خرق ابداعي للحجر الكوروني

جورج سلامة مشّاء رواقي يعرض لقطاته المصورة في اثينا

 اثينا- جاد الحاج

أثينا كما لم نعهدها يوماً!

مدينة  مهجورة، محجورة، مخطوفة الأنفاس، فكأن للجائحة بيارق خفية   تخفق  في سمائها التي ــ للمفارقة  ــ  تبدو اليوم زرقاء  بعد سنوات طويلة من غيوم ’النيفوس‘ الملوثة.  لكنها زرقة عطشى الى  بهجة البوزوكي، ورقصات السيرتاكي، ناهيك بتكسير الصحون  في  سهرات  مقاصف  طاولها الحجر، خانقاً فوضاها الجميلة!

 مع ذلك نتجه اليوم  نحو ’خلاص‘ موقت  صانعه   جورج سلامة.   سينمائي ومصوّر  تخرّج من معهد سان دنيس الباريسي الشهير للسينما وعمل في مجالاتها المتنوعة طوال عشرين سنة،  صوّر خلالها عدداَ من الوثائقيات الإبداعية، وشارك في اخراج وتوليف أشرطة وجدت طريقها الى مهرجانات وجوائز عالمية مميزة. يقول جورج قبيل البدء بتوقيع كتابه الفوتوغرافي “اخبرينا يا اثينا” :’ طموحي الأسمى لا يزال هو الشعر. لذلك تجدني بطريقة  او باخرى أضع  حِرَفِيَّتي   دائما في خدمة هذا الهدف الذي يتعذر بلوغه، وذلك لأنني لا أكتب بطلاقة وفصاحة في أي من اللغات الخمس التي أتكلمها: اليونانية (لغة والدتي) العربية (لغة والدي) الفرنسية (لغة دراستي)  الايطالية (لغة إقامتي في باليرمو)  والإنجليزية (لغة تحصيلي الثقافي)  لذا يتخذ عملي منذ خطواتي الأولى شكل تجربة  بالغة الخصوصية  حيث  يلعب الزمن دوراً اساسياّ في بلورة النتائج. ومن هنا تراني أنتِج معظم أعمالي على مدى فترات طويلة،  أنتظر خلالها حصول الحد الأدنى من    ترسب الافكار  وإختمارها  الى جانب المحفوظات أو الأرشيف والتسجيلات، وعمليات إعادة البناء، والإيماءات أو الإشارات والتجارب المتنقلة وإحساس الإنصات أو التنصت الحميم. وهذه الترسبات تدعو المشاهد إلى  ما أسميه   بـ ’المقارنة المبدعة‘    وما هي سوى عملية طويلة من الإبداع الجدلي الذي يصاحب عملي ويزوده بالمعلومات  خلال  مراحله المختلفة. ‘

بعد استعراض محتويات الكتاب شعرنا أننا امام رحّالة   مشّاء ذكّر بعض الحاضرين بالفيلسوف الصوري-القبرصي ـ الفينيقي زينون، أحد ابرز مؤسسي الرواقية الفلسفية في اثينا القديمة،   تتلمذ على يد سقراط وعاصر ارسطو وافلاطون وبيثاغوراس ، لكنه تفرّد في نظرية الذات الأبدية التي  تقوم على ثلاثية المنطق والمعرفة والمناقب،  وكون الطبيعة هي شعلة التجدد واستمرارية الحياة.

 قال جورج سلامة بهدوء النساك:  ’انا مشّاء . . . لقد مشيت، ومشيت ولا زلت أمشي على تراب اليونان وشواطئ المتوسط.  بالنسبة اليّ المشي هو نبع  جميع الهجرات.  والإنسان يبدأ بالوقوف على قدميه والمشي حتى قبل أن يباشر بمؤالفة الفعل والقول. فالمشي يذكرنا بما أعطانا مدنياتنا وحضاراتنا. والمشي  مهمة منفردة  لا تخلو من الحنين، لكنه ايضاّ معالجة جسمانية ونفسانية. ففي الجهد المبذول للمشي، يتفلت المرء من فكرة الهوية، ومن إغراء أن يكون محدداّ، وأن يكون له اسم وتاريخ.  لأن الجسم الماشي ليس له تاريخ،  بل هو  مجرد دوامة في مجرى  حياة متناهية القِدَم. ونسيان الذات يفترض أن يبدأ بترقية الوحدة والنسيان وتهذيبهما عمدا. ويفترض أن يقر بأن كل العمل المحقق على الذات هو نشاط إحلالِيٌّ محتمل وطاقة مهدورة. لكن، مع هذا الجهد المصان يمكن القيام بنوع من الإنجاز الرائع. فخيالات روسو وكتابات ريمبو ثم ستيفنسون وثورو وبنجامين،   وسيبالد والكثير غيرهم تشجعنا عند قراءتها على أن ننتعل أحذيتنا ونمشي. ‘

 واضاف سلامة: ’لِسعادتنا ولصحتنا، المشي شكل من تحدي السرعة والضوضاء، يزيد الفضول ويشجع التواضع ويؤدي الى  التأمل. وهو يدعونا إلى التفكير   والصمت والاستماع على نحو أفضل. وأنا أسمي هذا الشكل من الحياة ممارسة المشي أو ’المشائية بالممارسة.‘

على صعيد   المؤثرات الإبداعية اعتبر جورج سلامة ان المشي  يساهم في   ترتيب   طبقات الترسب الداخلي وتحفيذها.   غير أن ما يظهر ويعاينه المتفرج أو المشاهد ليس سوى  السطح أو الطبقة الأخيرة. والشكل النهائي هو نهاية ما هو ذاتي بصورة أولية ، ودخوله حيزالنسيان  او العنصر الجوهري في هذه العملية. ويضيف سلامة:   ’أنا نادرا ما أدشن أي مشروع بفكرة مسبقة. عليه، أستطيع الزعم أن الحاجة إلى البحث هي محور محاولاتي لابتكار حكاية جديدة. تختبر سردياتي أو حكاياتي في نهاية المطاف عملية تجميع العناصر وتركيبها،   فمشاريعي استجابات حدسية بديهية لأفكار رنانة عاطفيا. قد تبدو أشبه برسالة إلى صديق، وكلمات قيلت أو لم تُقَل، لكنها جميعها تجري منسابة في مجرى النسيان.  والنسيان أيضا  يترك ترسبات على سطوح المدن والجبال أو في أعماق البحر. ولعله مع مرور الوقت يتحول  الى ذكريات !‘

في خاتمة ذلك التقديم الفلسفي نتذكر  مقولة معروفة للمخرج الفرنسي الكبير روبير بريسون، مفادها ان كل اعمالنا الإبداعية مصيرها الزوال مهما عاندت مرور الازمنة. ولذلك فبريسون ركز على صلب الموضوع في كل لقطة من مشاهد افلامه عازلا كل ما عداها خصوصاً تلك الميول الجمالية المتفشية في الفن السينمائي المعاصر. مثله جورج سلامة يميل بوضوح نحو التأمل والسكون، لكنه ايضاً لا يغفل مؤثرات المصادفة ورغبة القطف من بساتين الغير، على غرار المخرج السويدي  الشهير إنغمار برغمن الذي قال ذات يوم: ’لست ممن يعتقدون ان الفنان ينمو من ذاته من دون دعم او وحي. بل اعتقد اننا جميعاً في قلب دوامة واحدة ولذا نستعير من بعضنا، وانا لم اخجل يوماً برأيي في هذا المجال. ارى شيئاً جيداً فاسرقه لصالح عملي، ولا تعتريني تهمة السرقة!‘

اما جورج  سلامة فيقول:   ’قبل ما يزيد على عقدين من الزمن بدأت بـ’معاشرة‘   أثينا، ليس فقط لما أردتها أن تكون  وإنما لما هي عليه وما فاتني منها‘.  كلام شمولي كبير من دون شك ، لكن ترجمته موثقة في شروح  اللقطات  . وهنا بعضها: صورة مبنيين متلاصقين في حارة شعبية من حارات اثينا، مأخوذة في الليل، وعلى احد جدرانها خيال يد تلوح، التقطها جورج  ليلة وفاة جده في آب (اغسطس) 1997 لكن حقيبة أفلامه سرقت فعاد الى الشارع نفسه وصورها من جديد، لأنه شعر بضرورة ربط فقدان جده بتلويحة الذراع على واحد من جدران اثينا. . . وفي اشكالية شخصية مماثلة ارتبطت صورة تمثال اصابعه الأربع بقيت مبتورة سنوات طويلة الى ان انضمت اليونان الى الإتحاد الأوروبي فتأمن المبلغ اللازم لإعادة الأصابع المفقودة الى اليد الممدودة وكأن صاحبها في وقفة “اوتوستوب” على ارتفاع مستحيل! امام مدخل احد المحال التجارية المغلقة تراكمت حاويات من الورق المقوى، وجاء تعليق صاحب الصورة: ماهي اسس الهوية؟ لعلها خراب وازمة هوية! وامام مشهد آخر لشادر يحجب محتويات متجر مغلق كتب جورج: الكآبة يأس بلا جدوى . . . الا ان صورة العجوز المنهارة تماماً امام احد المتاجر المغلقة لا تحتاج الى تعليق، مثلها مثل لقطات اخرى لشيوخ وعجائز تواجدوا في شوارع المدينة القديمة، لدى عبور  المشّاء الرواقي، جورج سلامة، في حاراتهم

العدد 116 / ايار 2021