فاضحك فان الشهب تضحك

من الأقوال المأثورة للممثل الكوميدي شارلي شابلن أن اليوم الذي يمر بدون ضحك هو يوم ضائع. لا أشك ان الكثيرين يتفقون معه سواء أكانوا يعملون في مجال الكوميديا او بعيدا عنها.

علمونا في الصغر ان الضحك بدون سبب قلة أدب، و كثيرا ما أثارت تلك العبارة حيرتي، ففي الطفولة كنّا نضحك كثيرا، كان هنالك دوما سببا او اسبابا تثير الضحك لدينا. لم افهم حينذاك كيف يمكننا ان نضحك بدون سبب، و كيف يكون الضحك قلة ادب؟ ادركت بمرور الزمن و من خلال مواقف و حالات عديدة شهدتها ان الضحك احيانا يكون قلة ذوق و قلة انسانية و بالنتيجة قلة ادب. بعض المسرحيات العربية التي شاهدتها قبل سنوات تضمنت امثلة و تفسيرا حيا لذلك القول، اذ يظهر على المسرح شخص مختلف عن المألوف و السائد لدى عموم الناس كأن يكون طول قامته أقصر بكثير من معدل الطول السائد او ان يكون حجم جسده اكبر بكثير من المعتاد. ما إن يظهر ذلك الشخص على خشبة المسرح حتى تتعالى ضحكات جمهور المشاهدين، تلك المشاهد كانت تحزنني كثيرا، بقدر ما كانت ضحكات الجمهور تثير استغرابي و امتعاضي، فذلك الشخص على المسرح كان برأيي مثل فريسة حية تنهشها أعين المشاهدين و ضحكاتهم. تقول الروائية الانكليزية أنجيلا كارتر أن ضحكة الطفل تفقد نقاءها عندما يبدأ ذلك الطفل بالضحك لمرأى المهرج !

نعيش الان ظروفا استثنائية حيث امتد الوباء الذي بدأ في مكان ما من هذا العالم منذ اكثر من سنة فاجتاح معظم البلاد حاصدا في طريقه و لا يزال مئات الالوف من الارواح، تاركا في قلوب محبيهم الحزن و اللوعة. الوباء وفقا لتعريف القاموس هو كل مرض شديد العدوى سريع الانتشار من مكان الى مكان، فهل يمكن ان يكون الضحك وباءً؟

رغم ان الضحك ليس مرضا، بل هو يرتبط دوما بالفرح و البهجة، الا ان ما حصل في تنزانيا الحالية عام ١٩٦٢ جعل العلماء يعتبرونه وباء .

في الثلاثين من شهر كانون الثاني من العام المذكور أصابت هستيريا الضحك ثلاث طالبات في احدى المدارس هناك، و سرعان ما انتشرت تلك الهستيريا لتشمل معظم طالبات المدرسة، و منها امتدت الى مدارس اخرى في قرى مجاورة. أغلقت المدارس بسبب ذلك لعدة أشهر لعدم استطاعة الطلبة التركيز و اداء واجباتهم خلال الدروس، فقد استمرت نوبات الضحك لدى ( المصابين ) لفترات تراوحت بين عدة ساعات الى ستة عشر يوما. انتهى الامر تماما بعد ما يقارب السنتين، و قد عزا العلماء تلك الحالة الى التوتر الشديد الذي يصيب الانسان المقهور الذي يمنعه الخوف من التعبير عن آرائه و مشاعره و احتياجاته.

الضحك الصحّي، إن صح الوصف، يحفز لدى الانسان مشاعرا ايجابية تساعد بدورها على التفكير الابداعي و تعزز قدرته على تحمل الظروف الصعبة التي قد تواجهه.  هذا على المستوى الشخصي، اما على الجانب العام فان الضحك يعزز الروابط بين الناس، فالانسان كما تقول الدراسات يضحك مع اصدقائه اكثر مما يضحك بمفرده عندما يشاهد او يستمع الى برنامج مضحك مثلا .

يتزايد عدد المختصين الذين يدعون الى استخدام الفكاهة و الضحك وسائلا لتحسين بيئة العمل و تعزيز الروابط بين العاملين، تعزز هذا الرأي بعض الدراسات في هذا المجال، فالفكاهة و الضحك تساعد على اذابة بعض الحواجز بين الغرباء الذين يتشاركون مكان العمل و تخلق بينهم جوا من التقارب و الالفة.

للضحك فوائد كثيرة لصحة الانسان النفسية تتبعها الصحة الجسدية، إذ ان التعود على اخذ الامور بجدية أقل يخفف من حدة التوتر الذي يشعر به الانسان في المواقف الصعبة. تلك الفوائد جعلت المختصين يشجعون على جعل الفكاهة و الدعابة و الضحك اجزاء مهمة في البرنامج اليومي لحياة الانسان. قد لا يبدو ذلك يسيرا بالنسبة الى البعض منا، خصوصا مع الحياة في هذا الوقت و ما تفرضه ظروف الحظر من تباعد بين الناس، او ما تفرضه ظروف الحياة المعاصرة بشكل عام، بعيدا عن الجائحة و افرازاتها، من عزلة و تباعد بين الناس، لكن الانسان يستطيع ايجاد ما يضحكه إن اراد ذلك حتى و ان كان بمفرده، من خلال مشاهدة البرامج و الافلام الكوميدية مثلا.

لا اجد الموقف من الضحك واضحا في ثقافة مجتمعنا، بل يبدو لي ان البعض يتوجس منه او يتوقع الشر بعده خصوصا عندما يتبع ضحكة نابعة من القلب بالقول (اللهم اجعلها ضحكة خير)، و لا عجب في ذلك فالانسان في بلادنا يعاني الكثير من الاحباط في حياته و يُجبر على التعايش مع الكثير مما يجعل الامل بما يجلبه المستقبل من خير يتضاءل لديه بسبب انظمة حكم لا يشكل لديها المواطن و حقوقه قيماً عليا.

جميل ان يضحك الانسان مع رفاقه و يستمتع بصحبتهم، لكن الضحك يفقد نكهته العذبة و يصبح مرا قاسيا عندما يضحك الشخص على الاخرين او يهزأ بهم. جميل ان يعرف الانسان متى يضحك و متى يمتنع عن الضحك فقد يكون تأثيره عكسي في المواقف التي تتطلب الجدية . سمعت عن شخص هنا دعي الى مقابلة عمل بعد تقديمه على وظيفة يحمل المؤهلات المطلوبة لها، لكن قرار لجنة المقابلة جاء بعدم قبوله لانه و كما يبدو زاد من جرعة الفكاهة في اجاباته على اسئلتهم، بدا لهم هزليا ساخرا فرفضوا طلبه للعمل معهم خشية ان لا ينجح في اداء الدور المطلوب لتلك الوظيفة و التي كانت تتطلب قدرا من الجدية و الحزم. للاسف لم تشفع الكفاءة و المؤهلات العلمية لذلك الشخص و لم تمكنه من الحصول على وظيفة كان يرجوها، فقد احبطته عدم معرفته الحد الفاصل بين الجد و الهزل، و قد قالها السابقون ان كثرة الهزل تُفقد الهيبة، و تُفقد الوظيفة ايضا كما في حالة ذلك الشخص.

ما احوجنا اليوم الى الضحك.. ما احوجنا الى ما يدخل البهجة الى نفوسنا و لو لفترات قصيرة تتخلل الاجواء القاتمة التي لا تزال تغلف عالمنا و منذ بدء الجائحة.. ما احوجنا الى ما يبعد اشباح الاحباط و الخوف و اليأس و لو بقدر بسيط. قد يملك العلماء ما يبث الامل في نفوس الناس من خلال جهودهم و تفانيهم لوضع حد لهذا الوضع العالمي المأساوي، و لكن تأثير الضحك في هذه الظروف  مثل فرشاة الفنان التي تضيف الوانا الى لوحة الحياة التي استنزف الوباء اشراقها. او كما شبهه الشاعر بالشهب التي تشع في ظلمة الليل؛

فاضحك فإن الشهب تضحك والدُّجى

متلاطم ولذا نحب الأنجما …

العدد 113 / شباط 2021