولار.

هناك نهب منظّم لأموال العراقيين بطرق متعددة أبرزها ما يسمى بمزاد بيع العملة من قبل البنك المركزي وفق عقود وهمية وغالبية تلك الأموال تهرّب إلى ايران.

معدل البطالة وفق تقديرات حكومية عام 2018 كان 16 بالمائة وفي المحافظات التي احتلها داعش وصلت النسبة إلى 41 بالمائة. تقول ممثلة الأمين العام إلى أن  »أن ثلث عدد سكان العراق الآن تحت خط الفقر كما يعد الاستهلاك الغذائي لما يزيد عن ثلاثة ملايين عراقي غير كاف بسبب انخفاض القوة الشرائية«

انهيار النظام التعليمي

القطاع التعليمي في العراق واصل انهياراته منذ عام 2003.ففي بلاد هي أول من عرفت الكتابة قبل آلاف السنين على يد السومريين ووضعت نظم العدالة وحقوق الإنسان وخلفت إرثا معرفيا وثقافيا غير قابل للاندثار، يعاني البلد حالياً من تصاعد آفة الأمية، والنظام التربوي في العراق قبل 2003 كان من أحسن النظم التربوية في المنطقة وفقا لتقرير منظمة (اليونسكو) الصادر في أبريل/نيسان 2003 وكان التعليم مجانياً لمراحل التعليم العام والجامعي كافة بما فيها الدراسات العليا وإلزامياً لمرحلة التعليم الأساسي. وبلغ العراق مرحلة صفر أمية في منتصف الثمانينات من القرن الماضي بعد حملة وطنية شاملة لمحوها انطلقت عام 1978 حيث كانت الحكومة العراقية ترعى حملات محو الأمية، وأصبح التعليم إلزاميا ووضعت عقوبات لكل من يحول دون حصول أي عراقي طفلا كان أم شيخا مسنا على مبادئ القراءة والكتابة الأساسية. ووضعت حرب الكويت 1990-1991 البلاد والتعليم بشكل خاص في نفق مظلم نتيجة الحصار الدولي الذي فرض على العراق. كما إن حكام ما بعد 2003 الذين رفعوا شعارات إنقاذ العراق من الدكتاتورية جلبوا معهم الظلام والجهل والدمار للعراق. منظمة اليونسكو صنّفت العراق من ضمن البلدان التي تعاني صعودا كبيرا في نسب الأمية يتجاوز 47 (للأعمار بين ستة و55 عاما). وفي آغسطس/آب من عام 2020 أعلنت منظمة هيومن رايتس ووتش في تقرير لها ان 6 ملايين لا يجيدون القراءة والكتابة من أصل 37 مليون عراقي. وإن ثلث الشباب فقط في المدارس والجامعات فماذا سيقدم النظام الحالي من حلول للاقتصاد والتعليم والصحة عام 2021 إلا المزيد من التدهور.

هيمنة المليشيات

مثلما كان متوقعاً فقد وصلت المليشيات المسلحة المدعومة من طهران عام 2020 إلى نقطة تهديد الحكم في العراق إن لم يخضع رأس الحكومة لمشروعها التخريبي في تعويق قيام دولة عراقية ذات سيادة وأمن قادرة على توفير الخدمات للمواطنين العراقيين. فقدمت الأحزاب الإسلامية المهيمنة على الحكم جميع التسهيلات السياسية والقانونية لتلك المليشيات لكي تكون حامية لها ولسرقاتها التي تعُد بمليارات الدولارات لتتحول فصائل هذه المليشيات إلى قوة عسكرية منافسة لقوة السلطة العسكرية (الجيش والأجهزة الأمنية والاستخبارية) لدرجة امتلاكهم أسلحة ثقيلة من دبابات وصواريخ وحتى ادخال صنف القوة الجوية حين أعلن رئيس تلك المليشيات أبو مهدي المهندس قبل مقتله بداية عام 2020 عن الاستعدادات لتشكيل قوة جوية شبيهة بقوة الحرس الثوري الإيراني.

ساندت واشنطن تلك المليشيات قبل خروجها عام 2011 رغم إن قيادة الاحتلال الأمريكي ساعدت على سن الدستور عام 2005 الذي حرّم وجود السلاح خارج الدولة، لكن المنظمات المليشياوية مثل منظمة (بدر) المدعومة من ايران التفت على القانون فانضمت ببساطة إلى قوات الأمن الاتحادية بأعداد كبيرة في عملية عُرفت باسم  »الدمج«.تحاول واشنطن تصحيح خطأها حين ادرج الكونغرس أخيراً منظمة بدر ضمن المنظمات الإرهابية.

توسعت أعداد المليشيات تنظيمات وأعداد حيث وصلت عام 2020 إلى  150 ميليشيا منها 100 ميليشيا غير رسمية وتأتمر بأوامر ولي الفقيه (خامنئي) في طهران وفق ما ذكر رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي.

كان التغلغل المليشياوي مبرمجاً وكانت المرحلة الأخطر في توسعها استغلال الحرب على  »داعش« التي احتلت ثلث مساحة العراق عام 2014 بثلثمائة مقاتل متطرف دخلوا من الأراضي السورية إلى مدينة الموصل ومحافظات الأنبار وصلاح الدين وديالى وكركوك. فاستثمرت فتوى السيستاني بإعلان  »الجهاد الكفائي الذي لم يقل بالحشد الشعبي الذي مرر قانونه عام 2016. وأخذ هذا التغلغل الخطير جانباً سياسياً في دخول قيادات ميليشياوية للبرلمان العراقي.

انتفاضة الشباب

خلال فترة تولي عادل عبد المهدي لرئاسة الحكومة 2018-2019 تصاعدت الاحتجاجات والمظاهرات وسط وجنوبي العراق خصوصاً في مدينة البصرة التي لاقت كغيرها من محافظات الجنوب العراقي كالناصرية الإفقار والذل وامتهان الكرامات، ولهذا تحوّلت البصرة إلى مركز ثورة الشباب ضد الظلم والاحتلال الإيراني فقدمت قوافل من الشهداء إلى جانب مدينة الناصرية ومركز العاصمة بغداد. وبدلاً من دعم الحركة الشبابية الاحتجاجية المدنية نفذ عادل عبد المهدي مشروع إبادة ممنهجة للشباب بأدوات حكومية عسكرية إلى جانب المليشيات الموالية لطهران انتقاماً من الشباب الذين طالبوا بطرد الوجود الإيراني وتغيير المنهج السياسي للنظام. ولم يوفي فيما بعد مصطفى الكاظمي بوعوده لكشف الجناة المجرمين المتورطين بدماء شباب الانتفاضة الذين تجاوز عددهم 700 شاب وشابة. لقد تحولت هذه الاحتجاجات من مطلبية للعمل وحقوق الناس إلى دعوات وطنية لرحيل الأحزاب الفاسدة وظهيرها الخارجي.

علاقة بغداد بإقليم كردستان

رغم العلاقة الاستراتيجية بين الأحزاب الشيعية والكردية، لكن مصالح ما بعد عهد سلطة 2003 اتسمت بالتوتر حيناً والمجاملات العابرة حيناً آخر، وكان لوجود رئيس الجمهورية الراحل جلال الطالباني كرئيس للجمهورية أثر في حل الكثير من المشكلات. خلال العامين الأخيرين أصبحت الأمور مختلفة حيث سعى مسعود البرزاني إلى إعلان الاستفتاء على دولة كردية مستقلة، لم يتحقق هذا الحلم بسبب رفض الجارتين تركيا وايران وكذلك واشنطن. استمرت العلاقة مرتبكة ومعتمدة على العلاقات الشخصية لكل من رئيس الوزراء في بغداد والقيادة الكردستانية مثلما حصل مع عادل عبد المهدي الذي سهّل الكثير من عقبات مجال تسويق النفط من كركوك وتسلم الإقليم لتلك العائدات. أما الكاظمي فهو صديق شخصي لرئيس الجمهورية الكردي برهم صالح وينفذ رغباته. الأحزاب الشيعية رافضة لهذا النمط من العلاقة وتريد إخضاع منطقة كردستان لمشيئتها خصوصاً إن القيادة الكردستانية عينها على كركوك الغنية بالنفط ولا تريد التفريط بها ودائماً ما يدعون إلى تطبيق المادة 140 من الدستور الخاصة بالسكان وانتخاباتهم.

العراق ساحة صراع أمريكي ايراني

لقد تحوّل العراق عامي 2019 و2020 إلى ساحة للصراع الإيراني الأمريكي وهو خلاف سياسي طارئ وليس صراعاً من أجل البقاء أو الفناء كما يقال. فمنذ مجيئ ترامب للبيت الأبيض فتح أبواب سياسة خارجية جديدة تعتمد على تعزيز المصالح الاقتصادية للولايات المتحدة ونبذ الحروب وتقليص أعداد القوات الأمريكية في المنطقة خصوصاً افغانستان وسوريا والعراق تحت شعار  »أمريكا أولاً« والعمل على تحجيم دور إيران في المنطقة ومخاطرها على العراق والخليج. ولهذا خرج من الاتفاق النووي ضمن تلك السياسة، ولأن طهران موجودة ومتغلغة في العراق، فقد سعى ولو بشكل محدود إلى تقليص دورها في هذا البلد عبر سلسلة قرارات العقوبات الاقتصادية رغم قدرة النظام على التحايل والالتفاف على تلك العقوبات بطرق كثيرة. ثم حركّت طهران أدواتها في العراق  »المليشيات« لإزعاج الأمريكان عبر سلسلة ما سمي بهجمات  »الكاتوشيا« على المصالح والمواقع العسكرية والديبلوماسية الأمريكية كانت نتيجتها عملية قتل الجنرال الإيراني قاسم سليماني ورفيقه أبو مهدي المهندس في ضربة جوية دقيقة في القرب من مطار بغداد الدولي في الثالث من يناير من عام 2020، مما صعد الحملة المليشياوية ضد الوجود الأمريكي في العراق، والإيعاز للنواب الشيعة في البرلمان لاستصدار قرار يوصي بإخراج القوات الأمريكية من العراق رفضه السنة والأكراد.

هذا التطور التصعيدي جعل المشهد وكأنه حافة الحرب على الساحة العراقية. لكنه تصعيد متقن الأدوار ما بين طهران وواشنطن، فكلا العاصمتين تعلمان إنهما يسعيان للجلوس على طاولة المفاوضات. بعد وصول بايدن للبيت الأبيض لن تتغير المعادلة تجاه العراق وإيران بالصورة الدراماتيكية، لأن الرئيس الجديد سينشغل بالوضع الداخلي الأمريكي ومخاطر وباء كورونا. لفترة لا تقل عن سنة.

انتخابات 6 يونيو المبكرة

رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي قدم عهداً والتزاماً تجاه ثورة تشرين (أكتوبر) بإجراء الانتخابات المبكرة وحدد موعدها في السادس من يونيو المقبل، رغم إن هناك العديد من العقبات الفنية المتعلقة بقانون الانتخابات وبالمفوضية العليا وبالإجراءات التقنية الخاصة ببطاقات الناخبين. تسعى الأحزاب المهيمنة حالياً على الحكم على تدوير نفسها بطرق احتيالية كثيرة لتمييع مطالب الثوار وعدم السماح لوجوه جديدة بعيدة عن المحاصصات الحزبية والطائفية لتأخذ فرصتها للوصول إلى البرلمان المقبل الذي يعتبر البيت الذي تصنع وتخرج منه قرارات مسيرة الحكومة والمجتمع.

الملفت إن زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر نفذ قبل شهر مشروعه لإزاحة شباب ثورة تشرين وتشويه سمعتهم والسماح لأنصاره بقتل ثمانية شباب في ميدان الحبوبي في الناصرية يومي 27و28 من نوفمبر الماضي ثم قدّم نفسه لكي يتولى هو بشخصه أو من يمثله لرئاسة الحكومة بعد الانتخابات المقبلة في مشروع تصفية الثورة الشبابية ومصادرتها. لكن ذلك سيواجه من قبل الأحزاب الكبيرة بالرفض رغم مغازلته لهم بضرورة اقامة ميثاق شرف شيعي شيعي.

من المتوقع سعي المليشيات للهيمنة على مشهد الانتخابات المبكرة في يونيو 2021.

لا يوجد في الأفق المنظور لا في هذا العام 2021 ولا الذي يليه ما يشير إلى خروج العراق من نفقه المظلم الذي وضعته فيه الأحزاب بعد نهبها ثروات البلد إذا ما استمرت في سلطة الحكم. وهي تعاند بعدم الاعتراف بهزيمتها وهزيمة الإسلام السياسي الشيعي وكذلك التابع السني، بل تعمل على تركيز سلطتها سلطة الفساد والاستبداد.