المريض يكره مرضه أكثر منّا

نسرين الرجب- لبنان

اضطراب الوسواس القهريّ: الفكرة مُلّحة وقاهرة.. والسلوك ارتيابيّ وتكراريّ..

حوار مع الأخصائيّ النفسي عيادي وتوافقي “عزيز كفوري”:

«المريض يكره مرضه أكثر منّا، لذلك لا يجب أن ندفعه بشدّة للتخلّص من مرضه! »

الأخصائيّ النفسي عزيز كفوري

يُعاني الكثير من الأشخاص من أفكار وسواسيّة تسلُطيّة بصمت، خوفًا من اتّهامهم بالجنون،  حتى تظهر حالتهم للمحيطين من خلال السلوكيّات القهريَة التي تتجاوز المنطق والمُعتاد من السلوك الإنساني السويّ، ممّا قد يضعهم في مواقف مُحرجة وغير قابلة للفَهم، يؤدي المحيط دورًا هامًا في التعامل مع حقيقة هذا المرض، إذ تتحول النصائح إلى نوع من الجلْد الذي لا حيلة للمريض في صدّها.

قديمًا، عالجهُ العُلماء من منظور دينيّ اعتقادي يرتبط بوسوسة الشيطان وحديث النفس الخفيّ، وحتى اليوم ما زال هناك الكثير من الأشخاص يُرجعون هذا الاضطراب إلى أمور غيبيّة.

 مع تقدّم الدراسات النفسيّة الغربيّة، توصّل العلماء إلى أنّ هذا الاضطراب مرض لا حيلة للمريض فيه، فهو مسلوب الإرادة على الرّغم من وعيه بلامنطقيّة أفعاله، وفسّره  بعض علماء النفس أنّه حيلة دفاعيّة لاشعوريّة للتخفيف ممّا يُعانيه المريض من شعور نفسيّ بالإثم أو الذنب كأن يغتسل المريض مرارًا أو يُسرف في تنظيف يديه. فتبدأ دورة الوسواس القهريّ من الفكرة التسلطيّة (مجموعة من الأفكار تفرض نفسها بإلحاح على المريض مخالفةً إرادته ورغباته)، يدفع هذا القلق المتزايِد والرغبة المُلحّة الشخص تجاه الفعل القهريّ بهدف تقليل الإحساس بالقلق المؤلم، على الرغم من أنّه قد يعي لا منطقيّة ما يقوم به، لكنّه لا يتمكّن من التخلّص منه.

فما هو هذا الاضطراب؟ وما هي أسبابه، وما هي العوارض التي تُثبته، وعن تأثير انتشار وباء كورونا على المُصابين به، وما هي العلاجات المتوفرة له، حملت الحصاد هذه التساؤلات للأخصائيّ النفسي “عزيز كفوري” وهو أخصائيّ نفسي عيادي وتوافقي، مستشار صحة نفسيّة مدرسي، معالج بالموسيقى، معالج إيحائي، أخصائيّ إسعافات أوليّة سيكولوجيّة وتدخُلات في الكوارث والصدمات، ومدرّب وحدات التدخّل للدعم النفسي اجتماعي.

سلوك تكراريّ مُلّح ومُزعج

 يرى الأستاذ كفوري، “أنّه غالبًا ما تتمحور هذه الوساوِس حول النظافة والترتيب والتطهير ومواضيع معيّنة، مثل:  الخوف من التلوث أو القاذورات، الشك ومواجهة صعوبة في تحمّل عدم اليقين، مع الحاجة إلى أن تكون الأشياء بشكل منظّم ومُتناسق، يُصاحب ذلك أفكارًا عدوانيّة أو مروّعة حول فقدان السيطرة وإيذاء النفس أو الآخرين، أفكار غير مرغوب فيها، بما في ذلك العنف أو الموضوعات الجنسيّة أو الدينية “.

يشرح كفوري “أنّ هُناك أنواعًا عدّة من الوساوِس القهريّة، إضافة إلى الموضوعات الرئيسيّة والتي لا تقتصر على النظافة والتطهُّر، فتمتد إلى الفحص، العدّ، الحفاظ على النظام، اتّباع روتين صارم، والمُبالغة في الطمأنّة.”

لا يُمكِن اعتبار أي سلوك تكراري وسواسًا ما لم يكُن ملحوظًا ويُشكّل إزعاجًا وقلقًا للشخص وللمُحيطين به، ومن أمثلة ذلك بحسب الأستاذ كفوري: “غسل اليدين حتى تصبح البشرة مؤلمة نتيجة شدة فرك اليدين، فحص الأبواب بشكل مُتكّرر للتأكد من قفل ، فحص الموقد بشكل متكرّر للتأكد من إيقاف تشغيله، العدّ بأنماط معيّنة، تكرار الدُعاء أو الكلمة أو العبارة بصمت (التمتمة)، ترتيب البضائع المُعلَّبة بحيث تأخُذ نفس الشكل، الاكتناز، ويمكن أن تتحوّل من نوع الى آخر وذلك بحسب الشخص والبيئة التي يتواجد فيها الشخص وسُرعة المُباشرة بالعلاج.”

أسبابه ليست حاسِمة

كلمة وسواس هي الترجمة العربية الشائعة للكلمة الإنجليزية obsession، هو فكرة أو شعور تحتل العقل بشكل يسبب الضيق، “بعض العلماء رآه نوع من العصاب وبعضهم رآه ممرًا من العصاب الى الذهان،  الأمريكان وضعوه كواحد من اضطرابات القلق (Anxiety) ، وباعدوا ما بينه والذهان إلّا أن هذه القضية لم تحسم.

يرى الأستاذ كفوري: ” أنّ السبب الدقيق للوسواس القهريّ غير معروف تمامًا، فقد أظهرت الدراسات أنّه ناجم عن مزيج من العوامل البيولوجيّة والبيئيّة، فبالنسبة للعوامل البيولوجية أظهرت الدراسات أن انخفاض مستويات هرمون السيروتونين فى الدماغ قد يؤدي إلى أعراض الوسواس القهري، وهناك أدلّة قويّة على أنّ الخلل فى توازن مستويات السيروتونين قد ينتقل بالوراثة، وبالنسبة للعوامل البيئيّة يمكن للضغوطات البيئيّة المختلفة أن تؤدي لاضطراب الوسواس القهريّ، خاصةً لدى الأشخاص الذين لديهم ميل لتطوير هذا الاضطراب، وهذه العوامل تشمل العنف البدني أو النفسي، وكثرة التغييرات الحادّة فى الحياة كتغيير المسكن، أو المرض، أو وفاة إنسان عزيز، أو التغييرات والمشاكل فى العمل أو الدراسة، أو المشاكل الزوجية”.

      ويُفيد الأستاذ كفوري: “أنّ هذا الاضطراب قد يكون مُصاحِبًا لأمراض نفسيّة وعقليّة أُخرى، فيقول: ” قد يكون اضطراب الوسواس القهريّ (OCD) متصلاً باضطرابات الصحّة العقليّة الأخرى، مثل اضطراب القلق أو الاكتئاب أو مُعاقرة المخدرات أو الكحول أو اضطرابات العَرّة (تقلص لاإرادي في عضلات الوجه).”

 وفي مكمن آخر يُفيد كفوري أنّ الوسواس القهري: “لا يُسبب الذهان ولكن في الأمراض النفسيه لا شيء يمنع من التقاء مرضين معًا فعندما يلتقي الوسواس بالذُهان يُعالج الاثنين معًا .”

ويوضّح: “يُعرف الوسواس القهري بأنّه فكر متسلّط يدفع الشخص إلى تكرار سلوك بشكل إجباريّ ويسيطر عليه، ولا يستطيع مقاومته أو التوقّف عن فعله أو التفكير فيه، على الرّغم من إيمانه ووعيِه بغرابته وعدم وجود أي فائدة له، فهو يشعر بالقلق والتوتر إذا حاول مقاومة أفكاره، وهناك شعورٌ داخليّ مُلِّح بشدّة للقيام بالسلوك. ويمكن معالجته في أي مرحلة” .

وساوِس كوفيد 9

صاحب انتشار وباء كورونا، مخاوفًا كثيرة، زاد من هولها الإعلام والحثّ الدائم على ضرورة اتّباع طرق الوقاية الصحيّة، فبرزت  الحاجة لتكثيف استعمال المنظّفات والمعقّمات وغسل الأيدي المُتكرّر والكمامات الطبيّة وفرض نظام التباعُد الاجتماعي، إضافة إلى ضعف الجاهزيّة الطبيّة لمواجهة كُل مخاطر الوباء، وفرضيّة الموت اختناقًا وعلى أبواب المُستشفيات وغيرها من التحذيرات والإجراءات الوقائيّة التي قاربت المُبالغة أحيانًا، والتي ساهمت في مكمن آخر بظهور بعض الاضطرابات النفسيّة، وإلى زيادة الأعراض على المُصابين أساسًا ببعض أنواع المرض النفسيّ؛ ومنها الوسواس القهريّ،  وعن ذلك يقول الأستاذ كفوري:

“إن انتشار الفيروس يؤثر بشكل كبير على المُصابين بالوسواس القهري، ففي المقام الأوّل قد يؤدي إلى تصاعد القلق وتعزيز المخاوِف السائدة من التلوث، وقد يؤدي إلى إجراءات وقائيّة مدمّرة، فبالنسبة لبعض الأشخاص الذين يعانون من هذا المرض قد يصبح فيروس الكورونا هو كلّ ما يفكرون بها .

   إن اضطراب الوسواس القهريّ الذي يترتب على فيروس كورونا لن يكون الأوّل، فهناك الوسواس القهري الخاص بالإصابة بمرض الإيدز، الذي انتشر في الثمانينيّات، وهناك جيل كامل أصيب بصدمة نفسية.”

والسؤال: هل نحن معرضون للإصابة بالوسواس القهري بسبب فيروس كورونا؟

يُشير كفوري إلى “تبايُن الآراء الطبية حول إمكانية تسبّب فيروس كورونا بالإصابة بالوسواس القهري، فقد أشار موقع ويبميد (WebMD) الأمريكيّ المتخصص بالصحة إلى أنّه لا يمكن اعتبار فيروس كورونا سببًا مباشرًا للإصابة وذلك بالرجوع لأسبابه الأساسيّة والتي ترتبط عادة بتغيرات في الدماغوعوامل وراثيّة وبيئيّة وعادات طويلة الأمد. إلّا أنّ الخوف حسبما أشارت المؤسسة الدوليّة للوسواس القهريّ ومنظّمة الوسواس القهريّ البريطانيّة

 (OCD- UK)   يدور حول الحالات غير المشخّصة للإصابة بالوسواس القهريّ إلى جانب الحالات التي كانت تتلقى العلاج باعتبار الجائحة محفزًا قويًا للقلق والخوف والأعراض المختلفة.”

التوعية والعلاج النفسيّ

إنّ علاج الأمراض النفسيّة يرتبط بالمفهوم الذي يتصوّره أو يعتقده الطبيب المُعالج لِما هو إنسان، معرفة الطبيب لموقفه من القضيّة له تأثير في موقفه العلاجيّ، فلكيْ يتأكّد من أنّ الحالة هي وسواس قهريّ لا بُدّ من إجراء سلسلة من الفحوصات الطبيّة والنفسيّة، الفحص الجسديّ، الفحص المخبريّ، التقييم النفسي.

فيرى الأستاذ كفوري: “أنّه غالبًا ما تكون التوعية والعلاج النفسيّ هما الحلّ الأنسب للتمكّن من تحرير الشخصيّة من نمطها السلوكيّ الوسواسيّ وخاصةً إذا كان المريض واعيًا لجميع العوارض “.

وعن طُرُق العلاج يشرح أنّ ” هنالك نوعان أساسيّان متبعان في علاج الوسواس القهري، وهما:

 –  العلاج النفسيّ

–  العلاج الدوائيّ

يختلف العلاج الأفضل والأنجع لاضطراب الوسواس القهري تِبعًا للمريض نفسه؛ وضعه الشخصيّ وتفضيلاته، وغالبًا ما يكون الدمج بين العلاج النفسيً والعلاج الدوائي ناجعًا جدًّا.

      في العلاج النفسي لاضطراب الوسواس القهري تبين أنّ الطريقة العلاجيّة المسمّاة “المعالجة المعرفية (الإدراكيّة) السلوكية” (cognitive behavioral therapy – cbt) هي الأكثر نجاعةً في معالجة هذا  الاضطراب كما أنّه ثمّة أدويَة معيّنة لمعالجة الأمراض النفسيّة يمكن أن تُساعد في السيطرة على الوساوس والسلوكيات القهريّة التي تُميّز اضطراب الوسواس القهريّ”.

لا يجِب معاملة المريض على أساس أنّه المرض..

يؤدي المُحيط (الأهل، العائلة،  الأصدقاء..) دورًا هامًا في تحسين أو تثبيط حالة المريض، كونِهم شهودًا على سلوكه الاضطرابيّ المُتكرّر، من هُنا فإنّ طلب الأهل من المريض بالوسواس القهريّ الكفّ عن أفعاله القهرية أو التحكّم بأفكاره التسلطيّة هو أمرٌ لا ينفع بل يُعزّز الحالة المرضيّية، ويؤدي إلى تعزيز الألم في نفس المريض.. وكذلك الاستسلام والاستجابة لسلوك الأبناء  من خلال تركهم يفعلون ما يريحهم أو حتى يُشاركونهم في إتمام طقوسه القهريّة لا يحلّ مشكلة.  ومن هُنا ينصح الأستاذ كفوري أنّه:

“إذا كان لدينا  صديق أو قريب أو فرد من عائلتنا مُصاب بهذا الاضطراب، يجب علينا التعرُّف على هذا المرض وطُرق علاجه، والتأكّد من أنّ المريض يعرف أيضًا هذه الأمور، يُضيف: تذّكر أنّ من يتحدث ويفكر هو المرض وليس المريض ولا يجِب أبدًا معاملة المريض على أساس أنّه المرض، خاصةً إذا شعر المريض أنّ في محاولتنا للمساعدة نوع من التدخّل الغير مرغوب فيه، فلا بُدّ من أن نكون متفهمين وصبورين على المريض؛ لأنّها طريقة جيّدة وتُساعده في التخلص من أعراض المرض. لا يجب  التوقّع من المريض أن يُنجز الكثير، ويجب أن نحاول توجيهه للأمور الإيجابيّة في حياته، وأن نتذكر دائمًا أنّ المريض يكره مرضه أكثر منّا، لذلك لا يجب أن ندفعه بشدّة للتخلّص من مرضه!.”

في الختام: المطلوب إعانة المريض على مرضه دون تجريح أو سخرية،  وطمأنته على أن استسلامه للفعل القهريّ لابأس به  ومساعدته على العلاج بالالتزام والتعاون مع  الطبيب المعالِج، وطلب الوساطة في الحالات المعقدة. وفي العلاج الدوائي يجب المواظبة على تناول العقار حتّى بعد حدوث التحسُن، فتركه قبل المدّة التي يحدّدها الطبيب قد يؤدي إلى رجوع المرض.

العدد 114 / اذار 2021