لبنان في سجال الخليج وإيران

جدل بين باريس وطهران بانتظار جلاء سياسة بايدن في الشرق الأوسط

محمد قواص (*)

ليس جديدا في تاريخ لبنان الحديث أن مسألة الاستقرار وعدم الاستقرار لا تعود فقط إلى معطيات داخلية بحتة. صحيح أن الفسيفساء الاجتماعية والطائفية هي باب من أبواب تعقد الشأن السياسي في البلد، لكن الصحيح أيضا أن البلد، وعلى الرغم من الغرور الذي يصيب أهله ونخبه السياسية، صغير في مساحته الجغرافية وثقله الديمغرافي وانتاجه الاقتصادي، على النحو الذ يجعله حكما، شأنه في ذلك شأن كافة الدول الصغيرة في العالم، مرتهن لمزاج الجوار ولقوة التحولات والحسابات الخارجية.

على هذا تعلق مصير لبنان في التاريخ الحديث تارة بموقع فرنسا وتارة بصعود مصر الناصرية وتارة بقوى اليسار والايديولوجيات القومية في دمشق وبغداد وغيرها، ويتعلق هذه الأيام بكل التوازنات المتضادة بين الخليج وإيران وأميركا وأوروبا وروسيا وإسرائيل وربما قوى صغيرة وكبيرة أخرى. بيد أن كافة تلك العوامل تنتظر جلاء الهوية السياسية لإدارة الرئيس الأميرمي جو بايدن في واشنطن.

واشنطن وإيران

ليس  شليس دقيقا استشراف السياسات التي ستعتمدها إدارة الرئيس جو بايدن بعد تنصيبه بناء على ما صدر عنه وعن المقربين منه إبان الحملة الانتخابية. وليس اكتشافا أن المواقف قبل الانتخابات الرئاسية تستثمر في السياق الانتخابي

ماكرون :  سر تفعيل مبادرة باريس في لبنان

وتوظف في ما من شأنه استدراج أصوات الناخبين، فيما قرارات الرئيس تتخذ وفق معطيات الدولة ومصالح البلد، وتأخذ بعين الاعتبار التزامات ساكن البيت الأبيض بصفته رئيس كل الأميركيين وزعيم الدولة الأكبر في العالم.

غير أن أمام جو بايدن في تعامله مع ملف إيران وقائع أخرى أكثر قسوة من كلام يسوقه مرشح للانتخابات الرئاسية شغل يوما منصب نائب الرئيس الأسبق باراك أوباما، مهندس الاتفاق النووي. ولن يتأخر الرئيس الجديد وفريقه في استنتاج أن مقاربة أحد أكثر الملفات الدولية تعقيداً، لا تمر وفق منهج فكري متناسل من “عقيدة” أوباما، بل وفق الإقرار بالمسلمات التي باتت أمرا واقعا يتجاوز رؤى بايدن واستراتيجيات الولايات المتحدة نفسها.

والواضح أن دونالد ترامب أرسى قواعد في السياسة الخارجية للولايات المتحدة باتت إرثا ثقيلا يصعب شطبه بمجرد دخول رئيس جديد إلى البيت. والجل الأعظم مما انتهجه الرجل في السياسة مع العالم ينهل مشروعيته من خطط المؤسسات الأميركية، سواء في جوانبها العسكرية الأمنية، أو تلك السياسية الدبلوماسية الاقتصادية.

في هذا الصدد فإن انسحاب ترامب من الاتفاق النووي عام 2018 لم يكن خيار رجل العقارات دونالد ترامب، لكنه بات كذلك حين تحول إلى مرشح للانتخابات الرئاسية عام 2016 ينهل خطابه من زاد ما تمليه المؤسسات وتجده مصلحة أميركية. ولم يتمرد الرئيس المنتهية ولايته على السياسة الخارجية لأميركا، بل عبر عنها، بأسلوب جلف مختلف، سواء في مقاربة برنامج إيران النووي أو في التعامل مع كوريا الشمالية كما التعامل مع أوروبا والأطلسي وروسيا والصين.

سيكتشف بايدن ذلك سريعا، وسيستنتج في مراجعة بسيطة، أن سلفه عاد سريعا عن قراره الانسحاب من سوريا حين عارضته المؤسسات، وأنه التزم بحدود الضغط على إيران، مكتفيا بعملية عسكرية نوعية باغتيال قاسم سليماني، متجاوبا مع استراتيجية المؤسسة العسكرية بعدم الذهاب باتجاه حرب كبرى ضد إيران، وأن الرجل، لأسباب أميركية ربما لا يدركها، تَدرَّج في عقوباته ضد هذا البلد بما لا يُسقط نظامه، بل يحوله إلى  هيكل مكشوف من الواجهات العسكرية والميليشياوية.

واشنطن-طهران: لعبة الأمر الواقع

ولئن سيجد بايدن نفسه أمام “أمر واقع” أميركي جديد في هذا الملف مختلف عن ذلك الذي طوره وسعى وأوباما إليه مع إيران، إلا أنه سيصطدم بـ “أمر واقع” ميداني آخر بات على واشنطن أن تأخذه بالحسبان، وربما الامتثال لحقيقته.

والحال أن ما يشهده شرق سوريا مؤخرا من ضربات إسرائيلية شاملة وموسعة ضد مواقع وتحصينات إيران

جو بايدن : حذر حيال العلاقة مع إيران

وميليشياتها، يفصح عن إرادة تعبر عنها إسرائيل بالنار لإزاحة الحضور العسكري الإيراني في سوريا، تجري وسط صمت عربي تركي روسي صيني يوحي بتقاطع مصالح متعددة لوقف تمدد طهران وقطع سبل جماعاتها في الجوار.

بالمقابل يعبر الموقف العربي المتطور عن إدراك لفرض “أمر واقع” وجب على إدارة بايدن الانتباه إليه. تود المجموعة الخليجية بعد قمة العلا أن يكون لبلدان المنطقة الكلمة الفصل في مستقبل أي تطور في علاقة واشنطن بطهران. بدت أيضا تصريحات السفير المصري في واشنطن لافتة في هذا الصدد تعكس تطورا نوعيا داهما في موقف القاهرة. وينشط تواصل عربي عربي للوصول إلى موقف واضح لا لبس فيه، في شأن الحاجة إلى تخليص المنطقة من “الاستثناء” الإيراني وهو المصدر الوحيد لحالة العبث والفوضى في دول مثل اليمن ولبنان والعراق، كما حالة تعذر الوصول إلى أي تسوية مقبولة دوليا في سوريا.

وإذا ما كانت دول المنطقة، على اختلافها، تحاول فرض “أمر واقع” لا يمكن لواشنطن الالتفاف عليه، فإن إيران بدورها، وقد أدركت هذا التحول، ذهبت في الأسابيع الأخير إلى عرض “أمرها الواقع” على الإدارة الجديدة في واشنطن ورئيسها.

لا يهم طهران مستوى الخسائر التي تتكبدها قواتها وميليشياتها في سوريا، بقدر اهتمامها بعرض انتشارها في دول المنطقة (العراق، سوريا، لبنان، اليمن) ومياه الخليج الدولية، وقدرتها على امتلاك أدوات التدمير والتعطيل والتخريب، حتى وإن كانت تدرك استحالة انتصارها في أي من معاركها المرتجلة.

ووفق سياق التوق لفرض “الأمر الواقع”، ترفد إيران جهودها الميدانية (مناوراتها العسكرية مثالا)، بمروحة من المواقف والتصريحات الصادرة عن كل الطبقة الحاكمة، ابتداء من المرشد مرورا برئيس الجمهورية ووزير خارجيته

فيصل بن فرحان: لنبذ حكم الميليشيا في لبنان

انتهاء بجنرالات الحرس الثوري، تكرر رفض التفاوض حول البرنامج النووي قبل رفع الولايات المتحدة لعقوباتها، كما الرفض الكامل لأي مفاوضات تطال ملف برنامجها للصواريخ الباليستية، لا بل تعرض في الأسابيع الأخيرة فعالية وأخطار هذه الصواريخ، سواء في ما استهدف السعودية وما استخدم في المناورات العسكرية.

وإذا ما كانت أطراف الصراع في المنطقة، بما في ذلك إيران نفسها، قد أدلت بدلوهم في ما يريدونه من أي تسوية أميركية إيرانية محتملة، فإن ما صدر عن إدارة بايدن المفترضة لا يعدو كونه أفكارا عامة تجريبية لا ترقى إلى مستوى الاستراتيجية الممكن البناء عليها. والحال أن بايدن وصحبة سيجدون في المنطقة وقائع جدية خطيرة ستفرض على واشنطن خيارات واضحة حاسمة وربما موجعة تستمع بانصات إلى صوت الحلفاء في العالم.

وفي التحولات أمام واشنطن أن باريس على لسان وزير خارجيتها تقول إن عودة واشنطن للاتفاق مطلوبة لكنها لا تكفي. بايدن وصحبه باتوا يدركون أيضا “أمر واقع” جديد في أوروبا.

الاتفاقات النووي: الشيفرة والرموز

في تصريحات وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف بشأن سبل عودة الولايات المتحدة إلى الاتفاق النووي، ما يراد منه تقديم إيران بصفتها دولة كبرى وأساسية في رسم خرائط الأمن والاستقرار في العالم. يوزع الرجل “تعليماته” من منابر العواصم التي يزورها  ويكلف منسق السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيه بوريل بالاشراف على آلية تعود من خلالها واشنطن عن “خطيئة” دونالد ترامب لاستئناف العمل باتفاق فيينا وكأن شيئا لم يكن.

يقترح الرجل عودة “متزامنة” لواشنطن وطهران. تعود أميركا للاتفاق دون شروط وتعود إيران للالتزام ببنود الاتفاق

جواد ظريف: لماذا ترفض طهران وساطة با ريس لدى واشنطن؟

دون شروط. في الوقت عينه يدعو الرجل من الكويت إلى حوار مع الخليج ويروج ونظيره الروسي من موسكو لمنظومة أمن إقليمية، في وقت تتبرع فيه الدوحة بالوساطة لتسهيل حوار إيراني سعودي. وفي هندسات ظريف افتراض أن بلاده تعالج مع الكبار “سوء تفاهم” عرضي حول برنامجها النووي، فيما الخلاف مع دول المنطقة تحله تفاهمات تلفيقية مكمّلة.

من حق ظريف وحكومة طهران والولي الفقيه في إيران الإيمان بأن التناقض الرئيسي لإيران هو مع الولايات المتحدة فقط. يكلف ظريف الأوروبيين بالتوسط لدى واشنطن معتبرا في ذلك أن أوروبا تقف على نفس المسافة من واشنطن وطهران. يدرك الرجل هراء هذه القياسات، وحقيقة أن أوروبا حليفا تاريخيا أصيلا للولايات المتحدة وركنا مؤسسا للمنظومة الغربية فكرا وعقيدة ومصيراً. لكنه يرى أوروبا بالنسبة لإيران فرع لا أصل، ذلك أنه ويعرف أن اتفاق فيينا لم يوقع عام 2015 إلا بعد تخصيبه بقناة اتصال إيرانية أميركية خلفية تولت سلطنة عمان رعايتها قبل ذلك. كما أنه شهد عجز أوروبا عن حماية الاتفاق النووي وحماية إيران داخله بعد أن أسقط ترامب منه عضوية بلاده.

طهران والشراكة العجيبة مع واشنطن

لا يتوقف مشروع إيران الأيديولوجي وطموحاتها الامبراطورية على التوافق مع واشنطن. صدّرت الجمهورية الإسلامية ثورتها على الرغم من العداء لـ “الشيطان الأكبر” وعلى قاعدة العداء له. وتولت طهران مدّ نفوذها في

سعد الحريري: البحث عن غطاء خارجي

المنطقة وفق شعار نصرة المظلومين ضد “الاستكبار” (الأميركي طبعا) دون أن تلقى من الولايات المتحدة والمنظومة الغربية ردا استراتيجيا رادعا خلال العقود الأخيرة. لا بل أن مغادرة المارينز للبنان في الثمانينيات بعد الهجمات التي وقفت طهران وراءها ضد سفارة الولايات المتحدة الأميركية وثكنة قواتها في لبنان، وتخليص إدارة جورج بوش الابن إيران من خصومها في أفغانستان شرقا والعراق غربا (2001-2003)، لا يمكن إلا أن يكون تهاونا وتعاونا تود إيران أن تحوله إلى شراكة علنية في العالم والمنطقة.

كادت إيران أن تحصل على ذلك. أسكتت إدارة باراك أوباما كل جلبة يمكن أن تكون مؤشرا عدائيا ضد طهران في المنطقة والعالم. تحدثت تقارير متخصصة آنذاك كيف وأدت واشنطن تحقيقات أميركية حول أنشطة تهريب مخدرات وتبييض أموال تابعة لإيران في بلدان أميركا اللاتينية وأوروبا، حتى لا يشوش الأمر على ورشة الاعداد للاتفاق النووي. حتى أن أوباما نفسه أفرج بعد ولادة الاتفاق عن “عقيدة” (وفق ما أطلق الصحفي الأميركي جيفري غولدبيرغ في “ذي أتلانتيك” في آذار (مارس) 2016)، مفادها نقد لدول الخليج ودعوة لها للشراكة مع إيران، بما يوحي لطهران بتحول أميركا إلى حليف وشريك.

قد يوحي جو بايدن لإيران أنه نسخة محدثة لأوباما وعقيدته. ولما لا طالما أن معظم وجوه تلك الإدارة أوبامية الهوية والهوى، وأن غموض خريطة الطريق الأميركية وقوانين السير عليها يبيح لظريف وصحبة الاجتهاد والتفسير.

طهران تتوجس من شركاء جدد للتفاوض

وفق قوانين علاقة طهران مع أوباما تقرأ إيران سطور علاقتها مع بايدن. تحدد للأوروبيين الدور والموقع والمهمة، وتستبق أي تطور بتذكير السعودية والخليج برؤية أوباما ووصاياه. بيد أن سلوك ظريف، المفترض أنه يمثل الواجهة الرسمية التي تتعاطى مع العالم ومتغيراته، تبدو ناكرة عن عمد لأي تغير طرأ على عامل الزمن، رافضة الاعتراف بأن العالم قد اختلف، متهيبة الإقرار بأن المنطقة قد تغيرت وأنها باتت أكثر قدرة على تعطيل أي “عقيدة” والانقلاب على أي اتفاق لا يضمن استعادة طهران لبضائعها المصدرة إلى بلدانها.

في التجربة أن واشنطن التي ارتضت الإسلام السياسي الشيعي حليفا بعد لحظة 11 سبتمبر، روّجت للإسلام السياسي

تخوف من حرب إسرئيلية ضد حزب الله

السني في لحظة ما أطلق عليه “ربيعا” في المنطقة. وفي التجربة أيضا أن عواصم المنطقة صدت خطط العواصم البعيدة، وهي قادرة وفق نفس النمط على فرض رؤاها وحماية أمنها ومصالحها.

بيد أن طهران المزهوة دوما بـ “احتلالها لأربع عواصم عربية” ما زالت تعتبر المنطقة من الغنائم التي ستحملها إلى طاولة مفاوضات مع واشنطن. تتوجس إيران من الضجيج حول شركاء جدد حول طاولة المفاوضات. تبدي غضبا من حديث الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بشأن ضم السعودية ودول أخرى إلى أي اتفاق. تسعى بتذاكي إلى تصويب البوصلة صوب اتفاق فيينا وحصرية أعضائه وعبثية ضم أعضاء آخرين.

في تكرار ظريف لحوار ما مع الرياض والمجموعة الخليجية فقه يفتي بأن أي اتفاق مع الجوار يأتي نتيجة لأي اتفاق مع الكبار وليس شرطاً له. يفهم أهل المنطقة أمر ذلك التحاذق ويوصدون الباب جيدا على أي تواصل أو حوار تريده طهران خلفيا ثانويا ملحقا بورشة التعامل مع التناقض الرئيسي الكبير.

يريد ظريف  من أهل المنطقة حوارا مع إيران بعقائدها وحرسها وأحزابها وعصائبها وصواريخها وحشدها..إلخ. يريد أهل المنطقة إيران دولة لا تفجر شوارعهم ولا تقصف صواريخها مدنهم ولا تسمم ميليشياتها دولهم. بديهيات لم يهتد إليها أوباما وفتاويه.

لبنان : باريس الرياض طهران

في اتصال جرى بين الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ونظيره الأميركي جو بايدن في 24 يناير الماضي، أوضح البيان الصادر في باريس عن مداولات جرت حول ملفات كثيرة في العالم، بما فيها تلك في الشرق الأوسط. إلا أن البيان تحدث خصوصا عن ملف الاتفاق النووي مع إيران والوضع في لبنان. وفي ذلك أن فرنسا ورئيسها أرادا من خلال ما تقصّدا إعلانه إبلاغ من يهمه الأمر في طهران وبيروت عن خصوصية الدور الفرنسي المقبل داخل الملفين.

بعد ساعات على هذا التواصل صدرت من العاصمة الفرنسية مجموعة من الإيحاءات التي تؤكد تطابقا كاملا بين باريس وواشنطن بشأن الملف النووي الإيراني بعد أن كانت فرنسا (كما ألمانيا وبريطانيا، شركاء واشنطن في الاتفاق) تبتعد عن سياسة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب في هذا الشأن. باتت باريس تدين انتهاك طهران لالتزاماتها داخل اتفاق فيينا لعام 2015، وتطالب إيران بالعودة التامة إلى التقيد بالاتفاق كشرط لعودة الولايات المتحدة إليه.

تبدو باريس لسان حال واشنطن في شرط العودة للاتفاق، أو في شكل ومضمون المفاوضات المقبلة، أو في وجوب إدخال ملاحق على الاتفاق بين إيران ومجموعة الـ 5+1، أو في ضرورة أن تشمل المفاوضات برنامج إيران للصواريخ الباليستية وسلوكها المزعزع للاستقرار في المنطقة. غير أن فرنسا في تطور موقفها واختفاء تحفظاتها السابقة حيال موقف الإدارة الأميركية، تعول على دور خاص بها يحمي مصالحها مع إيران كما تلك مع كل بلدان المنطقة.

في هذا الإطار ما زال ماكرون يرى في ميدان لبنان مساحة جدل بين فرنسا وإيران ومختبرا لقياس معدلات تجاوب طهران مع الضغوط الدولية.

عمل الرئيس الفرنسي على تأكيد التعامل مع حزب الله. دعا ممثلي الحزب للاجتماع به أثناء زيارتيه لبيروت عقب انفجار مرفئها، على الرغم من مواقف أميركية بريطانية ألمانية تعتبر الحزب منظمة إرهابية. أراد الرجل التعويل على هذا التمايز، لعل في ذلك ما يسهّل تمرير المبادرة السياسية التي بشّر بها. غير أن العراقيل التي وضعت لتشكيل الحكومة على يد مصطفى أديب ثم سعد الحريري، ثم دفع طهران بوزير خارجيتها إلى لبنان للتعبير عن امتعاض من همّة ماكرون في بيروت، عكست تمسك إيران بنفوذ كامل على لبنان، وعدم استعدادها تسهيل العملية السياسية داخله دون مقابل يتعلق بالموقف الأميركي الدولي من موقعها في المنطقة.

ماكرون يستدرج الرياض

فشل ماكرون أن يسوْق لحضور بلاده في لبنان، تارة بسبب مقاومة إيران، وتارة أخرى بسبب غموض إدارة ترامب من مبادرته.

سعى الرئيس الفرنسي لاحقا للبحث عن منافذ لمبادرته من خلال تواصل مع الرياض أملاً في تغيير موقفها من بيروت. غير أن ما صدر لاحقا عن وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان يوضح أن “لا ازدهار في لبنان دون إصلاح سياسي ونبذ ميليشيا حزب الله”. وللمفارقة فإن ما خرج به ماكرون قبل أيام يعتبر نسخة فرنسية عن الرؤية السعودية، حين جزم بأن “النظام اللبناني في مأزق بسبب الحلف الشيطاني بين الفساد والترهيب”.

واللافت في إعلان ماكرون عن عزمه القيام بزيارة جديدة إلى لبنان، إعلانه عن وجوب أن تكون السعودية شريكا في أي اتفاق جديد مع إيران. ولئن تحدث عن المملكة في سياق ضرورة أن ينضم الشركاء في المنطقة إلى الاتفاق العتيد (وهذا كلام أميركي أيضا)، إلا أنه تقصد إبراز لزومية الحضور السعودي وفق “عقد من الثقة”، يهدف إلى تجنب “خطأ العام 2015 عندما استبعد الاتفاق النووي القوى الإقليمية”.

على أن للغيرة التي يبديها ماكرون على شراكة السعودية في ملف إيران، توق لاستدراج عامل سعودي أساسي مساعد في سعيه اللبناني، خصوصا بعد صدور موقف غاضب لطهران ضد اقتراح ماكرون على لسان المتحدث باسم الخارجية الإيرانية سعيد خطيب زاده.

ليس مستبعدا أن همّة ماكرون المتجددة حيال لبنان تنهل دوافعها من مضمون مباحثاته مع بايدن. وليس مستبعداً أن بايدن الذي لم تفصح إدارته بشكل جلي عن سياستها بالنسبة للبنان، قد جدد لفرنسا ورئيسها وكالة أميركية لمقاربة الملف اللبناني، خصوصا أن لا مبادرات غربية تنافس فرنسا من جهة،  وأن باريس ما زالت تتمتع بمرونة التحرك داخل الهامش اللبناني وتعقيداته من جهة قانية.

وفي كلام الرئيس الفرنسي عن “التحقق من أمور أساسية” قبل القيام بزيارته اللبنانية، ما يوحي أن الرجل الذي يفترض أنه بات أقل تفاؤلا وأكثر خبرة بالمعضلة اللبنانية، يخاطب في تجدد سعيه تحولات جديدة في مواقف واشنطن والرياض وطهران.

والحال أن مبادرات ماكرون لم تعد تحظ لدى اللبنانيين بالشعبية والثقة، ذلك أن الناس عاتبة على الرجل أن علاجه لا يعادي الشياطين التي يحذر منها، بل لطالما عوّل على توافق الفساد والترهيب لانتاج حكومة مهمتها إنقاذ البلد من تحالفهما المشؤوم.

الخليج ولبنان

لا يبتعد المزاج الخليجي حيال لبنان عن ذلك الدولي الذي أظهرته العواصم الكبرى وفرضته المؤسسات المالية في التعامل مع حال هذا البلد. والحال إن المجموعة الخليجية، على تعددها وخلافها الداخلي قبل قمة العلا، بقيت ملتزمة بسقف منخفض في التعامل مع لبنان متّسقة مع موقف دولي عام، تقوده الولايات المتحدة، حيال المطالبة بالإصلاح من جهة، والتخلص من هيمنة الميليشيا من جهة ثانية.

وعلى الرغم من أن المبادرة الفرنسية، التي قادها الرئيس إيمانويل ماكرون وقادته إلى بيروت مرتين خلال الأشهر التي تلت كارثة انفجار مرفأ بيروت، سعت إلى اختراق التصلب الدولي (الأميركي خصوصا)، إلا أن باريس فشلت، حتى الآن، في إحداث الخرق التي تتمناه، بسبب تنافس دور باريس مع أدوار طهران وواشنطن، وبسبب صلابة موقف عربي (خليجي خصوصا) تقوده السعودية.

لا يشعر الخليجيون بأي حرج من تشدد موقفهم في مقاربة الشأن اللبناني. تعبر السعودية والإمارات، بشكل خاص، عن خيبة أمل من تاريخ طويل من الاستثمار السياسي والاقتصادي من أجل إعمار لبنان ودعم نموه، ومن بلادةِ أهل الحكم في لبنان خلال العقود الأخيرة في التعامل مع الدعم الخليجي كمعطى بديهي غير مشروط ينهل ثباته من مسار تاريخي عتيق.

ولا يشعر الخليجيون بأي تحفظ في اعتبار أن علاقتهم مع لبنان، وعلى الرغم مما للبلد من مكانة في الوجدان الخليجي العام، تتأسس على المصالح والاحترام المتبادل، ولن تستمر وفق نمط المعادلات الخاسرة التي تفاقمت في السنوات الأخيرة.

وفيما سعت فرنسا لإنجاح مبادرتها اللبنانية من خلال توسل دعم خليجي، لا سيما سعودي، وفيما تواصل ماكرون مع القيادة السعودية مرارا في هذا الشأن، إلا أن الموقف الخليجي العام لم يتغير في مسألة أنه بات من العبث مساعدة بلد واقع في أسر معسكر معاد يُقاد من طهران، كما من الهراء ضخ تمويلات داخل هيكل اقتصادي تتحكم به مافيات الفساد والسلاح. كما أن الخليجيين لم يرتاحوا إلى مقاربة ماكرون اللبنانية التي تتعامل مع إيران وحزبها بصفتهما أصلا في المعادلة الداخلية لا علة وجب أولاً اجتثاثها.

لا يبتعد وزير الخارجية السعودية الأمير فيصل بن فرحان بن عبد الله عن هذا السياق، ويعبر عنه بإيجاز يعكس تراجع مرتبة لبنان داخل الأولويات السعودية. لفت قبل أيام أن ?لبنان لن يزدهر بلا إصلاح سياسي ونبذ ميليشيات حزب الله?. قال الرجل إن “لبنان يمتلك مقومات للنجاح لكنه ?يحتاج للإصلاح”.

دبلوماسية الحريري

وفق تلك الأبجدية مطلوب من بيروت تنفيذ إصلاحات توقف الهدر وتحاسب الفساد وترشّق الهيكل الاقتصادي للبلد، وهو مطلب بات دوليا بامتياز، ومطلوب تخلص دولة لبنان من قبضة دويلة حزب الله، وابتعاد بيروت الحاسم والحازم عن أجندات الحاكم في طهران.

وفيما أشيع عن سعي رئيس الحكومة المكلف سعد الحريري للحصول على لقاحات ضد كورونا من الإمارات لصالح لبنان، وفيما استقبلت أبو ظبي الرجل بالترحاب، فإن ذلك لم يفرج عن تبدل المزاج حيال لبنان. الزيارة وما نشر عنها تعكس ربما احتضانا شخصيا للرجل، لكنها استمرار المجموعة الخليجية في تقديم المعونة الإنسانية (فقط) للبنان وسكانه لمواجهة الكوارث لا سيما تلك التي تمثلها جائحة كورونا.

ولئن كتب الكثير من التأويلات عن الزيارة التي قام بها الحريري إلى تركيا واجتماعه مع الرئيس رجب طيب أردوغان بعد أيام من مغادرته للإمارات، فإن منطق الأمور يدفع إلى الاعتقاد أن الحريري تحرك وفق أجواء زيارته لأبوظبي، كما وفق أجواء ما صدر عن الأتراك والخليجيين مؤخرا عن ضرورات التوافق والانفتاح والحوار. وإذا ما صح أن رئيس الحكومة اللبناني المكلف ينشط وفق هذا الهامش، فإنه قد لا يكون بعيداً عن باريس داخل سياق الحوار التركي الأوروبي الجاري لطي صفحة التوتر الماضية.

موقف الخليج

والحال أن الموقف الخليجي من لبنان يستند على قاعدتين.

الأولى لها علاقة مباشرة بموقع إيران المقبل في المنطقة وما ستغيره مقاربة إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن داخل الملف الإيراني، وبالتالي ما سيعنيه ذلك من تداعيات على نفوذ إيران وحزبها في لبنان.

والثانية لها علاقة بموقف أهل الحكم في لبنان وجدية انتهاجهم خيارات الإصلاح والعزم الصريح والمعلن لجعل البلد سيدا مستقلا? عن مزاج الولي الفقيه في إيران.

ولئن تمارس إيران نفوذا متقدما في العراق كما هو حالها في لبنان، إلا أن الخليجيين يلمسون على الأقل جهدا صعبا لحكومة بغداد وجانب عريض من نخب البلد السياسية لانتشال بغداد من تبعية قرارها لطهران. ويستدرج تقدير الخليجيين لهذا السعي دعما له من باب “أن استقرار العراق هو عنصر أساسي لاستقرار المنطقة والأمن العربي”، وفق تقييم وزير الخارجية السعودي، منوها بما تقوم به حكومة مصطفى الكاظمي من أعمال قوية لبناء المؤسسات العراقية”.

قبل أسابيع، وبموازاة دعوة وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف إلى الحوار مع الرياض، اتهم أمين عام حزب الله السيد حسن نصر الله السعودية بالتخطيط لاغتياله. لسان حال الخليجيين يقول إن بيروت باتت منبراً دقيقا وصادقا يعبر عن نوايا إيران العدائية الحقيقة، في وقت يصدر عن طهران نسخات مزيفة تعبر عن نفاق مكشوف.

وفي حسابات الربح والخسارة، وإلى أن تستعيد بيروت سيادتها، فإن بوصلة الخليجيين ستبقى شاردة عن وجهات لبنان.

(*) كاتب سياسي لبناني

العدد 114 / اذار 2021