تحرش

ضجت وسائل التواصل الاجتماعي بتداول مقطع فيديو التقطته واحدة من كاميرات المراقبة المثبتة في بناية من بنايات حي المعادي في القاهرة، حيث سجلت تلك الكاميرا استدراج رجل بالغ لطفلة صغيرة و تحرشه بها و شروعه بما يوحي ببدء اغتصابها، الا انه ارتد عن فعله عندما فتحت سيدة باب الشقة القريبة فهربت الطفلة راكضة.

ظهر بعد ذلك المقطع فيديو آخر سجلته كاميرا اخرى مثبتة خارج تلك البناية و عبر الشارع منها، نرى فيه الشخص المتحرش يسير باتجاه البناية المذكورة تتبعه الطفلة و تسير خلفه بمسافة قليلة. قيل في الاخبار التي اذيعت حول الموضوع ان ذلك الشخص كان قد وعد الطفلة باعطائها جنيها كاملا و هكذا خدعها و استدرجها لتتبعه حيث ذهب. آلمتني رؤيتها و هي تتبعه ببراءة غير مدركة ماذا سيحصل لها مقابل ذلك الجنيه، و لا ندري ان كانت جائعة و جعلها ذلك الجنيه الموعود تحلم بشراء (ساندويشة) او قطعة حلوى. ذكرني مشهدها بمقولة نسبت الى نجيب محفوظ عندما رأى طفلا يجلس على الرصيف يبيع الحلوى فقال: ( هذا الطفل يبيع حلمه ). و ما اكثر الاطفال الذين يبيعون احلامهم في بلادنا! المفارقة انها وُصفت بالمحظوظة اذ ادركتها المرأة في الشقة القريبة فنجت من براثن ذلك المنحرف، نعم حالفها الحظ في تلك اللحظة فقط و لكن اين حسن الحظ من طفلة تجوب الشوارع لتبيع المناديل في هذا العمر المبكر!

قد لا تكون تلك المرة الاولى التي يقوم فيها ذلك المسخ بالتحرش الجنسي بطفل او محاولة اغتصابه، و المؤكد ان تلك الحادثة ليست الوحيدة او النادرة الوقوع ليس في مجتمعاتنا فحسب بل في مختلف بلاد العالم، اذ تصل لأسماعنا و بشكل متكرر اخبار العنف و الاساءة و الاضطهاد الموجهة نحو الاطفال، ما بين اختطاف و تحرش و اغتصاب، او ما يتعرض له بعض الاطفال من عقوبات جسدية شديدة، في البيت او في المدرسة،  تودي ببعضهم احيانا الى الموت او الى احداث تشوهات و اعاقات يعيشون معها لما تبقى لهم من العمر.

لا اقول ان بغداد سابقا كانت تخلو من المتسولين و اطفال الشوارع، و لكن في زيارتي الاخيرة لها و بعد غياب قارب ربع قرن من الزمان، صدمت بكثرة الاطفال الذين يجوبون الشوارع على مدار اليوم؛ لا فرق بين الصباح الباكر او ساعات الليل المتأخرة،  صغار بأعمار مختلفة، بعضهم صغار جدا،  يتسولون او يتوسلون المارة لشراء بعض ما لديهم من المحارم الورقية او العلكة او غيرها من البضائع البسيطة و الرخيصة و لا استبعد ابدا ان يكون الاطفال انفسهم بضائعا رخيصة في اعين المسوخ من البشر، حقيقة لا استطيع ان اتخيل حجم ما يتعرضون اليه و ما يواجهونه في الشوارع من تعنيف و اساءة و خداع و تحرش و اغتصاب، صبيانا كانوا ام بنات.

ان يجد الطفل نفسه في الشارع مجبرا على العمل و هو لم يبلغ بعد السن الذي يؤهله لذلك فتلك جريمة ترتكبها بحقه مؤسسات الدولة التي يفترض بها ان تعنى بالاطفال و تحمي و تراعي حقوقهم. الطفل مواطن ضعيف، يضعفه عدم اكتمال نضجه الجسدي و العقلي، و على الحكومة مسؤولية رعايته و ضمان توفير وسط آمن ينمو و يكبر فيه. الحكومات في الدول التي تحترم الانسان و حقوقه، تحمي الطفل حتى من والديه ان ثبت بالدليل انهم غير مؤهلين لرعايته و تنشئته تنشئة صحية سليمة، و ان حياة ذلك الطفل و كرامته و انسانيته غير مصانة في دار اهله.

لا غرابة في تعرض الاطفال الصغار الى التحرش، اذ تتعرض المرأة في مجتمعاتنا الى التحرش و المضايقة بأشكال و درجات مختلفة، ابتداء من التحرش اللفظي او المضايقة بملاحقتها و تركيز النظر عليها مما يسبب لها عدم الارتياح، وصولا الى التطاول عليها باللمس او بايحاءات و حركات غير لائقة و القائمة تطول. و مع التطور التكنولوجي الذي اجتاح العالم ظهر التحرش الالكتروني فصارت المرأة تتعرض للتحرش حتى و هي آمنة في مسكنها.

تلام المرأة على تعرضها للتحرش، نسمع دوما من يقول ان ملابسها مثلا هي السبب حيث تثير ثيابها غرائز الرجل و شهواته، و كأن الرجل مخلوق بلا عقل تسوقه العاطفة و تتحكم بسلوكه الغريزة. الواقع يقول ان طبقات الحجاب المتعددة لم تصن المرأة من التعرض الى سفالة المتحرشين، حتى المنقبة التي لا يظهر منها الا عينيها، و احيانا حتى العينين تختفيان خلف نظارة طبية او شمسية، لم تسلم من المتحرشين. ايقاع اللوم على الضحية لا يُقدّم حلا للمشكلة، الحل يكمن في التصدي للمذنب عن طريق اصدار قوانين صارمة تقتص من المتحرشين مهما كان نوع السلوك الذي يصدر منهم بهدف مضايقة المرأة و الإساءة لها. ربما هناك من يقول ان مثل تلك القوانين موجودة فعلا، و لكن المرأة عموما لا تجرؤ على الحديث عما تتعرض له او الشكوى الى الجهات المختصة طالما كانت هي المذنبة في نظر المجتمع.

اذكر حكاية تداولتها مواقع التواصل الاجتماعي قبل فترة، فحواها ان شابا كان يجلس بجوار زوجته غير المحجبة في القطار و كان امامهما رجل مسن ظل يحدق و يطيل النظر في وجه المرأة و تفاصيل جسدها، لم تردعه مشاعر الضيق و الاحراج التي بدت واضحة عليها، و عندما انتبه الزوج الى سلوكه المنحط ذاك و نهره اجابه ذلك ( الحكيم ) انك تعرضها امامي فلماذا لا امتع عيني بالنظر اليها! تنتهي الحكاية هنا للاسف الشديد، فقد كان الهدف منها بيان فائدة الحجاب . كان يفترض ان توضع خاتمة اخرى لتلك الحكاية كي تنظف على الاقل ما ورد فيها من قذارة فكر ذلك العجوز و رد الاعتبار للمرأة، كان يفترض ان ينصحه الزوج بأن يحترم نفسه و سنه و ان لا يعطي لنفسه الحق في مضايقة النساء و التحرش بهن بحجة النصيحة، فتصرفه ذاك بالتأكيد يخلو من الحكمة و حسن الخلق، بل هو سلوك لا يصدر الا عن سافل وضيع.

شاهدت مسلسلا خليجيا كان من ضمن احداثه اغتصاب شاب لفتاة كان يحبها لكنها لم تكن تبادله مشاعر الحب، استدرجها بخدعة لا تصدر الا عن وضيع و فعل فعلته كي يضمن زواجه منها لانه يعلم انها لن تجرؤ على الحديث عما حل بها، و لن تجرؤ على الزواج من آخر بعد ان اصبحت بضاعة معطوبة ! و هذا لا يبعد كثيرا عن الواقع، فمن يغتصب امرأة في مجتمعاتنا يُشكر بعد ذلك على كرمه إذا اتخذها زوجة له.

مر عيد المرأة العالمي قبل ايام، و كالعادة فاضت مواقع التواصل الاجتماعي بالتهاني التي بدت باهتة رغم بهرجتها لانها ببساطة لا تحاكي الواقع في مجتمعاتنا في شيء. لا تزال المرأة في العالم المتحضر تسعى الى الوصول الى المكانة التي تستحقها، ان تقف على منصة واحدة بجوار الرجل و ليس خلفه، رغم كل الخطوات الكبيرة التي خطتها نحو تحقيق ذلك. اما المرأة في وطني؛ قطعة الحلوى الواجب تغليفها كي لا يحط الذباب عليها، فلا يزال الطريق

امامها شائكا و عرا طويلا.

العدد 115 / نيسان 2021