الوطن السجين بين الممكن والإستحالة

بروفسور نسيم الخوري

…هل يمكن لبلدٍ ديمقرطي في العالم أن يُحكم بلا دستور؟

1- مستحيل إلاّ في لبنان. لماذا؟ لأنّه، بالرغم من أنّ مدّة دورة البرلمان في هذا البلد هي 4 سنوات، ولأنّ المجلس النيابي الممثّل للشعب قد تمّ انتخابه عام 1972 مثلاً ب 99 نائباً، قبل إندلاع الحروب الداخلية والخارجيّة التي أرّقت الأمم ، قد مدّد لنفسه 8 مرّات خلال 20 سنة لتعذر إجراء الانتخابات، بسبب الحروب التي لم نتمكّن من أن نجد لها هويّة نهائيّة بين أن تكون أهلية، مذهبية طائفية مستوردة..إلخ. لنتذكّر، بأنّه لم يبق داخل هذا البرلمان سوى 65 نائباً بتاريخ 16 تموز 1992 عندما حلّ نفسه مكرهاً لإجراء انتخابات جديدة، مع أن ولايته كانت تنتهي عام 1994. والأكثر غرابةً في نسف الديمقراطيّة من جذورها أنّ هذا المجلس النيابي عيّن نوابّاً تعييناً في ال 1991 رافعاً عدده إلى 128.

2- ممكن. برعايات إقليمية ودوليّة ووصاية سوريّة ضُبطت في خلالها الحياة السياسيّة بعدما تحوّل إتّفاق الطائف إلى دستورٍ جديد برزت بعده المرحلة “الذهبيّة” الإعمارية التي شغلها الرئيس رفيق الحريري معيداً رسم لبنان على رقعة الخارطة الإقليمية والدولية ومسخّراً إمكانياته وعلاقاته الدولية التي لا حدود لقوّتها ومراميها وطموحاتها  في  إنقاذ لبنان ، والتي أودت ربّما بحياته في قلب “بيروت المدينة العريقة للمستقبل” كما أحبّ تسميتها.

3- مستحيل مجدّداً، حيث بدا دستور جمهوريّة الطائف فاقداً لمرجعياته واحترام نصوصه بوصفه “الكتاب الوطني” الذي أنقذ اللبنانيين من جروحهم المزمنة الطريّة في النفوس والعبثيّة بل المزاجيّة في الحكم. المعضلة الكبرى للجمهوريّة أنّها بقيت مسكونة بل محكومة بخليط من التقليديين الضعفاء الذين خرجوا من الحكم إلى الحرب مع أقوياء خرجوا من المتاريس إلى الحكم، وكان لا بدّ من حشر لبنان الرسمي بطائرة إلى الدوحة لعقد مؤتمر واتّفاق لم يغيّر كثيراً. وبقيت الطبقة القابضة تلعب فوق القبضة السورية، واستمرّ اللبنانيون يرسون في قبضات المجموعة ذاتها حتّى اليوم، إذ فشلت التسويات كلّها، ولم يتغيّر شيء في ذهنيّة تنازع الأفرقاء ووقعت البلاد في صراعات مذهبيّة وأمنيّة وأخلاقيّة وإقتصادية معيشية ومالية ونقدية وحتّى صحيّة مع وباء الكوفيد 19، أين منها الحروب الدموية التي سبق لها وشغلت العرب والعالم في لعقود منصرمة.

أدمن هذا البرلمان اللبناني التمديد لنفسه، فنجده في ال2009 يمدّد ولايته التي تنتهي في 31/5/2013 إلى 20/1/2014 بموافقة 98 من أصل 128 نائب، وعاد ومدّدها مجدّداً 4 سنوات بتاريخ 5 /11/2014 إلى 20/5/2017، ليجدّد ولايته 11 شهراً حتّى 20/5/2018 بحجّة التحضير للإنتخابات التي لم تفرز جديداً، بل كرّست بشكلٍ أشدّ صلابةً حفنةً من أولئك الخارجين من الحروب إلى التشبّث بالحكم عبر موظفيهم ومستشاريهم وأولادهم وأحفادهم وأقاربهم في تسابق طائفي نفعي موسوم بالبطش وحماية الطوائف والمذاهب والتحاصص والتقاسم وسلب كلّ حبّة ترابٍ في لبنان تنبت جديداً.

ضرب أسياد هذا المجلس المعمِّر المتحوّل بنوّابهم، الرقم القياسي في الحكم، أدعو لإدراجه في موسوعة غينيس: إنتخب 8 رؤساء جمهوريّة، ومنح الثقة ل26  حكومة، ووافق على اتفاقيات متناقضة: الاتفاق الثلاثي واتفاق 17 أيار واتفاق الطائف. وأنجز 665  قانوناً 30 % صادرة عنه و70% مشاريع قوانين صادرة عن السلطة التنفيذية. هذا مؤشّر فاضح على عجز الحكومات مما اضطرّ مجلس النواب إلى سدّ الفراغ  وتسيير دفة الحكم بسبب  تجربته لوجود حكومتين في الحرب، أو لحكومات كان أعضاؤها متنافرين أو مقاطعين. وما زالوا!

إن أكثرية القوانين في بلاد العالم تأتي من الحكومة إلى المجلس النيابي ليدرسها ويقرّها كما هي أو يعدّلها لكنّ ما بقي من برلمانيينا آنذاك إطّلعوا على نصوص الطائف وتشظّوا حوله ، وأعرضت عنه النخب والطوائف المترسّخة في حكم لبنان مما ضاعف في حدّة الفرقة والريبة الموروثة.

وإذا كان حكم الآباء لصالح الأبناء أو حكم القلّة للقلّة هو الشكل في الحكم المعروف ب: “الأوليغارشية” والذي استغرق في تشريحه إفلاطون في جمهوريّته وأرسطو في سياسته، فإنّه ينطبق تاريخيّاً وحفراً وتنزيلاً على جمهورية لبنان بدستورها الأوّل في ال1926 كما بدستور جمهورية الطائف، لا بل تنطبق أيضاً على دولة لبنان الكبير والمتصرّفيات في لبنان التي أسّست لهذه التركات المزمنة الثقيلة، والتي يمكن حصر مصالحها أو قواسمها المشتركة بمثلّث مقفل متساوي الأضلاع تتداخل فيه وتتخاصم وتتقاتل وتتصالح على الموروثات البائدة في كلّ الميادين الدينية والطائفية والمذهبية العائلية والوراثية والسياسية والمالية المصرفية لكنّها المرفوضة من شابّات وشباب لبنان الثائرين والمتحرّكين المتظاهرين والعاجزين عن أيّ تغيير سوى الحلم بالقضاء المستقلّ.

إذا كان هذا اللبنان الرسمي المتناسل إقطاعياً، يدفع رواتب تقاعدية لهؤلاء البرلمانيين وعائلاتهم منذ الأزل، وكذلك للوزراء والمدراء وكبار الإداريين وجيوش الموظّفين المحظيين فقط لانتماءاتهم الحزبيّة الضيّقة، فإنّه يفرض الضرائب اليوم والحسومات على رواتب المتقاعدين ويشطب الحقوق بالطبابة في القطاع العام عارضاً ،بعد كلّ ما حصل ويحصل على البساط أو السوق الدولي للبيع.

كيف؟

هناك طلب رسمي خطير يفاقم قلق اللبنانيين اليوم يعرض أصول الدولة وخصخصتها  مقرونةً مع نشر مشروع الموازنة للعام 2021 عبر وزارة المالية التي عمّمت بجدّيةٍ قصوى على” جميع الإدارات الرسميّة والمؤسّسات العامّة والمشاريع المشتركة والشركات المختلطة تزويدها بالمعلومات التفصيلية التي تمتلكها عن موجودات الدولة العقارية وغير العقارية ضمن مهلة ستة أشهر، بالإضافة إلى وجهة استعمال هذه الممتلكات وشاغليها في حال وجدوا”. بالإضافة إلى عرض مؤسّسات الدولة الأساسيّة مثل طيران الشرق الأوسط وشركة كهرباء لبنان وكازينو لبنان والأملاك البحرية والمشاعات وغيرها التي هي ملك للبنانيين لبيعها للقطاع الخاص، خصوصاً وأنّ تلك المؤسسات منهارة كليّاً وهو ما سيصبّ في جيوب أصحاب المصارف الموجودة  أوالمنتظر استيرادها مستقبلاً  بما يضاعف من ثرواتهم وكبار المسؤولين والمودعين على حساب صغار المودعين بل على حساب وطنٍ سجين في مثلّث السلطات السياسية والنقدية والمصرفية، يتطلّع عبر القفل إلى الخارج.

العدد 114 / اذار 2021