يمنى العيد والمتابعة الدقيقة للتحوّلات الأدبيّة

بيروت من ليندا نصار

تواصل الناقدة اللبنانية يمنى العيد متابعتها الدقيقة لكل التحولات التي يعرفها الأدب العربي الحديث في تجاربه المتعددة، كيف لا وهي من القامات النقدية الرئيسة التي أثثت تاريخ النقد العربي الحديث برؤى نقدية منذ أطروحتها الجامعية “الدلالة الاجتماعية لحركة الأدب الرومنطيقي في لبنان”، حيث لم تقف عند حدود استعارة المفاهيم التي

الناقدة اللبنانية يمنى العيد

كانت رائجة في الغرب بقدر ما سعت إلى محاورتها، والانتقال بها من حيز الممارسة الآلية على النصوص إلى البحث فيها عن إمكاناتها الخاصة.

   تحدّثنا الناقدة عن تودوروف، وجينيت وبارت، الذين ساعدوا النقد على البحث في خصائص بنية العمل الأدبي الفنيّة، وبالتالي تمييزها وتقييمها…وتعتبر أنّ اقتصار النقد على هذه البنية الفنيّة، أو المعادلة بينها وبين العمل الأدبي، أفضى، لدى البعض، إلى شكلانيّة فارغة تعزل الأدب عن حوضه الاجتماعي الذي لا حياة له  من دونه  فقد اعترف تودوروف بمسؤوليّته عن هذا المآل، وهي مسؤوليّة متعدّدة الأسباب والوجوه. من أبرزها ما هو متعلِّقٌ بمشاركته بالسّياسة التعليميّة (ما بين عامي ١٩٩٤و٢٠٠٤) التي تضعها وزارة التربية الوطنيّة الفرنسيّة، هذه السياسة التي قامت على تعليم التلامذة، في المدارس الثانويّة، كيف يُقرأ الأدب وليس ما يقوله هذا الأدب. ما يعني التعامل، فقط، مع بنية الشكل واعتبار ?الأعمال الأدبيّة مجّرد أمثلة إيضاحيّة لرؤية شكلانيّة أو عدميّة?، ما أدّى إلى العقم والسطحيّة والدوران في فراغ الذات، بحيث غدا النتاج الأدبي في واد ومثل هذا النقد في وادٍ آخر،  وربما في وادٍ ينبئ بالخطر.

  وعن الخطر الذي بات يحيط بالأدب  تعتبر الناقدة يمنى العيد أنّه ?بالنسبة إلى تودوروف تمثّل هذا الخطر في عزوف التلامذة الثانويّين عن التخصّص الجامعي بدراسة الأدب، وبالتالي عدم إقبالهم على قراءة الأعمال الأدبية، ومن ثم عدم مساهمتهم في تقييمها وإنتاجها. وهذا أمر يطول المسألة الثقافيّة باعتبار هويّتها وأثرها في الواقع الاجتماعي. وقد تمثل هذا الخطر، فعليّاً، في نزوع الأدب الفرنسي إلى شكلانيّة ما بعد حداثيّة اعتبرت النصّ مجرّد لغة، أو مجرّد عالم من الإشارات اللغويّة قائم بذاته.  وهذا أمر بالغ الخطورة لا لأنّه يعفي الأدب والأدباء، والثّقافة التي ينتجونها، من مسؤوليّتهم وحسب، بل لأنّه يشرّع، وبشكل غير مباشر، للحروب التي يشنّها أسياد الأنظمة الرأسماليّة (المتوحشة) على البلدان النامية طمعاً في ثرواتها الطبيعيّة (الحرب على العراق مثالاً).هكذا، وبأثرٍ من اعتبار النظام التعبيري بنيةً منفصلة (وليس فقط مستقلّة) عن المرجعي الاجتماعي، تحوّل القصف الصاروخي على العراق (٢٠٠٣)،  بقراءة ما بعد حداثيّة، إلى مجرّد بنية من الإشارات (الصاروخيّة) تمارس، في الفضاء، لعبها الشّكلاني المعزول عن حقيقته الواقعيّة الناطقة بدماء الشعب العراقي وأشلاء أبنائه ودمار ما بنوه من عمارة وحضارة.

    لكن فيما يخّصّ الأدب، فهي لا تعتقد أنَّ أدبنا العربي في خطر. بالنسبة إليها إنّ نظامنا التربوي التعليمي الثانوي والجامعي، لا يعتمد، شأن النظام الفرنسي، النظريّة البنيويّة، بالإضافة إلى إقبال الطلاب، في البلدان العربيّة، على الاختصاص بالأدب، وإن كان ذلك لأسباب تخصهم ولا تخدم الأدب بشكل مباشر. من هذه الأسباب تشير الناقدة يمنى العيد إلى سهولة دراسته، وعدم إلزاميّة الحضور، وارتفاع نسبة النجاح، وإمكانيّة إيجاد وظيفة (التدريس)، مقابل ما تتطلّبه الاختصاصات الأخرى من إمكانيّات، وما تستوجبه من جهد.

  وتضيف أنّه يمكن القول أنَّ الأدب، في البلدان العربيّة، وخاصّة الأدب السردي، يعاني لا خطره، بل كيفيّة تطوّره وتميّزه باعتبار ما يحكيه، أي باعتبار علاقته بما نعيش من حروب ومآسي رافقتْ متغيّرات تاريخنا الحديث. فقد عرف أدبنا، بدءًا من منتصف القرن العشرين، ازدهاراً ملحوظاً تلازم مع شغل الشعراء على موسيقى الشعر وصوره بما يجعلها، فنياً، أكثر قدرة على التعبير عن حالنا وما نعانيه. كذلك عرفت الرواية معاناتها الإبداعيّة التي تمثّلت في التجريب، وفي السؤال الذي طرحه بعض الروائيين العرب على أنفسهم بخصوص كيفيّة القول، القول السردي الفنّي الخاص بـ?حكايتنا?.كذلك     مؤخراً، ومع موجة الإقبال، عند الدول العربية، على الكتابة الأدبيّة بصفتها تعبيراً عن الذات، لوحظ اتسام هذه الكتابة الأدبيّة، وخاصّة الروائيّة، بالتسرّع، وعدم حرص كُتّابها، خاصّة الشباب، على ما يجعل ما يكتبونه عملاً إبداعيّاً يضيف ويتميّز بما يخوّله الحياة.

 ولعلّ الطابع التجاري لعدد كبير من دور النشر العربيّة، وتراجع النقد الصحافي التقييمي، ونزوع بعضه إلى المجاملة، إضافة إلى رواج النشر الإلكتروني… كل هذا ساهم، بنسبة عالية، في تدنّي مستوى بعض هذه الكتابة الأدبيّة.

 وفي تساؤلاتنا معها عن الخطر الذي يحيط ب الأدب في خطر، تقول يمنى العيد إنَّ حياتنا كلّها في خطر. نحن أناس في هذه القرية العالميّة الصغيرة، محكومون بأسياد هذا النظام الليبرالي المتوحّش.

إنّ هيمنة الرواية التجاريّة على سوق القراءة في العالم العربي مقارنةً بالرواية الأدبيّة ولا سيّما مع ظهور ذائقة قرائيّة جديدة استطاعت أنْ تصنع نجومها هذا يعني غيابٌ عامّ لسلطة النقد الأدبي بالإضافة إلى التحولات الاجتماعيّة والاقتصاديّة والثقافيّة أسهمتْ في تعزيز موقع هذا النوع، وهذا الأمر يجد تفسيره في عدّة أسباب تضافرت وأدّتْ إلى هذه الظاهرة، ظاهرة وفرة الإنتاج وطابعه التجاري.  وتعزو يمنى العيد أسباب ذلك حاجة جيل الشباب الراهن، جيل ما بعد الحرب الذي يعاني ذيولَها، إلى التعبير عن ذاته، وإثبات حضوره، إضافةً، إلى ذلك، تراجع النقد الصحافي الجدّي ونزوع بعضه إلى المجاملة، وتساهل بعض دور النشر، أو تواطئهم مع بعض هؤلاء الكتّاب الذين يساهمون، ماديّاً، بتكاليف الطّباعة، كما يسعون للترويج لنتاجهم في وسط اجتماعي غدا يميل، بمعظمه، إلى قراءة ما هو سهل ومثير، وتتمرأى فيه كتابات الذّات ما يحفّز على التحرّر منها.

 وتعود الناقدة إلى تودورف، من حيث العلاقة بين مناهج التدريس والإقبال على قراءة الأدب وإنتاجه، فتشير إلى أنّ بعضُ التعليم الجامعي عندنا الذي يقتصر على الحفظ الببغائي للمحاضرات الجاهزة التي يكتفي بعض الأساتذة بتوزيعها على الطلاب، قد أدّى إلى رضا معظم شباب هذا الجيل بقراءة ما هو سطحي بصفته، وفي حدود ما تعلموه. هو النتاج الأدبي القابل لقراءتهم و?المثري?، حسب ظنهم  لثقافتهم.

 هكذا لئن كان اعتماد البنيويّة في التدريس في فرنسا قد أدّى إلى انحسار الإنتاج الأدبي، فإنّ ?الببغائيّة ? في تدريس الأدب عندنا أدّى، على وفرته، إلى سطحيّة معظمه.

 وعن قراءتها واقع الرواية الأدبيّة في العالم العربي.

كذلك  تحدّثنا الناقدة يمنى العيد بدايةً إلى هذه الوفرة التي يتسّم بها الإنتاج الروائي العربي، حاليّاً، على تنوّع موضوعاته، واختلاف أساليبه السرديّة الفنيّة، وتفاوت مستوياته الإبداعيّة. وهو ما سمته بـ?الطفرة? التي، سوف يغربلها الزمن والتي طالتْ معظم الدول العربيّة، إنْ لم نقل جميعها، بعد أن كان، هذا الإنتاج الروائي، في بداياته، يكاد أن يكون مقتصراً على بعض هذه الدول.

  كذلك تحرّرت معظم الكتابة الروائيّة العربيّة من القمع وسلطة الرقابة السياسيّة التي كانت تمارسها بعضُ الأنظمة العربيّة عليها.

 وقد كان هذا التحرّر بأثرٍ من الانتفاضات الشعبيّة الثوريّة وما آل إليه بعضها من فوضى وحروب أهليّة، ومآسي إنسانيّة، ما استدعى نوعاً من الكتابة قادرة، من منظور إنساني، على إبداع عالم متخيّل يدينُ هذه المآسي، وكلَّ تسلّطٍ وقمع وحرمان.

   وتنهي الناقدة يمنى العيد بأنه يمكن الاعتبار بأنّ الرواية العربّية أثبتت حضورها وتميّزها بهويّة اتسمت بنزوع الخاصّ إلى الإنساني العامّ.

العدد 113 / شباط 2021