الشاعرة الإيرانية فروغ فرخزاد؛ طيْرة الشِّعر الحرّة.

نسرين الرجب ـ لبنان

 لم يكن اسم فروغ فرخزاد، اسما عابرا في سماء الشعر، فهي كالطيرة الحرة، كانت دوما توّاقة للتحليق عاليا، حيث أصبح الاهتمام بها عالميا وليس حكرا على مثقفيّ بلدها  »إيران« فقط، ولا حتى على مثقفي تلك المرحلة الزمنية التي عاصرتها، بل تجاوزت المكان والزمان، من خلال الترجمات إلى اللغات المختلفة، كان للعربية هذا النصيب على يدّ الأستاذة المبدعة المترجمة مريم العطار، في كتاب  »الأعمال الشعريّة الكاملة للشاعرة فروغ فرخزاد« الصادر عن دار المدى، في طبعته الأولى العام 2017، وعدد صفحاته 395 صفحة.

يتضمن الكتاب مقدمة للمترجمة، تحدّثت فيها عن مقتطفات من حياة الشاعرة، ثم قائمة بالأعمال الشعرية والمسرحية والسينمائية للشاعرة، وألبوم صور للشاعرة في مراحل مختلفة من حياتها، يلي ذلك ترجمة لمقدمة كتاب  »أول نبضات قلبي العاشق« لعمران صلاحي، والذي هو عبارة عن رسائل فروغ لزوجها السابق برويز شابور. يوجه الكاتب في المقدمة خطابه إلى الابن ابن فروغ وبرويز- الذي يدعوه تحببا  »كامي«. يرى أن هناك صراع بين

الشاعرة فروغ فرخزاد

العاطفة والفكر، في رسائلها تتبع فروغ عاطفتها، وبرويز عقله.  »العاطفة تتبع الشعر والعقل يتبع الرسم الساخر«.

يحرص على إظهار العشق الذي كان يجمع برويز وفروغ، من زاوية رؤيته وكما شاهدها من موقعه كصديق لبرويز وساكن في الحي الذي كانت تعيش فيه فروغ، وعن بعض الصعوبات التي كانت تعانيها في حياتها. يقول:  »فروغ المحرومة من حنان الأهل تلجأ إلى أحضان حبيبها: روحي تشبه طيرة حرة، ترفرف تريد الضوء، لكني بعيون مفتوحة أرى البشاعة والظلام، أين يمكني الهروب؟«.

وبعد ذلك؛ الدواوين الخمسة بكل مضامينها بحسب الترتيب الزمني لأوان صدورها.

من هي فورغ فرخزاد؟

  فروغ فرخزاد (1934- 1967) وُلدت في طهران، أباها كان عقيدا في الجيش، دخلت معهد الفنون وتعلمت الرسم تحت أيادي أساتذة، تعلمت الخياطة والتصميم، تزوجت  »برويز شابور« وهي في السادس عشرة من عمرها، وكان من أقرباء أمها، يعمل رسام كاريكاتير، ويكبرها بخمسة عشر عاما، سافرت إلى محافظة أهواز لضرورة عمل زوجها، وأنجبت طفلا أسمياه  »كاميار«.

كان شعرها متقدما في الرؤية والإيقاع، وتصدر اسمها قائمة رواد الشعر الإيراني الحديث إلى جانب نيما يوشيج، بروين اعتصامي، وأحمد شاملو، وسهراب سبهري، ومهدي أخوان ثالث. كما جاء في تقرير عن الشاعرة لمجلة  »بدايات«*. لاقت أشعارها اهتماما بالغا وتُرجمت إلى العديد من اللغات، تحولت حياتها إلى رمز للتمرد النسوي إذ كانت تعكس ما تواجهه في حياتها في شعرها وفي كتاباتها النثرية.

دخلت فروغ عالم الشعر في العام 1952، نشرت قصائدها في مجلات مقروءة كمجلة (روشنفكر) (المتنوّر) التي كان يرأسها الشاعر الإيرانى الراحل  »فريدون مشيري«، وفي العام 1953 أصدرت ديوانها الأوّل:  »الأسيرة«. عايشت في مدة زواجها القصيرة الكثير من الخلافات العائليّة، انتهى بالطلاق في العام 1959. عادت إلى طهران لتتعالج في مشفى للأمراض النفسية، نتيجة ذلك تمّ حرمانها من حضانة ابنها. عاشت حسرة فراق ابنها عنها، ولكنها لم تجد فائدة من استعادته، إذ عّبرت عن حزنها الشديد من فراقه وبالوقت ذاته تساءلت:  »ما الفائدة من هذه الروابط والعلاقات؟«.

لم تدع شيئا يقف أمامها حائلا دون حريّتها الفكريّة والشخصيّة، فوهبت حياتها للفن بأشكاله، شاركت في أعمال مسرحية وسينمائية، سافرت إلى إيطاليا، وشاركت في أفلام قصيرة بأدوار ثانوية، عملت في مجال دبلجة الأفلام باللغة الفارسيّة. وفي دورات تدريبية لصناعة الأفلام بمساعدة صديقها  »ابراهيم كلستان«.

البيت الأسود

أحد أبرز إنجازاتها السينمائية، ـ بمساعدة فريق فنيّ متكامل ـ الفيلم الوثائقي:  » البيت الأسود«، الذي يحكي عن حياة المصابين بالجذام، والذي كان بالتعاون مع جمعيّة إغاثة المصابين بالجذام، في العام 1963، يعيش هؤلاء في مصحة خاصة في محافظة  »تبريز« شمال غرب إيران، تخلل الفيلم عرض متكامل لأشخاص يعانون من عوارض الجذام المختلفة؛ والذي هو مرض مزمن ومعد. يعاني المرضى به من تآكل الجلد وتقشّره، وتشوهات جسدية وجلدية عميقة، وصولا إلى العمى، وتآكل الأطراف تماما. قدّم للعرض راويان يظهر صوتهما بشكل متقطع مع نماذج تصويريّة متحركة لأنماط عيش هؤلاء، الأداء الصوتي الأوّل لراوٍ ذكر يعرض الحقائق والمعلومات بطريقة موضوعيّة عن وضع المصابين. والأداء الصوتي الثاني للشاعرة فروغ تضمّن قراءات شعرية إيقاعيّة تعبّر عن مأساة المصابين، والحرمان الذي يعانونه كبشر يعيشون نمط حياة قاسٍ ومؤذٍ عن باقي البشر، ومع ذلك حياتهم لا تخلو من العبادة والشكر للرب، وتساؤلات وجوديّة عن عدالة الحياة:  »كحمامات تبكي، لأجل العدالة وما من عدالة«. تبنت فروغ لاحقا، الطفل  »حسين منصوري« الذي كان والداه مصابين بالمرض، كتعويض عن أمومتها المسلوبة.

الروح المتمردة والثائرة

في رصيد فروغ كتابات نثرية، وترجمات مسرحية، وخمس مجموعات شعرية، وهي:  »الأسيرة« 1953،  »الجدار« 1957،  »العصيان« 1959،  »ولادة أخرى« 1964، بعد موتها نُشرت مجموعتها الشعرية الخامسة  »فلنؤمن بطليعة الموسم البارد« 1974، عن دار مرواريد.

في مذكراتها كانت تؤكد في شعرها على ضرورة تحطيم الرؤية الضيقة التي يرى المجتمع من خلالها المرأة، وفكّ القيود المجتمعية مما أثار نقد المحافظين، تكشف فروغ عن الروح المتألمة والمعذبة، وتؤكد أنه:  »من الصعوبة أن تحيا في هذا الوسط الفاسد وتبقى محافظة على معنوياتها«. وتقول:  »لقد أوقفت حياتي على فني أريد الحياة لأجل فني… ولكنني مؤمنة بحتمية تحطيم القيود«.

لم تجد فروغ التقدير الذي تستحقه في محيطها العائلي المضطرب أساسا، وكانوا يعترضون موهبتها ويثيرون الخلافات كلما قامت بنشر كتاب جديد لها.

كان شعرها يعبر عن هذه الروح الحائرة، ولو اختلفت مضامينه في كل مرحلة عمرية إلا أنه ظل واحدا في توقه للتحرر والعصيان، تقول في إحدى قصائدها:

 »لا أعرف ما أريده يا الله/ وعن ماذا أبحث ليلا نهارا/ وعن ماذا تبحث عيناي المتعبتان/ ولماذا حزين هذا القلب المحروق«. فهي تملك الصفاء والكدر في ذاتها:  »أنا شمعةٌ باحتراق قلبها/ يمكنها أن تنير بيتا مهجورا/ ولو أردت أن أنطفئ أخذل بيتا بأكمله..«

وهي الناقمة على مجتمعها الذي يُلصق بها التهم:  » أقسم أن آخذ من مدينتكم/ قلبي المرهق والمجنون/ آخذه إلى أبعد نقطة…«

عبّرت بجرأتها عن الكثير من نوازع النفس الإنسانيّة، وإشكالاتها العلائقيّة في الحب كما في العلاقة مع البشر، وحتى مع الإله:

تتحدث عن الهجر وبرودة العواطف:  »هربت… من سرير الوصال الدافئ إلى حضن الهجر البارد«. في مقاطع تتحدث بصوت النسوة المخذولات واللاتي لم يحصدن من الحب غير الأسى:  »وفّيْت بحب رجل/ يستحق الحب والأمل/ كلّ ما منحته حلال له/ سوى ذلك القلب الذي أعطيته بلا ثمن!/… كان يقول يحبني/ إذن كيف صبّ السمّ في كأسي؟!..«، وتقول:  »أيتها المرأة التي تبحث عن قلب ممتلئ بالصفاء/ لا تنتظري من الرجل الوفاء أبدا/ هو لا يعرف معنى الحب/ لا تقولي له أسرار قلبك أبدا… «

لقد تمرّدت على الأدوار النمطية التي حددها لها المجتمع، كإبنة، وزوجة، وأم، ومطلّقة لاحقا، فالشاعرة فروغ  »لم ترغب في حياتها أن تكون سبباً في الإضرار بسمعة عائلتها«، عانت الشاعرة من ظلم المجتمع، وسوء تقديره وتفسيره لحاجتها للتحرّر والكتابة، ففي قصيدة تتحدث بها إلى ابنها، لتخبره ما عانته:  »مع هؤلاء الزاهدين الذين يحبون المظاهر فقط/ صعبٌ ومحال الجدال/ مدينتي أنا يا طفلي/ منذ أمدٍ وهي بيت للشيطان«. وفي مكان آخر تقول:  »مدينتي كانت قبرا لأمنياتي«.

فهي كما يبدو عايشت بيئة غير آمنة نفسيا، سببت لها الأذى المعنوي:  »أن تضع صدرك على صدور الآخرين/ أن تلوث صدرك بحقد الآخرين..« وتكمل لتقول  »في الرأفة تجد سمّ الأفاعي/ في ابتسامة الأصدقاء تجد السمّ/ أن تضع الذهب في كف عابري السبيل/ وتضيع في زحمة الأسواق«.

في قصائد من مجموعتها  »العصيان« تبث الشاعرة الله كلّ أسئلتها الوجودية، وغضبها المكتوم، تسأله:  »متى تحررني«، هي في حالة غضب وشكوى، ترى أن الله هو الذي يضع عباده أمام خيار المعصية:  »كنت تجرّ العالم إلى النار/ وتقول من يعبد إبليس يحترق؟؟..« وتُكمل:  »جعلته يعصى ثم بعثته إلينا« وتضيف أن الله منح الشيطان كل شيء جميل، وأن إبليس نفسه غير سعيد بدوره:  »لو كُنتَ تركت الخيار لمصيره/ ما كنت ترى أثرا منه في هذا العالم؟« وفي قصيدة أخرى تسمي نفسها بالعبدة المتمردة:  »الويل لتمردي.. لطغياني/ إن تحدثت أو لم أتحدث/ مكاني هناك« في إشارة إلى الجحيم. فهذا العالم برأيها برزخٌ ملتهب، ممتلئ بالنار وصيحات الضجر. تتوق للتحرر وللهرب من القوالب  »هل أستطيع أن أفرّ لمرّة من هذا القالب. ؟«.

تطلب من الرب أن يجلس في قلبها ويدعها تكون نقية، وكما تريد أن تكون:  »امنحنا فرصة لنستجمع أمتعة هذا السفر«.

التوْق للخلاص

تجمع الشاعرة بين النزعة التشاؤمية، والروح المؤمنة بصفائها وقدرتها على التحليق. تسكب أحزانها على مكونات الطبيعة ومظاهرها ففي قصيدة بعنوان غروب أبدي:  »ليل أم نهار؟/ لا يا صديقي إنه غروب أبدي/ مع عبور حمام في الرياح/ كأنها توابيت بيضاء؟«.

يا لسوداوية الرؤيا وقفلة القلب التي كانت تعايشها، هي غربة الشاعرة في بيئتها ووحدتها.

تلقي على الشمس التحية وعلى النهر الذي يتدفق فيها، كما تقول، وعلى الغيوم  »التي كانت كأفكاري الطويلة/ على شجرة الصفصاف التي كانت تنمو بوجع/ التي كانت تعبر في المواسم الجافة… على أمي التي كانت تسكن في المرايا/ التي كانت صورة من وجهي العجوز«، ربما في هذه الصورة تعبّر الشاعرة عن علاقتها العاجزة بوالدتها، وعن الزوجة المتروكة والمهجورة التي كانتها هذه الوالدة جراء خيانة الزوج/ الأب، وعن نفس الشاعرة التي عانت زواجا تعيسا انتهى بالطلاق وهي في عمر صغير (21 عاما)، فهي تلجأ إلى  »مساحة الشعور الواسع«، فالبرد والعري في روحها المنهكة، وتصف ذلك بالصمت ما بين حديث العشاق، وتلصق كل مأساتها بالحب:  »عارية وجروحي كلها من الحب.. الحب..«.

في كثير من القصائد والمقاطع كانت نفسها تتوق للخلاص، والتحرّر من مادية هذا العالم بالموت:  »موتي سيجيء يوما/ بربيع مضيء من أمواج الضوء… موتي سيجيء يوما/ يوما من هذه الأيام المرة أو الحلوة/ يوما فارغا كهذه الأيام.. / ظل من الأمس أو الغد.. «،  »عيني ممرات ضيقة/ وجنتاي كالمرمر البارد..«، وفي قصيدة  »فلنؤمن بطليعة الموسم البادر« من ديوانها الأخير، قيل أنها نعت فيها نفسها، قبل وفاتها بمدة قصيرة، تقول:  »قلت لأمي انتهى كل شيء/ قلت دائما قبل أن تفكري يحدث كل شيء.. يجب أن نرسل إلى الصحف التعازي«، توفيت في حادث سيرٍ مريع وهي في الثانية والثلاثين من عمرها.

للشاعرة فروغ جولاتٌ لا حصر لها في عالم الشعر، وشعرها ينفتح على الكثير من الدراسات النقديّة والتأويليّة، وفي تناول المواضيع الجريئة وخرق التابوهات المجتمعية في مرحلة لم تكن تتمتع فيها المرأة بحريّة التعبير والظهور كما اليوم، لذلك هي قاومت كل التيّارات التي كانت تحاول هزيمتها وإبطال مشروعها الشعري، وما زالت إلى اليوم تعتبر أيقونة التحرّر النسويّ والروح الإنسانيّة الثائرة على القوالب والحدود الجامدة.

العدد 112 / كانون الثاني 2021