المسيحيون يتَسمّون بالأسماء “الإسلامية” العربية

المونسنيور الدكتور شفيق ابوزيد-(جامعة أكسفورد)

مقدمة:

شهد الجاحظ ان النصارى في أيامه “تسمّوا بالحسن، والحسين، والعباس، والفضل، وعلي، واكتنوا بذلك أجمع ولم يبقَ إلا ان يتسمّوا بمحمد ويكتنوا بأبي القاسم” أي كنية الرسول، (رسالة الرد على النصارى، ص 17).

الأسماء المسيحية-الإسلامية في العصور العباسية والفاطمية

كانت الأسماء مشاعة مشتركة في الخلافة العباسية، وظلَّ النصارى دهرًا طويلًا يتخذون الأسماء الإسلامية البحتة حتى بين بطانة الخلفاء دون أن يقع عليهم أقل انكار، مثل الحسين بن عمرو كاتب المُقتفي، وعلي بن الراهبة طبيبه، وعلي بن عيسى الدنداني كاتب الوزير الخاقاني، وعلي ابن إبراهيم بن بختيشوع المُتَطبّب، وعلي بن علي الكاتب المذكور في الآثار الباقية للبيروتي، وعلي بن سوار بن الخمار الكاتب اليعقوبي الذي بنى قبة القيامة بعد ان أخرب الفاطميون الكنيسة وأحرقوا أبوابها سنة 965، والحسن بن سوار بن الخمار من أفاضل المنطقيين، وعثمان بن سعيد النسطوري صاحب بيت المال، وابي الحسن سهلان بن عثمان بن كيسان الطبيب المصري الملكي. ومن النساء زينب بنت إسحق الراسعيني التي عُرِفَت بأبيات نظمتها في مديح علي بن أبي طالب والهاشميين. وهؤلاء كلهم من النصارى الذين لا يتوجه على نسبهم اقل ارتياب.  وقد تسمّى النصارى أيضًا باسم أحمد ومحمود. ومن الأول ماجد بن أحمد فخر الدين القبطي المعروف بابن زنبور صاحب الجيوش المنصورة المتوفي سنة 1386، وقال المؤرخ ذيل ابن قاضي شهبة (1599): “والعجب من قبطي يُسَمّى بأحمد، وهذا ابن زنبور يذكر ان اسم والده أحمد، وكذلك كان يُقال ان اسم والد ابي شاكر أحمد.”

أسماء أساقفة السريان اليعاقبة في الجزيرة العربية

وأشدّ غرابة في نظرنا اليوم، ورود اسم عثمان بين أساقفة السريان اليعاقبة؛ وممَن عُرف به عثمان اسقف التغلبيين النصارى في الجزيرة العربية خلال القرن الثامن الميلادي. ووردت أسماء أخرى، كاسم سعيد برصابوني (يوحنان) اسقف ملطية، في الكتاب الذي نشره العالم الفرنسي شابو J B Chabot عن أساقفة السريان اليعاقبة.

وَلَع الاقباط في مصر بالأسماء والتقاليد الاسلامية

للأقباط منذ الفتح ولع شديد بتقليد المسلمين في كل شيء، ولا سيّما في الأسماء والأزياء، كما يُستَدل من شهادة أحد متقدميهم وهو صموئيل رئيس دير القلمون، (وُلِد قبل الهجرة وأدرك أوائل فتح مصر)، قال باللغة العامية المصرية، حسب ما ورد في مخطوطة باريس رقم 150، مشيرًا الى تلك الأيام في إحدى عظاته: “وماذا أقول في تلك الأزمنة وعظم الكسل الذي يلحق بالنصارى، فإنهم في ذلك الزمان يميلوا كثرًا عن الاستقامة ويتشبهوا بالهَجَرَة (الهاجريين) في أعمالهم، ويسمّوا أولادهم بأسمائهم، ويتركوا أسماء الملائكة والانبياء والرسل والشهداء… تجد النصارى يتركوا لغتهم الحلوة ويفتخروا بلغة العربية وباساميهم. أقول لكم يا أولادي بالحقيقة ان الذين يتركون أسماء القديسين، ويسمّون أولادهم بالأسماء العربية الذي يفعل هذه يكون بعيد من بركة القديسين.” مما قلّد فيه الاقباط المسلمين الاختتان احيانًا، وكتابة البسملة القرآنية في مفتتح كتبهم الدينية.

المُستَعربون الاسبان يضيفون الأسماء العربية الى جانب الأسماء الاسبانية

لم ينفرد الاقباط وحدهم بمحبة الأسماء الإسلامية العربية، بل كان لأهل الاندلس من المسيحيين المعروفين بالمُستَعربين (Mozarabs) رغبة أشد في الاشتهار بها أيضًا، واتخذ البعض منهم اسمَين لاتيني وعربي. نشر أحد علما الاسبان، Palencia، تاريخًا لهم في أربعة مجلدات تتضمن بعض هذه الأسماء المزدوجة، مثل:

ابن العزيز الحمامي = Clemens filius Youhannus

خالد بن سليمان = Domingo ben Suleiman

 صالح بن عمر = Juan ben Omar

ومن الغريب ان الأساقفة أنفسهم كانوا على مثل هذا الزيّ، واشتهر منهم اسقف قرطبة ريثمُندو Recemundo باسم ربيع بن زيد. وحكى المقَري في كتابه “نفح الطيب” بتاريخ سنة 962 ان “المُستنصر بالله (الخليفة الاموي) تقدم باستدعاء اردون (ابن الفُنْس) وقد حفّته جماعة من نصارى وجوه الذمة يؤنسونه ويبصّرونه فيهم وليد بن خيرون قاضي النصارى بقرطبة وعُبيد الله بن قاسم مطران طُلَيطلة” وغيرهما. وكان في زمان الحاكم المستنصر بالله، اسقف على قرطبة يسمَّى الاصبغ بن عبدالله بن نبيل. واشتهر أيضًا سعيد المطران وهو جوان الاشبيلي (Juan Hispalence)، ألّف تفسيرًا بالعربية على التوراة وترجم الانجيل الى العربية.

 الأسماء المسيحية-الإسلامية في العصر الحديث في سورية ولبنان

كان اسم أحمد ومحمود شائعًا خصوصًا بين أهل المدر والبدو من المسيحيين، ولا تزال هذه العادة باقية عند أهل حوران في سورية. ومن الحوارنة الملكيين الذين هاجروا الى لبنان وتمذهبوا بمذهب الموارنة بيت الخازن، ومنهم الشيخ محمود رشيد الخازن المتوفي سنة 1934.

روت جريدة المُقطّم بمصر بتاريخ 11 كانون الثاني سنة 1930 أنه: “قدم بيروت أحد أعيان الحوارنة السيد حسن فلّوح، عضو مجلس إدارة إزرِع، وهو من الروم الملكيين، فقيل له: “هل أنت مسيحي ام مسلم؟ فقال: أنا مسيحي، وأظنكم تستغربون ذلك واسمي حسن. فإننا ألفنا منذ القديم هذه الأسماء التي نحبها كثيرًا، وقد تستغربون إذا قلت لكم ان اسمي والدي محمود.” وأشد غرابة من ذلك اسم محمود الخوري من نصارى خربة في حوران.

لا عجب ان يستغرب المسيحي العربي اسم محمد مارون عبود وفاطمة مارون عبود، لأن الاديب والكاتب اللبناني الشهير مارون عبود (1886-1962) أراد ان يجمع بين الرسول محمد وابنته فاطمة والقديس مارون، المؤسس الروحي للطائفة المارونية، فسمّى ابنه محمد وابنته فاطمة. أضف الى ذلك ان والد الاديب مارون عبود هو الخوري الماروني يوحنا عبود من قرية عين كفاع المارونية في قضاء جبيل.

المسيحيون يتكنّون بالكنى الاسلامية

كان في الكنى الإسلامية المحضة مثل الشيوع والاشتراك الذي كان بين المسلمين والنصارى في الأسماء. وممن اشتهر بها من المسيحيين ابوعلي الحسن بن علي بن أثردي النسطوري، وابوعلي بن المسيحي رئيس الطب في بغداد، وأبو علي الحسن بن إبراهيم الشيرازي خازن معز الدولة، وأبو علي بن جبير الكاتب، وأبو الحسن المختار بن الحسن بن بطلان الطبيب المشهور، وأبو الحسن علي بن إبراهيم بن بكوس الطبيب، وأبو الحسن سعيد بن سنجلا كاتب الخليفة الراضي بالله، وابوالحسين سعيد بن البرتي الكاتب، وأبو الحسين بن إبراهيم التستري الكاتب، وأبو عثمان سعيد بن يعقوب الدمشقي الطبيب، وأبو الفضل بن داود الكاتب.

     ومن بين الدلائل على هوس النصارى بالتقليد ان رجال الدين انفسهم كانوا لا يرون بأسًا في إيثار هذه الكنى الإسلامية كالارشيد ياكن ابي الحسن هبة الله بن أثردي النسطوري، والشماس ابي الفتح بن زطيا النسطوري، والشماس ابي شاكر بن الراهب ابي الكرم بطرس بن المهذّب القبطي، والارشيد ياكن ابي الخير بن هبة الله المؤمل الحظيري النسطوري، والقس شمس الرئاسة ابي البركات بن كبر القبطي، والقس ابي الفرج عبدالله بن الطيّب النسطوري، والشماس ابي الفتح عبدالله بن الفضل بن المطران الملكي، والمفريان ابي الفرج ابن العبري السرياني اليعقوبي المؤرخ المعروف، والمطران ابي الحسن اسقف بالس اليعقوبي، والمطران ابي غالب اغناطيوس اسقف ميافارقين اليعقوبي، والبطريرك ابي الحليم إيليا بن الحديثي النسطوري صاحب الخطب المسجَّعة، “والحبر الفاضل البار مار أبو علي سهل مولى قيس” كما ورد في كتاب له على البردي من “الخاطئة مريم رئيسة دير هندو” في دير الآباء الدومنكيين بالقاهرة.

     ومن أمثال الكنى التي كانت طِلْقًا لأهل الكتاب وغيرهم: أبو العلاء، وأبو نصر، وأبو عمرو، وأبو مَخْلد، وأبو الفرج، وأبو الكرم، وأبو الحكيم، وأبو النجم، وأبو الوحش، وأبو الخير، وأبو البركات، وأبو الفضائل، وأبو المكارم، وأبو العنائم، وأبو اليُمن، وأبو السرور، وهلمّ جرّا. ويعلّق أحد المؤرخين على هذا الواقع الاجتماعي، قائلًا: “أذا لم يكن ثَمّ إشارة الى نحلة أصحابها، تعذّر على المؤرخ معرفة نسبتهم وإحلالهم محلهم من قومهم، واذا اجتمع ايضًا الى هذه الكنى الإسلامية الأسماء كالتي تقدم التمثل بها فهناك العقدة التي لا تحل، والمجهلة التي يحار فيها الرائد ويضل. ولذلك تضيق الحيل بكل من عالج تدوين أخبار النصارى في الإسلام، وأراد التنويه بأعيانهم ورجالاتهم لاشتباه الاعلام عليه واستغلاق التمييز بينها، واضطراره الى تنحية كل من لا يكون على ثقة من نصرانيته، فربما فاته الإحصاء اضعاف ما ثبت لديه من صريح الأسماء.”

خاتمة: الشروط العمرية

 ذكر المؤرخون منذ القرن الخامس للهجرة الشروط التي زعموا انها وُضعت على النصارى في أيام الخليفة عمر بن الخطاب، ودُعِيَت لذلك بالشروط العمرية. يقول المؤرخ حبيب الزيّات: “مَن نظر في هذه الشروط التي تناقلها الكتّاب والأَخباريون دون تثبت ولا انتقاد، ولم يتفقوا فيها على نص واحد، وعارض ما جاء فيها من الإشارات الى بعض العادات واحوال المعيشة في أوائل الفتح الإسلامي حين كان العرب احدث عهدًا بالبداوة واحرص على التوثق من احتلال البلاد وقلة الاسآءة الى أهلها، يتضح له بأجلي بيان انها محدثة موضوعة بعد الصدر الأول، ولا يمكن ان تعزى الى ثاني الخلفاء الراشدين بل يترجّح كثيرًا ان يكون جانب منها نُسِب لأول مرة الى الخليفة عمر بن عبد العزيز الاموي، لأنه فيما يظهر اول من تشدّد على النصارى ومنع ان يُستعان بهم في الكتابة والتدبير وجباية الأموال، واشترط عليهم هيئات خاصة في المثنى والركوب واللبس؛ فعُرفت هذه الأوامر بالعمرية استنادًا اليه. ثم جاء المتوكل على الله، الخليفة العباسي، فاسرف في إعنات النصارى، وابتدع أشياء لم تكن من قبله، وسار في أثره الخلفاء والملوك والسلاطين والأمراء، ولا سيما في الدولة المصرية، وبلغوا الغاية في التعسف والتضييق. فأراد الفقهاء والرواة ان يجعلوا لمجموع هذه المظالم أصلًا راسخًا في الشرع، ويصححوا نسبتها الى السنّة فاستعاروا لها سلطة الامام عمر بن الخطاب، وأوهموا انه هو اول من سنّها ووضع قواعدها.”

العدد 115 / نيسان 2021