جامعة الدول العربية ومعطيات حاضر المستقبل

أ. د. مازن الرمضاني*

في العددين السابقين من مجلة الحصاد تناولنا حاضر منظمة الآمم المتحدة ومشاهد مستقبلاتها, كنموذج لمنظمة حكومية عالمية. في هذا العدد سنتناول حاضر جامعة الدول العربية. أما في العدد القادم سنبحث في مشاهد مستقبلاتها, كنموذج لآول وأقدم منظمة حكومية إقليمية في العالم, وبرحلة أمتدت زمانأ إلى (76) عامأ, وأقترنت عبر هذا الزمان الطويل نسبيا بإخفاقات متكررة, ولكن أيضا بإنجازات لا تنكر.

 إبتداء, تجدر الإشارة إلى أن تأسيس جامعة الدول العربية لم يكن بمعزل عن تاثير مدخلين ,أو تيارين, مهمين, ولكن مختلفين من حيث أهداف كل منهما أستمرا يتصارعان عبر الزمان وعلى نحو افضى إلى أن يصبح هذا النوع من الصراع أحدى خصائص النظام الإقليمي العربي: الآول وحدوي, ويكمن في تط تشكيل كيان واحد يجمع العرب كافة. أما الثاني فهو قطري, ويقترن بالسعي إلى تكريس التجزئة, وإلى أقامة علاقات بين الدول العربية كدول ذات سيادة . وقد جاءت جامعة الدول العربية كحصيلة لتاثير هاذين التيارين, علما أن الدعوة إلى إنشاء هذه الجامعة وجدت دعما من قبل الحكومة البريطانية, بعد انتصار الحلفاء في معركة العلمين في تشرين الثاني/اوكتوبر 1942, ليس مناصرة منها للتيارالوحدوي العربي, وإنما سبيلا لآحتواء هذا التيار والحيلولة دون تعرض المصالح البريطانية للتهديد.

 وقد أفضت حصيلة المباحاث, التي دارت تحت عنوان مباحثات الوحدة العربية, بين سبع دول عربية كانت مستقلة رسميأ أنذاك, إلى تأسيس جامعة الدول العربية في عام 1945, والتي أستمرت تعمل منذ أنذاك على وفق ميثاق لم تتغيرأسسه القانونية, والذي كانت صياغته قد تمت تحت تاثيرمعطيات عقد الآربعينيات من القرن الماضي, على الرغم من التحولات العربية والعالمية .

 إن تأسيس هذه الجامعة قد تم على وفق مجموعة من المبادىء القانونية, التي جعلتها منظمة تعمل على  مجرد تنسيق الآفعال السياسية وسواها لدول مستقلة ذات سيادة, وكأداة لتحقيق تعاونها الآختياري ولا غير. ويتجلى هذا واضحا في نص ديباجة ميثاقها, الذي حدد غايتها. فتبعأ لها, تشكلت جامعة الدول العربية : ” تثبيتا للعلاقات الوثيقة والروابط العديدة التي تربط بين الدول العربية,وحرصا على دعم هذه الروابط وتوطيدها على اساس أحترام استقلال تلك الدول وسيادتها, وتوجيها لجهودها إلى ما فيه خير البلاد العربية قاطبة, وإصلاح أحوالها وتامين مستقبلها وتحقيق أمانيها وأمالها.”

وفي ضوء النص اعلاه, والمواد الآخرى في ميثاقها, تسعى جامعة الدول العربية إلى تحقيق ثلاث مجاميع عامة من الوظائف: الآولى, وظائف سياسية تكمن في تنسيق سياسات الدول الآعضاء على الصعيدين الداخلي العربي والخارجي الدولي. الثانية, وظائف عسكرية تتجسد في المحافظة على الآمن والسلم القومي العربي. أما المجموعة الثالثة من الوظائف فهي تفيد بتعميق أنماط التعاون العربي على شتى الصعد الوظيفية, أي غيرالسياسية.

وجراء مضامين هذه المجاميع من الوظائف, يمكن القول أن ميثاق جامعة الدول العربية لم يأت بمنظمة فوق قومية  Supranational Organization))  تعمل من أجل  الوحدة العربية , بل ولا حتى تحقيق التكامل الآقتصادي والآجتماعي والعسكري والسياسي بين الدول العربية, وإنما جاء بمنظمة أريد بهاالعمل من أجل تثبيت الواقع العربي الممتد منذ عام 1945. وتؤكد المادة الثامنة من ميثاق جامعة الدول العربية أن الدول المؤسسة لم تتطلع إلى تغيير الواقع العربي, وإنما إلى تكريسه. فهي تنص على الآتي:” تحترم كل دولة من الدول المشتركة في الجامعة نظام الحكم القائم في دول الجامعة الآخرى وتعتبره حقا من حقوق تلك الدول وتتعهد بإن لا تقوم بعمل يرمي إلى تغيير ذلك النظام فيها.”

وقد أفضت هذه المادة, التي تدعمها مضامين مواد أخرى, إلى منظمة ذات تنظيم هرمي بدائي التكوين, وباختصاصات ضعيفة, ويتخذ قراراته الآساسية بإجماع الآصوات, وحرمه من اتباع سياسة خارجية مستقلة عن إرادة الدول الآعضاء, ومن ثم  تم تجريد جامعة الدول العربية من تلك العناصر, التي تضفي على أي تنظيم دولي حكومي خصائص القدرة على الفعل, ومن ثم التاثير.  ومع ذلك, أدى انتشار نشاطات لجامعة الدول العربية , ومنذ تاريخ النشأة  صعودا, على مستويات متعددة, إلى تطور هيكلها, والى زيادة موازنتها, وعدد موظفها, وتوسيع نطاق وظائفها, وعلى نحو لم يتطرق اليه الميثاق.

ولآن جامعة الدول العربية, كسواها من المنظمات الإقليمية الحكومية, تعتمد في أدائها لوظائفها على مدى قيام هياكلها بواجباتها, يشترك في عملية أتخاذها للقرار العديد من الهياكل الرسمية. وعلى الرغم من أن هذه الهياكل تستطيع , نظريا, أتخاذ قرارات على نحو مستقل, إلا أنها لا تكتسب السمة الرسمية إلا بعد مصادقة مجلس جامعة الدول العربية, بإعتباره هيكلها الآساس .ويرد ذلك إلى أنه يعد, سياسيأ, الهيكل الذي تمت إناطة حماية مصالح الدول الآعضاء به عن طريق أتخاذ القرار بالاجماع من ناحية. ولآنه يشكل, قانونيا, الوحدة الآساس لعملية أتخاذ القرار فيها, من الناحية الثانية.

وقد أناط الميثاق تحقيق أهدافه بهيكلين مهمين , هما مجلس جامعة الدول العربية وأمانتها العامة. يتشكل المجلس من الممثلين الدائمين للدول الآعضاء وفلسطين. ويجتمع في دورتين عاديتين سنويأ في شهري اذار وايلول. وكذلك في دورات إستثنائية حسب الضرورة.  وعلى الرغم من أن الميثاق يميز بين ثلاثة طرق للتصويت, مختلفة من حيث اجراءاتها ونطاق الآلتزام بها, هي: بالاجماع, وباغلبية الثلثين, والاغلبية البسيطة, الإ أن الواقع العملي يفيد أن أتخاذ القراربالاجماع هوالآساس. وقد أتاحت هذه الصيغة للدول الاعضاء اللجوء عمليأ إلى حق النقض, أي الفيتو,ضد القرار,الذي يتقاطع مع مصالحها, أوالامتناع عن التصويت عليه, للحيلولة دون الالتزام به. وقد كان اللجوء المتكرر لحق النقض بمثابة الصخرة التي تحطمت عليها محاولات الإرتقاء بالتعاون العربي ضمن نطاق جامعة الدول العربية إلى أفاق أرحب.

وعلى الرغم من أن التصويت بالآجماع داخل مجلس الجامعة يفضي إلى تشابه إرادتها مع إرادة حكومات الدول الآعضاء, الآمر الذي يجعلها جزء من إرادة مجموع الدول الآعضاء, تؤدي طرق التصويت الآخرى: أغلبية الثلثين والآغلبية البسيطة, إلى ابرازاستقلالية إرادة جامعة الدول العربية عن إرادات حكومات الدول الاعضاء, ذلك لآن هذه الطرق, على الرغم من ضيق نطاقها, لا تلزم هياكل الجامعة فقط, وإنما أيضا الدول الآعضاء. وهذا يبدو واضحأ في نصوص الميثاق المتعلقة مثلا بفض النزاعات العربية, والوساطة, والتحكيم, وانتخاب الآمين العام, وتعديل الميثاق.

أما الهيكل الآساس الثاني, فتجسدة الآمانة العامة لجامعة الدول العربية, التي تضم نوعين من الموظفين: الآول الموظفون الرئيسيون, وهم الآمين العام ومساعدوه. أما الثاني فهم الموظفون الإداريون: أي رؤوساء دوائر الآمانة العامة والمساعدون والآختصاصيون والكتبة. ويفترض في هؤلاء , على وفق قواعد العمل داخل جامعة الدول العربية, أن يتم أختيارهم من جميع الدول العربية بصورة متساوية , ويفضل أن يكونوا من حملة الشهادة الجامعية الآولية. بيد أن التطبيق العملي لا يشيرإلى عدالة   التوزيع وجامعية التعلم. ويتم تبرير ذلك بالقول أن الآمانة العامة فشلت في مسعاها في تعيين موظفين أكفاء من جميع الدول الآعضاء, لعدم أستجابة الآخيرة. ويتقاطع هذا التبرير مع واقع التطبيق السائد داخل الآمانات العامة للمنظمات الحكومية العالمية والإقليمية على السواء. فهذه المنظمات تشجع العمل فيها من قبل عناصر تنتمي إلى كافة دولها الآعضاء.

وتعد الامانة العامة الهيكل الاساس الثاني والوحيد المستمر في نشاطة اليومي. وعلى الرغم من مركزية أتخاذ القرار في جامعة الدول العربية, إلا أن الآمانة العامة صارت, ومنذ زمان طويل, تتمتع بتاثير مهم في قرارات مجلس الجامعة عن طريق قيامها بإقتراح ثمة سياسات وأيضأ كيفية تنفيذها, فضلا عن المشاركة في المناقشات التي تدور حول هذه السياسات. وقد كان من نتائج ما تقدم ان صارت وظيفة  الجامعة مجلس, في العموم, تقترن بالمصادقة على مشاريع البرامج التي تقترحها الآمانة العامة, بإعتبارها الهيكل الآكثر تفاعلا مع الدول الآعضاء, وهو الآمر الذي جعلها عمليأ تحدد جل جدول أعمال مجلس الجامعة, ومن ثم نوعيىة وافضليات المواضيع ,التي يتعين على اعضاء المجلس مناقشتها, الآمر الذي جعلها بالحصيلة بمثابة الهيكل التنظيمي الذي لا يقتصر دوره على مجرد تنفيذ القرارات, وإنما أقتراحهاعمليا بصيغتها الآولية .

وبالآاضافة إلى مجلس جامعة الدول العربية والآمانة العامة تشترك في عملية صنع القرار هياكل متعددة , ومن بينها اللجنة السياسية, التي تتشكل من وزراء خارجية حكومات الدول الآعضاء, والتي تعقد أجتماعا دوريا في شهر أيلول من كل عام, وأجتماعات أستثنائية قبل وخلال وبعد اجتماعات مجلس الجامعة لتقديم توصياتها في ِ المواضيع المعروضة سواء على هذا المجلس أو مؤتمرات الملوك والرؤوساء العرب. ولهذا يشكل وجودها, الذي يعود إلى عام 1946, تطورا هيكليا مهما ضمن جامعة الدول العربية,الآمر الذي جعلها تشكل أيضأ المنافس المهم لمجلس الجامعة, وذلك لمدخلين: أولهما, ذهاب هذا المجلس, في العموم, إلى المصادقة على توصياتها من دون مناقشة مستفيظة, وثانيهما, قيامها بتنفيذ بعض وظائف المجلس عوضأ عنه.

وإلى جانبها تشترك أجهزة ميثاق الدفاع المشترك والتعاون الاقتصادي(دخل حيز التطبيق في عام 1952), أي مجلس الدفاع المشترك والمجلس الاقتصادي, هذا فضلا عن المنظمات المتخصصة لجامعة الدول العربية, في عملية صنع قراراتها. وبالقدر, الذي يتعلق الآمر بمجلس الدفاع المشترك, فإنه يتشكل من وزراءالخارجية والدفاع العرب, الذين يجتمعون في دورة عادية كل سنه, وكذلك في دورات استثنائية للنظر في القضايا التي تهدد السلم والآمن العربي. ويتطلب عقد أجتماعات هذا المجلس ضرورة موافقة جميع الدول الآعضاء. ولاختلاف هذه الدول في تقيمها لتلك القضايا, يلاحظ ندرة هذه الآجتماعات بالمقارنة مع كثرة أجتماعات مجلس جامعة الدول العربية.

وعلى الرغم من أن مجلس الدفاع المشترك يتخذ قراراته بأغلبية الثلثين, ومن ثم تصبح ملزمة لجميع الدول العربية الموقعة على ميثاقه. ويشير الواقع إلى ضرورة الموافقة اللاحقة لمجلس الجامعة على قراراته. وذلك, سياسيأ,جراء الالتزامات العسكرية والسياسية التي ترتبها هذه القرارات على الدول الآعضاء, وكذلك,قانونيأ,لآن مجلس الجامعة هو هيكلها الآساس.

وعلى الرغم من أن جامعة الدول العربية تشترك مع العديد من المنظمات الإقليمية في خاصية مساهمة كافة الدول الآعضاء في أتخاذ القرار عن طريق التصويت بالإجماع, إلا أن هذه المؤسسة العربية تكاد تنفرد عنها بإشكالية مهمة تكمن في أستمرار التاثير الحاسم لبيئتها الخارجية, التي تتجسد في نوعية العلاقات العربية البينية السائدة في زمان محدد في كيفية اداء وظائفها , سلبأ أو ايجابأ. فعندما تسود حالة التضامن والتعاون بين الدول العربية, لا يصارإلى سهولة أتخاذ القرارات حسب, وإنما أيضا, وهذا هو الآهم, إلى تنفيذها. وعلى العكس من ذلك يحصل في أوقات الآزمات العربية . فعندما يصيب العمل العربي المشترك التصدع والوهن, جراء مخرجات هذه الآزمات, عندها أما لا تطرح تلك القضايا المختلف عليها للنقاش تجنبا لمزيد الخلاف, أو ذهاب ثمة دول عربية إلى تعطيل تنفيذ قرارات متخذة من قبل مندوبيها, أو أتخاذ قرارت ,ذات مضامين دعائية,ومن ثم وضع عقبات أمام تنفيذها , ومنها مثلا تشكيل لجان لدراسة سبل تنفيذها وكأن صناع القرارعند أتخاذهم للقرار لم يبحثوا في سبل تطبيقه. وعادة تتشكل هذه اللجان من ممثلين عن حكومات الدول الآعضاء لا يملكون التخويل القانوني لآتخاذ القرار,مما يجعلها بالحصيلة أداة لضياع الوقت والجهد.

ولا تقتصر تاثيرات الظرف السياسي العربي السائد , ومن ثم أختلاف المصالح للدول الآعضاء, على القرارات السياسية, بل أيضأ على القرارات غير السياسية, ولاسيما تلك التي تدعو إلى  الاصلاح أوالتغيير الثقافي و/أو الاجتماعي و/أوالاقتصادي, أو تلك التي تطالب بزيادة الحصص المالية للدول الآعضاء في الموازنة.

ولآن تنفيذ قرارات مجلس جامعة الدول العربية, سواء السياسية وكذلك غير السياسية, يعتمد, كما تؤكد معطيات التجربة, أساسأ على نوعية العلاقات العربية البينية السائدة, ومن ثم على مدى رغبة الدول العربية في تطبيقها, لا مغالاة في القول أن الدول العربية تنظرإلى هذه القرارات وكأنها مجرد توصيات يطالب بها ممثلو حكوماتها لتنفيذ مشاريع سبق أن تم الآتفاق عليها وبتفويض حكومي مسبق. إن ما تقدم لا يعني سوى أن قرارات المجلس ليس لها, من الناحية العملية, إلا القيمة المعنوية فقط. ويجد هذا السلوك تبريرة بنص المادة السابعة من ميثاق الجامعة, الذي يثبت الآتي:” ما يقررة المجلس بالاجماع يكون ملزما لجميع الدول المشتركة في الجامعة, وما يقرره المجلس بالاكثرية يكون ملزما لمن يقبله. وفي الحالتين تنفذ قرارات المجلس في كل دولة وفقا لنظامها الآساس.”

وللتاثير الحاسم لمخرجات العلاقات العربيىة-العربية على أداء جامعة الدول العربية لم يكن فشلها, في العموم,على الصعد التي تأسست من أجلها, بمعزل عن هذا التاثير. وإدراكا لمخرجات هذا الفشل على مسيرة العمل العربي المشترك, تمت المطالبة بإحداث التغيير في ميثاق  الجامعة وهياكلها. بيد أن التغيير, وأن كان مهمأ, إلا أنه لوحدة لايكفي .فإستمرار إرادة جل الحكومات العربية ربط العمل العربي المشترك بنوعية علاقاتها السياسية, فضلا عن تمسكها المطلق بسيادتها, وعدم التنازل لصالح منظمة تعمل من اجل تحقيق مصالح قومية ووطنية, وهما لايتجزأن , يحول دون الغاء الفجوة بين جامعة الدول العربية وتطلعات الجماهير العربية في التكامل العربي.

* استاد العلوم السياسية ودراسات المستقبلات-لندن

العدد 115 / نيسان 2021