المستشرقون- داود صموئيل مَرْغُولِيُوث

David Samuel Margoliouth

1940 – 1858

المونسنيور الدكتور شفيق ابوزيد- (جامعة أكسفورد)

مقدمة: تاريخ وأهداف الاستشراق

هدف الاستشراق Orientalism هو دراسة حضارات الشرق المتعددة، وقد بدأ بالظهور في زمن الإمبراطورية اليونانية-الهلَّنيَّة والرومانية، واستمر خلال الفترة الصليبية ?وبلغ أوجه مع الامبرطوريات الأوروبية الحديثة التي شجعت الاستشراق لدراسة الحضارات الفرعونية والبابلية والكنعانية والمسيحية الشرقية والإسلام، وغيرها من الحضارات القديمة. وبسبب الاستشراق نشأت المعاهد الاكاديمية الكبرى في المدن الأوروبية لاستكشاف ودراسة

David Samuel Margoliouth

حضارات الشرق، خصوصًا في باريس ولندن وبرلين وروما ومدريد وأكسفورد وكمبردج والسوربون، الخ. وتخرج من هذه المراكز الشهيرة كبار العلماء في الحضارات الشرقية.

      لا يمكننا حصر الاستشراق بحضارة واحدة او فكر واحد، بل هو متعدد الوجوه والهويات. وبالتالي، كتابات المستشرقين لا تُحصى، فالبعض منها اتّسم بالتعصب واستعلاء الغرب على الشرق، والبعض تميز بحب الشرق والتغنّي به، والبعض الآخر عمد الى تشويه صورة الشرق لغايات عنصرية وسياسية.

      غاية هذه الدراسة القاء بعض الأضواء على كبار المستشرقين، الذين خدموا الفكر المشرقي بنشرهم التراث العربي في جامعات الغرب الشهيرة. كما تهدف هذه الدراسة الى ذكر الدور الكبير الذي لعبه الاستشراق بمد جسور الحوار والتفاعل الثقافي بين الشرق والغرب.

?- شخصية مَرْغُولِيُوث المميّزة في عالم الاستشراق

لا مغالاة في القول ان داود صموئيل مَرْغُولِيُوث كان في اثناء العقود الأولى من القرن العشرين، إمام المستشرقين لدى العام والخاص في الإمبراطورية البريطانية. فانه بفضل منشوراته العلمية، وعلومه الواسعة، وشخصيته البارزة، والمركز الذي شغله في الجمعية الاسيوية الإنكليزية The Royal Asiatic Society، كان يُعدّ في عالم الاستشراق بأجمعه، ممثل الدروس الشرقية في بريطانيا العظمى. فضلًا عن ان مدة تدريسه تلك العلوم في جامعة أكسفورد الشهيرة قد طيّرت صيته في جميع الأوساط حتى الى اقاصي البلاد الإسلامية الشرقية، وأدخلت اسمه في عالم الأسطورة.

?- أستاذ اللغة والآداب العربية في جامعة أكسفورد

وُلد مَرْغُولِيُوث سنة 1858 في إنكلترا، ودرس في جامعة أكسفورد الآداب القديمة، وتعلَّم اللغة العربية، فظهرت براعته في لغة الضاد عندما نقّح ونشر الترجمة العربية لكتاب ارسطو في الشعر في سنة 1887، فَعِيِّن في سنة  1889استاذًا للغة العربية وآدابها في جامعة أكسفورد، وبدأ في سنة 1893 بنشر نُخبة من الأبحاث العلمية، أهمها الكتابات العربية الموجودة على أوراق البَردَى في مكتبة جامعة أكسفورد (Bodleian Library). وفي سنة 1898 أهتم بترجمة رسائل ابي العلاء الى الإنكليزية، وبنقل قسم من تفسير القرآن للبيضاوي الى الإنكليزية في سنة 1894، فبرهن على تضلعه من اللغة العربية، وعلى براعة غير عادية في حلّ بعض ألغازها العويصة.

?- المؤلفات الأولى عن الدين الاسلامي

      تزوج مَرْغُولِيُوث في سنة 1896 جِسِّي پاين سميث Jessie Payne Smith ابنة العالم الإنكليزي الشهير باللغة السريانية روبرت پاين سميث Robert Payne Smith، فعاونها سنين طويلة على نشر كتاب والدها “الكنز السرياني” Thesaurus Syriacus الذي ظهر في سنة 1907. وفي سنة 1905 ظهر كتابه المعروف “محمد وضحى الإسلام” Mohammad and the Rise of Islam، ونُشِر في مجموعة “كبار الرجال وابطال الأمم” Heroes of the Nations، فلفت اليه أنظار العالم واشتهر به المؤَلف اختصاصيًا في الشؤون الإسلامية. وتلاه بعد ذلك سنة 1911 كتابه الآخر “المحمدية \ الدين الإسلامي” Mohammedanism، ثم سلسلة من المحاضرات القيّمة في موضوع اتساع الدين الإسلامي عند ظهوره The Early Development of Mohammedanism، نُشرَت سنة 1914 مع عدد غير يسير من المقالات المختلفة في كثير من المجلات ودوائر المعارف (Encyclopaedia)، وقد نالت هذه الكتب استحسانًا كبيرًا لدى الجمهور وحازت نجاحًا باهرًا، فكانت المثال الأعلى في بلاد الإنكليز لما يصحّ قوله في هذه المواضيع.

?- انتقادات لاذعة وغضب اسلامي

تعرّض مَرْغُولِيُوث الى انتقادات المستشرقين، رغم اعترافهم باقتدار المؤلف وعلمه وسعة اطلاعه في الشؤون الإسلامية، لا سيما في كتابه الثالث الذي جاء فيه بإيضاحات وحلول لمسائل كانت غامضة من قبله، إلّا أنهم لم يرتاحوا لما كان يظهر في لهجته من الاستهزاء وقلة الاعتبار، مما أثار غضب القرّاء المسلمين في الغرب والشرق. وهذا الروح كان يدعو الى التحفظ أمام الآراء التي كان يُبديها، كلما كان الحكم منوطًا بشعور المؤلف وبنظريته الخاصة. وجاء في كتابه الأخير في السنة 1924 عن “العلاقات بين العرب وإسرائيل” Relations between Arabs and Israelites، فعرّضه للنقد نفسه مع ما جمع فيه من المعلومات الواسعة والوثائق المتينة رقم حجرية وتقاليد أدبية قديمة.

      ورغم ان المنتقدين كانوا اقل منه علمًا ومكانًا، لم يلبث ان اثّر انتقادهم في وضعيته، فعدّل موقفه نوعًا ما بالتدريج، وكان هذا العدول بينًا في رجوعه عما كتبه في مقال نشره سنة 1925 في مجلة الجمعية الاسيوية Journal of Royal Asiatic Society جاء فيه ان لا صحة على الاطلاق للشعر الجاهلي. وقد كان التعجب عامًا من هذا الرأي، وان لم يعبّر المستشرق عنه دائمًا. واما نظريته في هذا الشأن فلم تكن راكزة على البراهين التي تقدمتها في المقال، ولكن على رأي خاص في النظم كان قد عرضه في كثير من مقالاته الأخرى. ومع انه لم يقرّ قط بأصلية الشعر الجاهلي أيًّا كان، فإنه لم يبقَ على رأيه هذا بصورة جازمة، كما يتبيّن لنا ذلك من ملاحظة ابداها في مقال له في المجلة نفسها سنة 1927 يلطّف فيها موقفه السابق.

?- طه حسين وداود صموئيل مَرْغُولِيُوث

يقول الاديب والباحث فؤاد افرام البستاني في كتابه “الروائع”، ص 17-19، ان الاديب العربي طه حسين استقى من مقال مَرْغُولِيُوث عن الشعر الجاهلي نظريته المعروفة في كتابه “في الشعر الجاهلي”. والحق يقال ان النظريَّين كليهما، المستشرق الإنكليزي وتلميذه المصري، مدينان فيما في بحثيهما من نظرات معقولة لابن سلَّام.

?- براعة مَرْغُولِيُوث في التعريب ومعرفته الكبيرة للآداب العربية

شعر مَرْغُولِيُوث بمواهبه الخاصة للاستشراق، وبنوع الأبحاث التي توافقه، أثناء جهوده في تعريب بعض النصوص العربية وضبطها بالنشر. من    ذلك ان ذاكرته كانت عجيبة تحضّر له، دون عناء، المعلومات الواسعة التي جناها في مطالعاته السابقة. فكانت له بذلك معاونًا لأبحاثه ومنشوراته نادر المثال. واشتهر خاصة في هذا الحقل بنشره كتاب “معجم الادباء” لياقوت، الذي استغرق منه عشرين سنة، من 1907 الى 1927. ولكن نشره لكتاب الرسائل لأبي العلاء، وكتاب “نشوار المحاضرة واخبار المذاكرة” للتنوخي سنة 1921 كان أدلّ لدى المستشرقين على علمه ومقدراته. اما براعته في التعريب فكانت عظيمة تجمع بين دقة المعاني وسلاسة التعبير. تجلّى ذلك خصوصًا في تعريبه “كتاب الاخبار” لمسكويه سنة 1920 و”نشوار المحاضرة” للتنوخي، و”تلبيس ابليس” لابن الجوزي المنشور حديثًا في مجلة الثقافة الإسلامية (Islamic Culture)

?- خدماته الادبية للمؤسسات العلمية

اما خدماته لمجلة الجمعية الاسيوية الإنكليزية Journal of the Royal Asiatic Society فلا حاجة الى ذكرها. فالوسام الذهبي الذي أهدي له سنة 1938 جاء أوضح دليل على ذلك. كان اولًا تكريمًا لمهارته الجبارة في أبحاثه العلمية، ثم شكرًا لأتعابه المصروفة في خدمة الجمعية مدة عشرين سنة عضوًا في مجلسها ثم نائب رئيس، ورئيسًا. وكان مَرْغُولِيُوث عضوًا في الاكاديمية الإنكليزية، وعضوًا في جمعية المستشرقين الألمانية. وقد زار مرارًا الشرق الأدنى، فاستقبله هناك كبار المسلمين بالحفاوة الشرقية المعهودة، رغم اختلاف مذهبه عن مذاهبهم. وعندما أُسّس المجمع العلمي العربي في دمشق سنة 1920، كان مَرْغُولِيُوث من أول أعضائه الأجانب. وقد دعته جامعة كالكوتا Calcutta في الهند سنة 1929 الى إلقاء محاضرات هناك.

دراسات عن المؤرخين العرب- David Samuel Margoliouth

العدد 114 / اذار 2021