ملكات الجزيرة وسورية قبل الاسلام

المونسنيور الدكتور شفيق ابوزيد

مقدمة

أظهرت المرأة العربية قبل الإسلام كفاءة ومقدرة في السلطة والحكم، إذ نجد أولئك النساء يسهرن على الممالك وينظمنها أحسن تنظيم، ويلعبن بعرش روما فيرفعن امبراطورًا ويسقطن آخر، ويقمن بأعمال يفقن بها رجال عصرهن. ولا نذكر من النساء ملكة سبأ التي ملأ ذكرها الشرق والغرب معًا لَما في تاريخها من الغموض والإبهام، وقد تكون الملكة الوحيدة التي قامت في جنوب الجزيرة العربية.

شمال الجزيرة العربية: شَمْسِي وتِخُونُو

اما في شمال الجزيرة العربية فإننا نجد الملكة شَمْسِي تقف بوجه تغلت-فلاسر الثالث الأشوري، وتساعد ملك دمشق على عدوه الآشوري، غير ان هذا الأخير يشن عليها حربًا شعواء يضطرها الجوع فيها والعطش الى الخضوع. إلا أن تغلت-فلاسر لم يعزلها من الحكم، بل اكتفى بفرض جزية قوية، ووضع رقيب آشوري في بلاطها ليرسل له التعليمات الوافية عن سلوكها وعن قبائلها الى دولته. ان بقاء شَمْسِي بالحكم رغم فشلها السياسي واندحار جيشها وخضوعها للعدو، يظهر المكانة الرفيعة التي كانت تتبوأها الملكات العربيات عامة ومكانة شمسي خاصة ومقدرتها في تسيير الأمور الداخلية وإدارة شؤون مملكتها.

ثم نجد الملكة تِخُونُو، تحارب سنحاريب الاشوري وتندحر امامه أيضًا، فينقلها هي وآلهتها العربية الى نينوى في شمال بلاد ما بين النهرين كي يبعدها عن شعبها وكرسي حكمها.

 سوريا: الامبراطورة جوليا دومنا

لعبت النساء السوريّات دورًا عظيمًا في الإمبراطورية الرومانية، فنذكر زواج سبتيموس سڤيروس (Septimius Severus)  من مرتا ابنة باسيانوس (Bassianus) الأمير الكاهن في حمص التي أصبحت فيما بعد الامبراطورة جوليا دومنا (Julia Domna)، والتي لعبت الدور الأول في عهد ابنها كركلا (Caracalla)، وكان تأثيرها عليه دائمًا لخير الدولة، وهي التي حالت دون تقسيم الإمبراطورية بين كركلا وأخيه. وقد داومت على “إدارة الشؤون المهمة في الدولة بفطنة وتبصر كانا يخففان من كثرة اسراف كركلا.” وقد عرفت تلك الامبراطورة مجدًا عظيمًا وحملت القابًا لم تحملها امرأة قبلها. ولما اغتصب المُلك مَكرِينُوس (Macrinus) أعادها الى مصاف العباد، ثم أبعدها عن روما فماتت بعد شهور قلائل، اما لإضرابها عن الطعام او لجوع فُرض عليها.

جوليا ميزا وجوليا مامّا السوريتان

غير أن مَكرِينُوس لم يرتح بموتها، بل قامت جوليا ميزا (Julia Mesa) اختها تدرس له المكائد، ولم تألُ جهدًا حتى أسقطته عن العرش ووضعت مكانه ابن ابنتها البكر التي ادّعت انه ابن كركلا غير الشرعي. ولكنه كان مختلًّا، فادّعى انه هو نفسه الإله الذي كان كاهنًا له، لذا دعا نفسه ايلوغابال (Elogabalus)، وقد كرّس نفسه لنشر ديانته وانغمس بلذاته الشخصية التي انتهت الى اشنع التهتك.

وكانت امه وجدّته تحكمان من وراء الستار، وقد لاحظت تلك الأخيرة ان اسراف ايلوغابال (Elogabalus) سيجر حتمًا الى سقوطه، فعملت على لإبداله بابن ابنتها الثانية، وهكذا كان. ولم يطل الأمر حتى توفيت جوليا ميزا، فتولّت ابنتها الثانية جوليا مامّا (Julia Mammæa) الحكم كوصية على ابنها إسكندر لأنه كان قاصرًا. وعندما تحرر هذا الامبراطور الصغير من سلطة امه، أصبح حجة لبعض الطامعين بالحكم.

اعتادت جوليا مامّا أن ترافق ابنها حتى في الحملات الحربية، وقد نصحته في حملة المانيا سنة 234 ميلادية بأن يفاوض العدو ويوقف القتال، مما أثار جيوشه. فقاموا بثورة دبّرها مكسيموس، القائد والامبراطور فيما بعد، قتل فيها إسكندر ووالدته، وكان موتهما فاتحة عهد سادت فيه الفوضى والحروب الداخلية التي أنهكت الإمبراطورية الرومانية.

زَنُّوبْيَا ملكة تدمر السورية

إلّا أنّ أعظم هؤلاء النساء جميعًا هي زِنُّوبْيَا العظيمة ملكة تدمر، وقد كانت حازمة، على جانب عظيم من الجمال والعلم والمقدرة. وقد وثق بها زوجها الذي كانت تشاركه طموحه وترافقه في القنص والحرب. وكانت تؤمن بعظمة تدمر وتطمح كزوجها الى تأسيس امبراطورية شرقية مستقلة تحت سيادة تدمر. وقد تسلمت الحكم بعد زوجها وعملت لتحقيق حلمها، فوسعت حدود مملكتها شرقًا نحو بلاد ما بين النهرين، وشمالًا-غربًا نحو شرق آسيا الصغرى. وضربت النقود بعد موت كلوديوس (Claudius) استعدادًا للاستقلال التام عن الإمبراطورية الرومانية. غير ان أورليان خليفة كلوديوس الذي لقّب نفسه ب”منقذ الشرق” قد أحبط مسعاها. فبعد ان دخلت الجيوش التدمرية سوريا ومصر سنة 270 ميلادية، وأصبحت ممتلكات زِنُّوبْيَا تمتد من مصر حتى بلاد ما بين النهرين، ومن الهلسيون الى شمالي الجزيرة العربية تفرغ لها أورليان، وكان قبل ذلك منهمكًا بالحروب في الغرب. فعند وصول خانها شمال-غرب سورية مُنيَت جيوشها بخسائر فادحة على العاصي قرب انطاكية، وهُزمَت شرّ هزيمة. غير أنها لم تيأس، بل جمعت مع قوادها قواتها، ولاقت جيش الامبراطور الروماني في سهل حمص حيث اندحرت ايضًا. عند ذلك تراجعت الى تدمر فحاصرها اورليان الظافر، ثم عرض عليها سلمًا بشروط خفيفة، لكنها أخطأت في رفضها إياه. فشدّد الحصار عليها، مما اضطرها الى الفرار. إلا ان أورليان لحق بها، فأدركها، ثم ساقها الى روما ليتوّج انتصاراته بعرض تلك الملكة على شعبه حيث ترى لآخر مرة زنوبيا التي حلمت بأن تصبح امبراطورة الشرق تدخل المدينة مزدانة بالحلي والجواهر البراقة مكبلة بسلاسل من ذهب. ولن نجد في المشرق فيما بعد ملكة تضاهيها شهرة.

مورا الغسّانية

غير أنه سيظهر بعد مضي قرن تقريبًا على موت زِنُّوبْيَا، ملكة غسّانية ذات بأس هي مورا (Maura) التي ثبتت قدمها بين العرب عند موت زوجها، ووقفت بوجه الإمبراطورية الرومانية بين سنة 373 و380 ميلادية، وكانت كزِنُّوبْيَا تمتطي جوادها على رأس جيشها. وقد اصطدمت عدة مرات بجيوش الإمبراطورية وخرجت منها جميعها ظافرة، حتى اضطر الرومان الى قبول السلم الذي فرضتها عليهم، ومن شروطها تثبيت مرشحها في ابرشية مملكتها المسيحية. وقد حافظت بعد ذلك على ولائها للرومان، وكان لها ولفرسانها اليد الطولى في إنقاذ القسطنطينية من زحف الغُوط (Visigoth).

العدد 116 / ايار 2021