مدينة خانيا في جزيرة كريت

رؤوف قبيسي

هذه هي المرة الأولى التي أزور فيها جزيرة كريت. من مطار  »شارلوروا« الذي يبعد ساعة بالسيارة عن العاصمة بروكسل، استغرقت الرحلة إلى هذه الجزيرة اليونانية المتوسطية نحو ثلاث ساعات. مطار الجزيرة صغير هادىء، أوهكذا بدا في تشرين الثاني (أكتوبر) الماضي، لأن الفصل السياحي فيها كان قد شارف على الانتهاء، لكن السبب الاساس هو جائحة كورونا التي أصابت البشرية، واثرت في حركة مطارات الدنيا باسرها. سبقني الى هذه الجزيرة الجميلة صديقان من الإمارت، الإعلامي محمود العوضي، ورجل الأعمال نجيب العوضي. لم يطل بهما المقام طويلا ليقعا في حب خانيا. إنها أكبر مدينة في الجزيرة بعد العاصمة هيراكليون.

اذا كانت هناك بقعة مشبعة بسمات البحر الأبيض المتوسط، فهي كريت. هي أكبر جزر اليونان وأجملها. مدينة هانيا (Chania) أوخانيا كما يلفظها أهلها في لغتهم اليونانية تقع على بعد ساعتين بالسيارة من العاصمة. هي مقصد غالبية السياح، لذلك سيكون الحديث عنها هو موضوع هذا المقال. تنقسم خانية إلى جزءين، الجديد والآخر القديم، أو البلدة القديمة كما يسميه أهلها. كتب السياحة تفيد أن تاريخها ضارب في الزمن. احتلها العثمانيون والمصريون ومكثوا فيها فترة من الزمن طويلة، وسكنها بعض اليهود الذي اعتادوا في تاريخهم الطويل أن يحطوا رحالهم قرب المرافىء، لسهولة التجارة، وربما أيضا للهروب في أزمنة المحن، حين يتعرضون للاضطهاد. لهم فيها اليوم كنيسهم الخاص، وما زال المكان يدعى بالحي اليهودي. هناك أيضا نحو 300 كنيسة ودير، بعضها غني بالنقوش والزجاج المعشق، المنقوش بفنون تعود إلى عصر النهضة، وأهمها كمعلم يستأهل الزيارة، كاتدرائية خانيا الرابضة في البلدة القديمة منذ القرن الثالث عشر.

خانيا ضنينة بسمعتها وشكلها ورونقها القديم. جمالها في بساطتها التي لا تعرف الكبرياء، وأهلها طيبون، ويحبون الغريب، والغريب أن كل من يزورها لا بد أن يقع في حبها. هي عامرة بالحياة ليلا ونهاراً، وأهم ما يميزها الأمان. يأتيها السياح بالملايين كل عام، وغالبيتهم أوروبيون. تقع خانيا في الجزء الجنوبي على الساحل الشمالي لجزيرة كريت، ويرجع تاريخها إلى مئات السنين قبل الميلاد، وفيها متحف يضم أثريات تشهد على تاريخها السحيق، منها اكتشافات من غرب جزيرة كريت، تعود للعصر الحجري الحديث، والعصر الروماني، بالإضافة إلى الكثير من الأعمال اليدوية الذهبية، والمجوهرات والسيراميك، والتماثيل النصفية الرائعة لأباطرة الرومان، خاصة الامبراطور هادريان. من معالمها المتحف البحري، الذي يشهد على علاقة المدينة مع البحر منذ عهد المينويين، والعهد البيزنطي، والفترة العثمانية، وصولا إلى الغزو الألماني خلال الحرب العالمية الثانية. في هذا المتحف آثار موزعة على طابقين من عروض فيديو ونماذج سفن، ولوحات وصور، ومعدات بحرية وغيرها من الآثار الرائعة.

تنبع أهمية خانيا التاريخية من موقعها كميناء هام منذ عهد دولة البندقية في القرن الرابع عشر، وهو من أهم معالم الجذب السياحي في خانيا، ويمتلئ بقوارب الصيد الخشبية، وفيه ترسانات لإصلاح القوارب. تذكر الكتب أن المنطقة كانت مستوطنة منذ ما يقرب من 5 آلاف سنة، عندما أسس المينويون القدماء دولتهم في العصر البرونزي، وكثير من الحفريات التي لا تزال قائمة تدل على ذلك. وقعت المدينة تحت الحكم البيزنطي من 395 إلى 824، ثم حكمها المسلمون حوالى 100 سنة، ثم حكمتها الدولة البيزنطية مرة أخرى حتى عام 1204 لتقع في أيدي حكام البندقية أثناء الحملة الصليبية الرابعة، وكان حكمها صارما وقمعيا إلى يوم سقطت القسطنطينية عام 1453، لتصبح شبه مستقلة، ولكن بهوى بيزنطي. استولى العثمانيون على كريت عام 1645 ومكثوا فيها حتى عام 1878، ثم رحلوا على إثر ثورات اليونانيين ضدهم، إلى يوم حصلت الجزيرة على استقلالها الذاتي، وأعلن الاتحاد مع اليونان.

تعتبر خانيا إحدى أجمل المدن اليونانية، وكثيرون من أهل البلاد يمضون فيها أشهر الصيف الحارة، إذ تتمتع بجمال رائع وشوارع مرصوفة بالحصى، بجوار مزارات تاريخية تعود إلى عهود الدول التي حكمتها. بعض من التقينا من السياح الذين يترددون إليها ويعرفون اليونان جيدا يقولون إنها أجمل مدينة يونانية، أما أهلها المحبون لها فشهادتهم فيها مجروحة بالطبع! مهما يكن، خانيا بلا شك، مكان مثالي لقضاء فترة من الراحة، خصوصا في فصلي الربيع والصيف. أما الشتاء فيها فمعتدل، وفي أزمنة ما قبل كورونا، كانت مقصداً سياحيا، حتى في فصلي الخريف والشتاء، حيث البرودة على أشدها في دول غرب أوروبا.

من الأشياء الممتعة التي يمكن الزائر أن يراها في خانيا، مرفأها التاريخي الذي بني في القرن الرابع عشر، والذي على جوانبه تمتد المطاعم والمقاهي، وكذلك المنارة التاريخية التي بنيت في عهد الدولة البندقية وطولها نحو 21 متراً، وهي إحدى اقدم المنارات في العالم وقد بناها أحد المهندسين المصريين في القرن الرابع عشر. أما المسجد الذي بناه العثمانيون فيها فقد تحول إلى متحف للفنون.

في المدينة سوق عامة اسمها  »أغورا« حيث متاجر الحلويات والخضار والفاكهة والأسماك والزيوت اليونانية المشهورة، وهي مكان قديم مسقوف بني في العام 1913 لا وجود يذكر للعرب في خانيا، والمقيمون منهم، عمال مصريون وسوريون، وبعضهم من دول المغرب العربي. من السوريين بائع كستناء متجول صار معروفا لدى أصحاب المتاجر في البلدة القديمة. حين ينادي بصوت عال على ثماره المشوية على الجمر، لا يقول كستناء كستناء، بل فياغرا فياغرا، ولا تملك حين تسمعه إلا أن تضحك. يبقى أن أجمل ما في خانيا لحظات الغروب حين تغرق الشمس في الأفق على صفحة البحر البلورية، ولا شك في أن من يشاهد هذا المنظر، لا بد أن يعود إلى خانيا وقد حمل في نفسه ذكريات عطرة.

أخيراً، قد تتساءل ايها القارى الكريم، ما إذا كان في خانيا أشياء تزعج السائح؟ الحق انه في الشهر الذي امضيناه هناك، لم نر أشياء يمكن أن نقول إنها كانت سلبية. الشيء الوحيد الذي تعرضنا له شخصياً، ويمكن أن نصفة بأنه كان سلبيا وإيجابيا في الوقت نفسه، هو الزيادة التي طرات على وزننا بفعل المآكل الشهية التي طبخها لنا صديقنا الدبوي محمود العوضي، من لحوم وأسماك ومرق وأرز وما شابه من الوان الطعام، وزينها بما لذ وطاب من الأعشاب الطرية، والبهارات المعروفة لدى أهل الإمارات، ولا يسعنا الآن، ونحن ننهي كتابة هذا المقال، إلا أن نتمنى له كل الخير، ونقول له عن بعد: سلمت يداك، ونقول له في الوقت نفسه: سامحك الله!