نافذة على الحياة.. لئن شكرتم

سهير آل إبراهيم

بدت غريبة بطاقة التهنئة بقرب حلول العام الجديد، والتي وصلتني أواخر عام أقل ما يمكن ان يقال عنه انه عام مختلف تماما عن كل ما سبقه من أعوام عشناها وحفرت لها اماكنا في الذاكرة. لا غرابة في تسمية عام 2020 بعام الجائحة أو العام الذي توقفت فيه الحياة الاعتيادية في معظم ارجاء هذا العالم منذ مطلعه ولغاية اليوم. لم تكن بطاقة التهنئة تلك غريبة بحد ذاتها، فتبادل بطاقات التهنئة بين الأهل والأصدقاء في مختلف المناسبات من الأمور المألوفة في حياتنا في الظروف الاعتيادية، ولكن غرابتها أتت من غرابة هذا الزمن الاستثنائي الذي نعيشه.

انقضى العام أو هو على وشك ان ينقضي إلا انه بالنسبة الى الكثيرين منا كأنه ظل يراوح في مكانه، فقد تتابعت معظم أيامه ومرت متشابهة يغلفها القلق والترقب ومتابعة اخبار ذلك الكائن المجهري والذي اجتاح العالم فترك آثارا لا شك انها لن تُنسى لأعوام وعقود كثيرة قادمة. أشهر طويلة ونحن نسمع يوميا عن اعداد كبيرة ممن فارقوا الحياة بعد ان خسروا النزال مع ذلك الفيروس اللعين، وعن اعداد أكبر من المصابين به في كل مكان تقريبا في عالمنا هذا ومن كافة الفئات العمرية. هذا غير الكارثة التي أصابت الاقتصاد في الكثير من البلاد نتيجة لذلك، شركات كبرى انهارت واعلنت الافلاس ومئات الالوف من العاملين فقدوا وظائفهم التي تشكل بالنسبة اليهم مصدر أمان وضمان العيش بعيدا عن الفاقة والعوز. الكارثة اصبحت مضاعفة بالنسبة للكثيرين، مع تكالب المرض والعجز عن ايفاء متطلبات الحياة الاساسية، ومع القلق من المجهول الذي تحمله قادمات الايام. بطاقة تهنئة في هذه الظروف جعلتني افكر هل تبقى لدينا ما يستحق التهنئة؟ لقد تعودنا سابقا ان نبتهج في نهاية كل عام بما حققناه من انجازات خلاله، ونرسم اهدافا جديدة نتطلع لانجازها في العام المقبل، لمواصلة المسير وتحقيق المزيد مما نود ونرجو، لكن هذا العام الذي يختتم العقد الثاني من الألفية الثالثة خلط كل الاوراق وسرق منا كل اسباب تلك البهجة، وترك ولا يزال يترك في نفوس الكثيرين من بني البشر في هذا العالم الواسع آلاماً وأوجاعاً وفواجعاً لا حصر لها.

لكن، مع محاولاتنا للتعايش والتأقلم مع هذه الظروف الاستثنائية في ظل كارثة بحجم هذه الجائحة، فإن التمسك بالأمل صار يدفع البعض، وربما الكثيرين منا الى التفكير وتَأمل ما لدينا من نعم والشعور بعظمتها رغم انها كانت قبل زمن ليس بالبعيد تبدو اعتيادية، عندما كانت ظروف الحياة تسير وفق نسق اعتيادي مألوف. عن نفسي أصبحت أشعر بالامتنان لقدرة رئتي مثلا على التنفس بدون الحاجة الى معونة من دواء أو جهاز تنفس، تلك الأجهزة المعقدة التي وللأسف لم تتوفر بالأعداد الكافية لإنقاذ كل المصابين الذين كانوا بأمس الحاجة اليها عندما كانت الإصابات في ذروتها من حيث العدد والتسارع. التنفس بشكل طبيعي نعمة لم أكن افكر بها سابقا الا عندما أصادف شخصا يعاني من صعوبة في التنفس، وتلك مصادفة لم تكن تتكرر كثيرا. وهذه واحدة من طبائع البشر؛ فنحن غالبا ما نألف المتاح الينا بيُسر فيغيب عن تفكيرنا مهما عظمت قيمته واهميته، ونركز تفكيرنا على ما نود الحصول عليه أو نتمناه. تتركز طموحات واهداف وامال الكثيرين منا خلال الظروف الاعتيادية على العمل والاسرة والسعي نحو تحقيق حياة مريحة مرفهة، فنشعر بالفخر وربما الامتنان مع كل نجاح نحققه في تلك المجالات، وفي خضم ذلك قد ينسى البعض منا ما حباه الله به من نعم.

لي صديقة عانت لسنوات طويلة من مرض عكر صفو حياتها، نوبات الألم التي كانت تنتابها كانت تنسيها جمال بيتها الفاره ورفاهية العيش المتاحة لها. ومع تطور العلوم والتقنيات الطبية، تمكن الاطباء من معالجتها فشُفيت من المرض بشكل كلي تقريبا، قالت لي يوما انها أصبحت، ومنذ أن تعافت من المرض، لا تتوقف عن الشكر؛ عندما تفتح عينيها صباحا تشعر بالامتنان لنعمة البصر، وعندما تغادر سريرها تشعر بالامتنان لقدرتها على الحركة والنهوض من فراشها، وهكذا تستمر على مدار اليوم تشكر الكون (وهذا ما تؤمن به) على ما اسبغ عليها من نعم بما تمتلكه من القدرة على السمع والبصر والاحساس والقدرة على ممارسة كل فعالياتها الحيوية بشكل مستقل وبدون الحاجة للمساعدة سواء من الاخرين أو من اجهزة يستعين بها الانسان عندما يصاب أي جزء من جسده بالوهن أو العطب. لا تتحدد النعم بالصحة الجسدية فقط وانما تتسع لتشمل انشطة وعلاقات الانسان بمحيطه الانساني، كمشاعر الالفة والمحبة التي يتبادلها مع الذين يرتبط معهم باواصر القرابة أو الصداقة وغيرها، وهذه لها اثر كبير على صحة الفرد النفسية.

هناك الكثير من البحوث والدراسات التي تبين أهمية تفكير الانسان بما لديه من نعم وأهمية مشاعر الشكر والامتنان الناتجة عن ذلك، والتي لها فائدة كبيرة لصحة الانسان النفسية ومن ثم الصحة البدنية. كثيرا ما تدفعنا ضغوط الحياة الى عدم الرضا والى التركيز على ما ينقصنا وعلى ما نحن بحاجة الى انجازه أو ما نطمح بالحصول عليه، ولكن رغم اهمية التفكير بالمستقبل والتخطيط له، الا ان الانغماس في التفكير بما ينقصنا غالبا ما يولد مشاعر القلق وربما مشاعر الاحباط أيضا، خاصة عندما نشعر بصعوبة أو عدم امكانية الوصول الى ما نصبو اليه أو ما نظن ان حياتنا معه ستصبح افضل واجمل. اما إحصاء النعم فعلى العكس من ذلك تماما، اذ نشعر من خلاله بالغنى والرضا حيث نفكر بما لدينا بدلا من التفكير بما ينقصنا.

من المفيد احيانا ان نقلل من الانشغال بتجميع صورة الحياة التي نتوق اليها، وندرب انفسنا على الاستمتاع بما نملكه وما متاح الينا. من المفيد ان نحاول العيش في الزمن الراهن، بدلا من الحسرة على ما فات أو القلق على ما سوف يأتي.

ارجو ان يكون العام الجديد أفضل من سابقه، وان يحمل للبشرية جمعاء ما يخفف من ثقل ووطأة مصاعب العام المنصرم وان يجلب معه من الخير ما يكفي لمواساة كل من تعرض الى النكبات بشكل أو بآخر خلال العام الفائت.

كل عام وانتم بخير وسلام.

العدد 112 / كانون الثاني 2021