أدب الشتات بين الاستقطاب والهوية والجرأة

من منظور الباحثة الصينية ليو نا!  

بيروت – رنا خير الدين

ذروة الإبداع والتجدد في التعبير والأدب تتفاعل مع خصال التقدم والتطور في سبيل إحياء الذات ومدركاتها في عالم التواصل والاتصال، الشعر والنقد، الترجمة والتعريب، الرسم والنحت وكل ما يترافق مع ذلك من فنون، حضارات وثقافات مختلفة.

شعراء وأدباء المهجر أو الشتات حقّقوا ويحققون إنجازات أدبية تضاف إلى تاريخ الأدب العربي في المهجر، ويتميز هؤلاء بأنهم مرّوا بتجارب أدبية ضمن نطاق بيئات غربية متباينة الوجوه في العناصر والأدوات، وأنماط التفكير والتحليل، بداية من الرؤية الفنية لجوهر العمل الفني، تضم خلفياتهم العربية وأصولهم الايديولوجية، التي قد تقع في فخّ الاندثار ما لم يحافظوا على جوهرها الأساسي.

من هؤلاء: “أمين الريحاني”، “نعمة الله الحاج”، “عدنان كمال رضوان”، “جبران خليل جبران”، “ميخائيل نعيمة”، “ايليا أبو ماضي” وغيرهم…

نتيجةً لهجرة هؤلاء الأدباء إلى البلاد الأجنبية نشأت مدرسة تسمّى بمدرسة “شعراء المهجر”، والتي دعت في بداية الأمر إلى الثورة على مختلف أوضاع الوطن، وتحرّي الحقّ، والصدق، والخير، والجمال، والحريّة والإنصاف في الغربة؛ إلّا أنّهم عجزوا عن تحقيق هذه المفاهيم واقعياً ذلك بسبب صعوبة نمط التغيير وبطء تحقيقه.

الباحثة والمترجمة الصينية “ليو نا” (Lyu Na) وهي أستاذة اللغة العربية في كلية اللغات الأجنبية في جامعة صان يات سان (Sun Yat-sen University) الصينية أعدت أطروحة بعنوان “دراسة في أدب المهجر المعاصر في الشتات: الشعراء العرب المهاجرون في أوروبا وأعمالهم الشعرية أنموذجا” حيث قامت بدراسة بعض النماذج عن الشعراء العرب المهاجرين في أوروبا من خلال تحليل المواضيع وأساليبهم الإبداعية في قصائدهم.

“الحصاد” كان لها حديث مع الباحثة الصينية “ليو نا” حول طرحها موضوع “الغربة والهوية الثقافية”؛ أي

الباحثة الصينية “ليو نا”

الموضوعين الأكثر شيوعاً في أدب الشتات. بالإضافة إلى أساليبهم الإبداعية التي تشمل النزعة الصوفية والنظرة الشعرية التي تشكّلت نتيجة تأثير الأفكار الأدبية والفنية الغربية وغير ذلك من العوامل والعناصر وهدفها من ذلك.

* “الحصاد”: بدايةً، كيف اتجهت نحو التخصص في اللغة العربية؟

o “ليو نا”: لم أتوّقع يوماً أن حياتي سترتبط باللغّة العربية. عندما كنت أدرس في جامعة صان يات سان (Sun Yat-sen University) لنيل شهادة بكالوريوس اخترتُ اللغة العربية لأنها بالنسبة لي بمثابة لغز جميل. وبعد تخرّجي من الجامعة سافرتُ إلى دمشق، وهناك تعرّفت إلى الأستاذ أحمد محمد محمد، الخبير في تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها في جامعة دمشق، والذي بدوره عرّفني إلى حافظ إبراهيم، سعد الله ونوس، حيدر حيدر، نزار قباني، حنا مينا وغيرهم من الأدباء العرب. ما زلتُ أتذّكر ذلك اليوم عندما قرأتُ بيت حافظ ابراهيم الشعريّ “أنا البحر في أحشائه الدر كامن، فهل سألوا الغواص عن صدفاتي”، كنتُ مأخوذة للغاية وأدركت وقتذاك أنني سأقضي عمري كلّه أبحث عن الدر الكامن في بحر اللغة العربية بلا كلل وملل.

* “الحصاد”: التوسع في دهاليز الأدب العربي يعدّ من أصعب المهمات نظراً لكثرة الفتوحات والتغيرات البنيوية لهذا المجتمع. كيف اجتزت هذه المطبّات؟

o “ليو نا”: أنا شخصيّا لا أرى أنّ كثرة الفتوحات والتغيرات البنيوية للمجتمع العربي قد شكّلت المطبّات للتوسّع في دهاليز الأدب العربي. ولتوضيح رأيي هنا أودّ اقتباس بيت مشهور من قصيدة الشاعر الصيني تشاو يي (Zhao Yi) الذي كان يعيش في عهد أسرة تشينغ، أي آخر أسرة في تاريخ الإمبراطوريّة الصينيّة. يقول الشاعر إنّ محنة الوطن حظّ الشعراء. كيف نفهم هذا؟ لقد شهدت الأمّة الصينيّة في تاريخها الطويل الكثير من الحروب والاضطرابات الاجتماعيّة، وكانت محنة الأمّة دائمًا تدفع الشعراء إلى التأمّل في قيم الوجود وأسئلة الإنسانية. كانت قصائدهم مشحونة بمشاعر نبيلة مثل الشعور بالتعاطف مع الفقراء الذين عانوا جرّاء نيران الحروب، والتوق إلى بناء وطن يسود فيه السلام والحبّ والعدالة. ويعدّ الشاعر الصيني تو فو (Du Fu) نبيّ الشعراء لأنّه كرّس حياته لكتابة قصائد من أجل البؤساء في الطبقات الدنيا خلال عصره المضطرب. إضافة إلى ذلك فإنّ الفكر العميق ينبت دائمًا في رحم النزاعات والاضطرابات. وقوله “محنة الوطن حظّ الشعراء” ينطبق على الأدب العربيّ أيضا. والدليل على ذلك محمود درويش الشاعر العظيم الذي خلّده اسمه تاريخ الأدب العربيّ، ولماذا قصيدة “الجسر” لخليل حاوي ما زالت نابضة بالحياة، مع أنّ هذين الشاعرين كلاهما كان يعيشان في عصر الاضطراب؟

أدباء الشتات… من منظورٍ تعبيريٍ

* “الحصاد”: في نظرتك، كونك باحثة صينية، ما أهميّة دراسة الشعراء العرب المهاجرين في أوروبا؟ لماذا اخترت هذا الموضوع لأطروحتك؟

o “ليو نا”: الشعر ديوان العرب. والأمّة العربية، على حدّ قول نزار قباني، أمّة تتنفس الشعر، وتتمشّط به، وترتديه. ولكن في يومنا هذا، مع الأسف الشديد، لاحظتُ أنّ الشعر العربيّ، لاسيما الشعر العربي المعاصر، يلاقي في الصين إهمالا لا يستحقّه مقارنةً بالرواية العربيّة. حتى اليوم لم نصنع اسمًا في اللغة الصينيّة للشعراء العرب الذين يجدر بنا أن نسلّط الضوء عليهم أمثال أنسي الحاج، خليل حاوي، فؤاد رفقة، سركون بولص، أمجد ناصر، فاضل العزاوي واللائحة تطول.

وعندما سجّلتُ لدراسة دكتوراه في جامعة شنغهاي للدراسات الدولية، كان مشرفي هو البروفيسور تساى ويليانغ (Cai Weiliang)، الرئيس السابق لجمعيّة دراسة الأدب العربيّ في الصين. وكان على يقين أنّ الأدب العربي في الشتات (أي الإبداع الأدبيّ العربيّ في أوروبا وأميركا) في يومنا هذا مهمّ جدّا ويستحقّ أن نوليه الاهتمام  لأنّ أعداد العرب الذين هاجروا إلى أوروبا بسبب الأوضاع السياسيّة أو الاجتماعيّة أو الاقتصاديّة السيّئة في العالم العربي هائل وغير مسبوق. وبالطبع بين هؤلاء المهاجرين الكثير من الأدباء. بالإضافة إلى ذلك يمكن من خلال دراسة لشعراء العرب المهاجرين في أوروبا نستطيع أن نفهم ماذا حصل في العالم العربي بشكل أفضل، لأنّهم أكثر شجاعةً في التعبير والإبداع الأدبيّ.

* “الحصاد”: ما هي المواضيع الأكثر شيوعا في أعمال الشعراء العرب المهاجرين في أوروبا؟ وكيف قاموا بتناول هذه المواضيع؟

o “ليونا”: تشكّل الغربة والهويّة الثقافيّة المواضيع الأكثر شيوعا في أعمال الشعراء العرب المهاجرين في أوروبا. أمّا الغربة فهي تتّسم بأبعاد ثلاثة: الغربة المناطقيّة أو الجغرافيّة وفيها مشاعر الحنين إلى الوطن، والغربة الثقافيّة وفيها اشتياق للعودة إلى أمجاد تاريخيّة، والغربة الفلسفيّة وتنطوي فيها التأملات الميتافيزيقية. مثلاً الشاعر اللبناني د. سرجون كرم لا يكتفي بالكتابة عن غربة فردية أبدًا، فبدلاً عن ذلك تناول غربة البشر في الدنيا من المنظور الكوني. ويظهر هذا واضحًا في قصيدته المعنونة بـ “غربة الدايم دايم”، إذ يقول الشاعر فيها:

“أريد أموت خارج هذه الأرض

في مكان لست ضيفا عليه […]

لا قبر لي في هذه الأرض

أبني فيه فُلكًا من خشب الهيكل

وآخذ معي من كلّ جنس أنثاه”.

إذا نظرنا إلى الهويّة الثقافيّة المتجسّدة في أعمال الشعراء العرب المهاجرين في أوروبا، سنلاحظ أنّ هؤلاء الشعراء من ناحية لم يندمجوا في المجتمع الغربيّ بالمعنى الحقيقي ولا العربي على حدٍّ سواء. كما أنّ بعض الشعراء أخذوا الهويّة الثقافيّة كخيط محوريّ في قصائدهم، وخير مثال على ذلك الشاعر السوريّ المقيم في ألمانيا أحمد إسكندر سليمان الذي يعتبر أنّ مصدر المشاكل في سورية حالياً يكمن في المكوّنات الثقافية، بحيث أن الثقافة الأصليّة في سورية هي الثقافة السوريّة القديمة. بناء على ذلك، فهو دائماً يستخدم الأساطير الشرقية القديمة كأدّلة من أجل إنكار انتماء الهويّة الثقافيّة السوريّة الحاليّة إلى الثقافة العربيّة الإسلاميّة. ويقول في إحدى قصائده:

“أليس غريبًا

أنّ المدن التي بنيناها

حين كنّا أبناء إيل الأوّل

هدمناها

بعد أن أصبحنا أبناء الله” أو “الكلدانيّون

الذين بنوا بابل

كانوا يتقنون علم الأفلاك[…]

أنا كلدانيّ قديم

يعشق السحر الأسود

يحاور الآلهة ويكتب الآن الشعر”.

اختلافات نماذج الشعر العربي

* “الحصاد”: كان الشاعر العراقي فاضل العزاوي والشاعر والسوري أحمد إسكندر سليمان والشاعر اللبناني سرجون كرم بين النماذج الذين قمتِ بدراستهم في أطروحتك، ما سبب هذا الاختيار؟ وما هي وجهات الاختلاف بينهم؟

o “ليو نا”: عندما قمت باختيار الشعراء العرب المهاجرين في أوروبا، حاولتُ أن أجعل النماذج أكثر شموليّة من حيث الخلفيّات الدينيّة والسياسيّة والاجتماعيّة. فالشاعر العراقي فاضل العزاوي كان شيوعياً انحدر من بيئة سنيّة استقرّ في ألمانيا هرباً من الاضطهاد السياسيّ، والشاعر السوريّ أحمد إسكندر سليمان ترك سورية مهاجرًا إلى ألمانيا بعد اندلاع الحرب الأهلية في سورية وهو من العلويين السوريين. أمّا الشاعر اللبناني د. سرجون كرم فهو مسيحي أرثوذكسي ذو خلفيّة مرتبطة بمبادئ القوميّة الاجتماعيّة والعشيرة الحرّة، اختار العيش في ألمانيا بعد حصوله على شهادة الدكتوراه في الأدب العربيّ من جامعة هايدلبرغ. هؤلاء الشعراء الثلاث يمثّلون أجيالاً مختلفة. لكلّ شاعر خصائصه من حيث كتابة الشعر، فعلى سبيل المثال، تتّصف قصائد الشاعر العراقي فاضل العزاوي بأسلوب السرد وكثرة استخدام طلقة شعرية. ويميل الشاعر السوري أحمد إسكندر سليمان إلى توظيف الأساطير الشرقية، والشاعر اللبناني سرجون كرم إلى اقتباس النصوص الدينيّة والتأمّلات الميتافزيقيّة.

* “الحصاد”: كيف كانت ملامح المدن الأوروبية الموصوفة في قصائد هؤلاء الشعراء العرب الذين يعيشون في أوروبا؟

* “ليو نا”: في قصائد الشاعر فاضل العزاوي “أنا دائماً أتسكّع في شارع ما في المدن الأوروبية وحيداً دون هدف”، والقصص التي رواها الشاعر دائماً ما حصلت في أماكن مثل رصيف في “بانهوف” أي محطةّ القطار أو إحدى البارات. أمّا الشاعر السوري أحمد إسكندر سليمان فهو لم يصف مدنًا أوروبيّة بطريقة مباشرة في أشعاره أعتقد أنّ المدن الأوروبية في رؤيته عبارة عن حدائق حيث تتفتح الزهور لثقافة التذوّق. من بين هؤلاء الشعراء العرب الذين يعيشون في أوروبا، يبدو أنّ الشاعر اللبناني سرجون كرم يحّب الكتابة عن المدن الأوروبية أكثر. ومن خلال تصفّح ديوانه سيعرف القارئ أنّ مدينة هايدلبرغ تحتلّ مقاماً مهماً للغاية في قلبه حتى أنّه يقول في أحاديثه إنّها أجمل مقبرة في العالم.

* “الحصاد”: بماذا تختلف أعمال هؤلاء الشعراء جوهرياً عن أعمال الشعراء في العالم العربي؟ 

o “ليو نا”: أولاً، دون شكّ أن هؤلاء الشعراء يتمتعون بحريّة أكثر من الشعراء في العالم العربي عند كتابة الشعر، الأمر الذي جعلهم يتجرؤون على نزع الأقنعة عن وجوه الأكاذيب والأوهام المنتشرة في العالم بلا رحمة أوتردّد. ثانيًا بفضل الاحتكاك الثقافيّ والتجارب المتنوعة مع تجارب الكتابات الغربيّة والعالمية، أصبحت أعمال هؤلاء الشعراء العرب في أوروبا أكثر نضوجًا وإبداعيّة.

بين العربية والصينية… فكرٌ وأدب

* “الحصاد”: هل يلتقي الأدب العربيّ بالأدب الصيني وأين تختلفان بحسب تجربتك؟

o “ليو نا”: أثق بأنّ الأعمال الأدبية العظيمة، سواء أكانت باللغة الصينية أم باللغة العربية، قادرة على التعبير عن المشاعر النبيلة المشتركة بين الشعوب، لذلك عند قراءة خمريّات أبي نواس، تخطر على بالي صورة الشاعر الصيني لي باي الذي يعّد من أشهر شعراء الصين القدماء لأنّهما شاعران متشابهان للغاية من حيث الشخصيّة وأسلوب الكتابة. في عام ٢٠١٨ كتبتُ مقالاً بعنوان “الشاعران اللبناني الألماني سرجون كرم والصيني غو تشنغ…والإدهاش ثالثهما” للمقارنة بين هذين الشاعرين؛ وقبل أيّام عندما قمتُ بقراءة قصائد للشاعر سركون بولص وجدتُ بالمصادفة في ديوانه “عظمة أخرى لكلب القبيلة” قصيدة بعنوان “تو فو في المنفى”. وللمصادفة نشر الروائيّ العراقي سنان أنطون عام ٢٠١٧ مقاله “سركون بولص وأشباح تو فو” باللغة الإنجليزية في مجلّة الأدب العالمي، وقد أشار سنان إلى النقاط المتشابهة بين هذين الشاعرين.  وبرأيي، أن الفكر الجميل والمشاعر النبيلة في الأعمال الأدبية دائماً ما تعرف طريقها إلى قلوب القرّاء مهما كانت جنسيّاتهم.

العدد 114 / اذار 2021