حمارة الحدود

 جاد الحاج

تعتريني قشعريرة باردة  كلما  عدت الى الجنوب اللبناني ورأيت الاسلاك الشائكة و’التدابير‘  العسكرية ،  مما يشعرني باعتداء سافر على  ذاكرتي التي تحتفظ بأرضٍ ترابها واحد، وهويتها لا تقبل الريبة او الغربة. طبعاً لذاكرة الطفل هشاشتها، ولها ايضاً دفاعاتها المسلحة بكل ما يعصى على  الكسر والتمويه، ناهيك بالنسيان. لحسن الحظ ان ذاكرتي كشكول احزان وسخط وضحك وحكايات. واحدة تشد أزر اختها  واحياناً يضيء  ملح   دمعة هنا  على شهد ابتسامة هناك.

كلنا نزحنا قبل الحرب الأهليىة الى  السواحل إلا عمتي نقيّة ، حافظت على البيت العائلي بكامل اسطبله ويوكاته ومصطباته وكركته وصاجه وغرابيله والفؤوس والمعاول، إضافة الى حمارته العزيزة على قلبها ، هرّوش. ’وكان ماشي الحال‘  فلا احد في قريتنا الصغيرة يقيم سياجاَ حول ’طروشه‘ وليس بيننا ظالم يربط بغله تحت شجرة، فالطروش كالقطط والكلاب مشمولة بديمقراطية الحركة، ولو   نقصت واحدة في آخر النهار، فاقدارنا أيضاً واحدة، وإلهنا على كل شيء قدير.

 ذات يوم غابت هرّوش، وغابت الشمس على غيابها،  ونأى الكرى عن اجفان العمة الصبور. والحق يقال، اننا في هذا المجال امام معضلة أوسع من مجرّد  فقدان دابّة: عين الماء على مسافة ساعة مشياً ويلزمنا مشواران كل اسبوع لتأمين مياه الطبخ والشفة التي تنتهي بعد “تدويرها” سائلاً صالحاً لريّ البقول ’قريبة من اليد‘ فيما يذهب الباقي الى الغلي فغسيل الملابس واغطية التخوت. وحين تحن نقيّة  الى البلدة المجاورة لرؤية صاحباتها القديمات، تراها اسرجت هرّوش وشكشكتها بالمكدوس والكشك واللبنة  والبيض والسماق والزعتر، وقرّبتها من المصطبة ’حدّ الباب‘ وامتطتها في قعدة نسوانية عل جهة واحدة، واكتفت بالهمس لها: كفركلا، فلو هزت هرّوش اذنيها يعني انتهت المخابرة واستوى السراط الى كفركلا!

  نسينا فلاحة الجلول  المجاورة للبيت وتنظيفها من العشب البري تمهيداً لزرعها، فهذه مهمة سنوية لم (ولن!) تسمح هرّوش بإسنادها الى أحد ، مع ان السكة والمعدور ثقيلان والجلول ضيقة، لكن، تعرف هرّوش ، ان لا بغل في قريتنا يستطيع  ان يصبر على ’هداوة‘ نقية وهي تقوم بشغل الرجال، ما  يحيل الدابة الى حليفة  مساندة لصديقتها الصدوق!

ولكن قد  تجري الرياح بما  تشتهي العمة النقية، فذات يوم ربيعي مشمس، بعد مرور قرابة السنة على غياب هرّوش، وفيما العمّة تلم غسيلها سمعت اصواتاً هازجة وقرقعة غير مألوفة سرعان ما اوقفت خفقات قلبها إذ رأت دابّتها تجرحنطوراً محملاّ بفاكهة طازجة وخلفه اولاد القرية ومعهم مختارها وحفنة شرطة وأفراد من  جنود الأمم المتحدة . . . ’شو يعني ؟ هرّوش سرقت بستان فواكه يا جماعة؟‘

لا، لا، لا، كرر المختار وافاد الست نقيّة ان هرّوش مكثت لدى العبرانيين طوال  غيابها وهي الآن حامل، وعائلتها الجديدة تريدها ان تعود لتلد عندهم، فالأفضل ان نوزع الثمار على الصغار ونعيد الحمارة الحامل الى الناقورة.

رأت العمة ان الرهط المرافق لهرّوش متفق تماماً على الخطة فقررت الا تناقش خصوصاً أن هرّوش حامل ولا يجوز ازعاجها.

بعد ثلاثة اشهر عادت هرّوش الى موطنها الأصلي وااستقبلتها العمة بحفاوة دامعة، كما اطعمت الكرّ المهضوم المرافق لها، وتخيلت انه سيكون وريث امه، لكنها ما ان بدأت تفكر في اختيار اسم له حتى فوجئت بعودة المختار والشرطة وجنود الأمم المتحدة لإستعادة الكرّ الوليد على اعتبار انه عبرانيّ المولد. طبعاً عاند الكرّ كثيراً، وقررت العمة أن تسميه صوّان، لكنه لم يصمد كفاية كي يستحق اسمه، بل حمّلوه في  شاحنة الأمم المتحدة واعادوه الى  الناقورة.

  العمة نقيّة  لم تقل شيئاً  يذكرحتى قبيل وفاتها تلك السنة حين تمتمت: يعني اذا كرّ زغير ما قبلوا يخلوه حد امه، راح يقبلوا يحلّوا عن سمانا؟!

العدد 115 / نيسان 2021