النقد الأدبيّ وعلاقته بالإعلام والثقافة

بيروت من ليندا نصار

إنّ من يتطلّع إلى طبيعة النقد في لبنان، يلاحظ عدم كفايته كحركة نقديّة منفردة إلا أنه يمكن أن تكون لها أهمّيتها في سياق الحركات النقديّة التي عرفها العالم العربي، وهذا ما يدفع النقاد إلى البحث في روافده من خلال البحث عن تمثيلاته في الصحافة الثقافية اللبنانيّة. وذلك يتأتى من خلال تحديد المفاهيم المتصلة بكل من الإعلام والثقافة والعلاقة بينهما والحضور القوي لوسائل التواصل الاجتماعي ودورها البارز خصوصًا في عصرنا اليوم.

تحتل وسائل الإعلام الصدارة في عمليات التغلغل لإدراكها منابع القوة في الهيمنة الثقافية التي تتحدد حسب ضرورات السوق، وتتجسد عبرها الملامح الإيديولوجية للاقتصاد الذي يضفي الطابع التجاري. وإذا ما أردنا أن نعمل على تحديد الإعلام بحسب الباحثين، فهو يحضر بوصفه “وسيلة- أداة تقنية- وسيط تمكن الناس من التعبير ومن إيصال هذا التعبير إلى الآخر، مهما كان موضوعه أو شكله؛ أي مجموعة من تقنيات ومشاريع وأشكال تعبير ومجالات نشاط معينة.

أما مفهوم الثقافة فهو الذي تختلف دلالته بحسب اختلاف تمثّلات الأفراد، والجماعات، والمجتمعات، وتصل أحيانًا إلى درجة الغموض والالتباس، وقد ارتبطت الكلمة الفرنسيّة في القرون الوسطى بـ”الطقوس الدينية”، ثم صارت تحيل إلى “فلاحة الأرض” في القرن السابع عشر لتتّخذ طابعًا فكريًّا في القرن الثامن عشر قبل أن تعود مجدّدًا وتتحدد في المضمون الجماعيّ؛ لأنّها عمليّة عامّة من التطوّر العقليّ والجماليّ والروحيّ ، وأقرب ما تكون طريقة في الحياة؛ أي باعتبارها طريقة معيّنة من نمو الأفراد والمجتمعات، غير أنّها سرعان ما ستغدو عمليّة عامّة من التنمية الاجتماعيّة مع نهاية القرن الثامن عشر حتى أواسط القرن العشرين إلى أن أصبحت تجسيدًا لمجموعة من المعايير العليا التي يمكن أن يشار باسمها إلى الحضارة المادّيّة لضحالتها ورداءتها ونقصانها، حين تُصَوَّرُ من وجهة نظر معايير عليا للكمال أو الاكتمال الإنساني الذي صارت تمثّله فكرة الثقافة باستمرار. يحدد تايلور الثقافة في أنّها “المركب الذي يضم المعرفة والاعتقاد والفنّ والأخلاق والقانون والأزياء وكلّ الملكات الأخرى والعادات التي يكتسبها الإنسان من حيث هو عضو في مجتمع”، وهو التعريف نفسه الذي تحدّده منظّمة الأمم المتّحدة؛ إذ ترى الثقافة بأنها “مجموع السمات المميّزة، الروحيّة والمادّيّة والفكريّة والوجدانيّة التي يتميّز بها مجتمع أو مجموعة اجتماعية. ويشمل، علاوة على الفنون والآداب، أنماط العيش وحقوق الإنسان الأساسية، ونظم القيم، والتقاليد، والمعتقدات”، ويتم استعمال كلمة “الثقافة” بطريقتين: إما بنوع من المجاز، عندما يعني القائل عنصرًا من عناصر الثقافة أو مظهرًا من مظاهرها كالفنّ مثلًا، وإمّا على أنّها نوع من مثيرات الانفعال- أو مخدّراته، ومن ثمّ تأتي الحاجة إلى التفريد بما يتعلق بالتّشكلات الثقافيّة المختلفة التي نعدّ نحن جزءًا منها، أو نسعى لأن تكون جزءًا منها. أمّا التعريف الاجتماعيّ للثقافة، فيتّصل بتوضيح طريقة عيش معيّنة أو مستقلّة تتطلّب المعاني والقيم، ليس فقط في الفنّ والتّعلم، وإنّما أيضًا من خلال التصرّف؛ ذلك أنّ هذا النوع من الثقافة يلزمه نقدًا تاريخيًّا دائمًا لتحليل الفكر والخيال وربطهما بالمجتمع والعادات وتتضمن أيضًا تحليل عناصر معيّنة من المجتمع والعادات  كالعائلة والعلاقات الاجتماعية، وصار المثقّف حريصًا على منظومة القيم الجمعية، وسندًا يُرجع إليه على حدّ ما انبرى جموع الناس يروّضون نوازعهم في ارتباطهم بكل ما يرمز إلى سلطة الثقافة.

بالعودة إلى حركة النقد الأدبيّ الحديث في لبنان، يمكننا الاعتبار أنه جزء من حركة الأدب الحديث كلّه، وقد مثّلت مجلّة الآداب “أوّل تجمّع ثوريّ للأدب الجديد” عام 1953، وراهنت على أدب الالتزام كمرجع نظريّ وإبداعيّ في تصوّراتهاعبر الترجمة من أجل إنهاض الحركة الثقافيّة، ودفع الأقلام الجديدة إلى التعبير عن عصرها تحت لواء الدعوة القوميّة في الفكر العربيّ، والدعوة الاجتماعيّة في الأدب، والدعوة التحرّريّة في الشعر

 في حين حملت مجلّة شعر عام 1957 التوجّه الحداثيّ وقعدت له عن طريق الدعوة إلى الحرّيّة، والصدق مع الذات، أو ما اصطلح عليه يوسف الخال بـ”التجربة الحية”؛ أي النظر إلى الإنسان بوصفه معيارًا للقيم، وموضوعًا للشعر أولًا وآخرًا؛ ذلك أن كلّ تجربة لا يتوسّطها الإنسان هي تجربة مصطنعة لا يأبه لها الشعر العظيم. تقول خالدة سعيد في هذا الصدد: التجربة التي “يتوسطها الإنسان “في هذا الأفق، تقترن بالمعاناة، لا بمعنى الألم وحده، معاناة، لا تنحصر في المستوى الفرديّ ولا المستوى الجمعيّ، لا تنحصر في الماضي ولا في الحاضر. إنها لحظة وعي وتمثّل وانخراط صميميّ، عند تقاطع الخبرات، ورؤيا المصائر، عند ملتقى الفرديّ والتاريخيّ والكونيّ. هذا الانطلاق من التجربة يطرح زمنًا نفسيًّا أو فلسفيًّا، زمنًا مليئًا ومتعدّد الإضاءات، والروافد والآفاق. زمن المحنة بمعنى الامتحان المتواصل والسؤال الدائم، زمن تتلاقى فيه التجارب ويسائل بعضها بعضًا”، لتصدر مجلة “مواقف” بريادة أدونيس بين عامي 1968 و1994 حاملة شعارًا يبنى على أساس الحرّيّة، والإبداع، والتغيير، ويتّسم بالطابع النقديّ وخصوصًا النقد الذاتيّ بهدف تحسين الإبداع، لتشكّل هذه المجلة أداة وعي بعد انتهاء عصر النهضة، أعادت النظر نقديًّا في كثير من الأشياء على كافّة الأصعدة. على الرغم من أنّ هذا لا يعني أن مجلة “مواقف” اختلفت عن مجلة “شعر”، بل يمكن اعتبارها استكمالًا لها، وانخراطًا في المشهد الثقافيّ العربيّ وأسئلته.. وقد اتّسم النقد- في هذه المجلة- بضرورة إعادة النظر في ما يتعلق بإشكالات الحداثة الشعريّة والفنّيّة ونقد الفكر انطلاقًا من النقد الذاتي أولًا، وذلك عن طريق النقد التطبيقيّ للتجارب الشعريّة الجديدة، مع تهميش الدراسات الأكاديميّة ورفضها. وفي خضمّ هذه الحركيّة النقديّة التي بثّتها مجلّة “مواقف”، يمكن للباحث أن يراقب أهمّيّة “مؤسّسة الفنّ والأدب” بوصفها دارًا للثقافة في بيروت، وما عرفته من لقاءات نقدية أضحت شبه يومية، وكانت تدور فيها السجالات والنقاشات والأنشطة الثقافيّة، وقد أسّستها جنين ربيز بهدف توسيع نطاق الأدب وتداول النقد الأدبيّ بين الجمهور.

العدد 115 / نيسان 2021