الناجون من قنبلتيَ هيروشيما وناغازاكي يروون ما حصل

بعد أكثر من 60 عاماً

من بيروت: رنا خير الدين

بعد صمت دام أكثر من ستين عاماً قرر الناجون من قنبلتي هيروشيما  وناغازاكي الخروج عن صمتهم والتحدث عما جرى في تلك الفترة، ففي ظل القيود المشددة والإجراءات الحكومية الصارمة حول التكتّم على حادثة القنبلتين الذريتين وعن الظرف الذي عايشوه، اليوم وبعد ستين عاماً ينقل هؤلاء تجربتهم القاسية إلى العالم بكل ما تحمله الرسالة الإنسانية من معنى.

فقدان المعنى في الشيء يغدو كالفراغ من عدم، وفقدان الماضي في ضجيج الحاضر هو العدم بعينه، بينما ضياع الإنسانية في كلمة أو تصور فني هو العدم والفراغ في آنٍ.. أية محاولة في تغيير حقيقة ذلك هو مزيّف، وكلّ عمل يحمل قالب الإبداع ينبثق من تجربة، أليمة كانت أم سعيدة، هي وليدة حكاية تلمس العقل والقلب، والإنسان فينا، كمشروع ترجمة شهادات الضحايا الناجين من قنبلتي هيروشيما وناغازاكي الذريّتين لطلاب جامعة “بون” من اليابانية إلى الألمانية ومن الألمانية إلى العربية، أشرفت عليه أستاذة اللغة اليابانية في قسم الدراسات الشرقية والآسيوية الدكتورة ناوكو تامورا فورستر وساعدتها الدكتورة هايكه باتشكيه.

في يوم 6 آب من كل عام، تخلّد هيروشيما ذكرى ضحاياها الأكثر من 135 ألفًا الذين قتلتهم القنبلة الذرية.

هيباكوشا”… صمتٌ دام سبعة عقود!

“هيباكوشا” يطلق هذا الاسم على الناجين من القنبلتين الذريتين على مدينتي هيروشيما وناغازاكي؛ والذين تعرّضوا للتسمّم الإشعاعي والصدمات النفسية.

“تيروكو يونيو” هي إحدى هؤلاء الناجين، كانت حينذاك في الخامسة عشرة من عمرها. و قت وقوع القصف كانت تيروكو في الصف الثاني بمدرسة التمريض التابعة لمستشفى الصليب الأحمر بهيروشيما. وبعد سقوط القنبلة، اندلعت النيران في سكن الطلبة بالمستشفى، وقد حاولت تيروكو المساعدة في إخماد الحريق، غير أن العديد من زملائها الطلبة لقوا حتفهم.

وكل ما تبقى لديها من ذكريات عن الأسبوع الذي تلا القصف هو أنها كانت تعمل ليل نهار في معالجة المصابين بجروح بالغة بينما لم يكن لديها، هي وآخرون، سوى القليل من الماء دون طعام. وبعد تخرجها، واصلت تيروكو العمل في المستشفى حيث ساعدت في إجراء عمليات جراحية كان من بينها عمليات ترقيع للجلد. خلال تلك العمليات كان يتم استئصال جزء من فخذ المريض لترقيع المناطق التي أصيبت بندوب نتيجة الحروق. تزوجت بعدها من تاتسويوكي وهو ناج آخر من القنبلة الذرية. وعند حمل تيروكو بطفلهما الأول، ساورتها الشكوك حول ما إذا كان الجنين سيولد سليماً، وإن كان كان سيبقى على قيد الحياة.

أما “ميتشيجي شيمانو” فيقول: كنت لا أزال طالبًا في الصف الثانوي آنذاك، أعمل في مصنع للمطاط يعمل به كثير من الطلاب. كان ذلك في الثامنة صباحًا عندما انتهينا من طابور العمل الصباحي حيث وقع انفجار ناري مصاحبًا له وميض متوهج تنعدم الرؤية بسببه، بعدها وجدت نفسي ملقى في الطابق السفلي للمصنع. وعندما خرجت للخارج وجدت الناس مجتمعين في الميدان، ووجدت أحدهم ينادي باللجوء إلى منطقة “إبا” والاحتماء بها. وبعدما استعدت وعيي، شعرت بألم شديد حيث وجدت رأسي داميًا ومصابًا مسافة 4 سم تقريبًا، ولكني قمت بسدّه باستخدام منشفة والذهاب معهم، ولكن ما لبثت حتى هرعت إلى المنزل بعدما تذكرت أن جدي وحده بالمنزل.. وما إن وصلت حتى وجدت المنزل قد هدم تمامًا، وليس هناك أي أثر لجدي وبعد محاولاتي البائسة بالبحث عنه، عاد والدي وأختي الصغيرة.. وقد قمنا بإزاحة آثار الدمار ومناداته مرارًا وتكرارًا ولكن دون جدوى. وما أن نظرنا حولنا لا نجد سوى قلة قليلة من المارة، فالملابس مهترئة، ولا يوجد سوى جرحى بسبب الانفجار، وأناس تسير بشكل متثاقل. حينها توقفنا عن البحث عن جدي وتوجهنا إلى منطقة “إبا” للاحتماء. استمرت النيران مضرمة في مدينة هيروشيما ليلاً نهاراً دون توقف، ولكنني تمكنت من سلك طريقي. كانت الطرقات شديدة السخونة، وعواميد الإنارة محترقة كالقلم الرصاص، وانحرفت أشكال العبوات الزجاجية. وبعدما عدت إلى منزلنا المحترق، وجدت جثة أحد الجنود محترقة وملقاة على أطلال المنزل. وما أن سألت عن سكان المنزل أين ذهبوا، حتى قام أحدهم بإرشادي، وما إن ذهبت هناك حتى وجدت الجثث والعظام ملقاة على أطلال المنازل المحترقة.

ويضيف: يرتعد جسدي بمجرد التفكير في الأمر حتى الآن، فقد قمنا بتناول أطعمة أصابها الإشعاع النووي. ووفقًا للمعلومات التي وردتنا، وجدنا أن الاسترونشيوم 90 المشع لا يمكن انتزاعه من الجسد بأي حال من الأحوال. أنا أحد أولئك الذين تناولوا الأطعمة المشعّة والمحترقة وأُصيبو بالمطر الأسود. ووجودي على قيد الحياة إلى اليوم بثمابة معجزة.

 الدكتورة ناوكو تامورا فورستر

الدكتورة ناوكو تامورا فورستر كان لها حديث خاص مع “الحصاد” بيّنت صعوبات العمل على ترجمة تجربة تاريخية إنساية أليمة كما بينت أهمية خروج الناجين عن صمتهم منذ عام 1945.

  • “الحصاد”: يقوم مشروع ترجمة شهادات الناجين من القنبلة الذرية على هيروشيما وناغازاكي على التجربة الحية والأليمة لهؤلاء مع المأساة. لماذا اليوم خرجوا عن صمتهم وصرّحوا بما رأوه؟ ما الدافع وراء ذلك؟

o      “ناوكو تامورا”: ثمة عوامل عديدة محتملة لعبت دورها في صمت الضحايا. فحتّى تاريخ استعادة اليابان سيادتها على نفسها عام 1952 كانت القوّات المحتلّة تحجب أيّة معلومة تتصل بإلقاء القنبلة الذريّة. وبقيت الصور والمذكّرات اليوميّة والتقارير الشخصيّة فقط في الدائرة الضيّقة لعائلات هيروشيما وناغازاكي. في الفترة اللاحقة انتشرت ظاهرة التمييز ضدّ الناجين من القنبلتين بسبب تأثيرات الإشعاع غير المعروفة عليهم. تمّ تجنّب الزواج منهم  أو اختيارهم كموظّفين. والآن  بعد أن أصبحوا في سنّ الشيخوخة التقطوا فرصتهم الأخيرة لنقل تجربتهم إلى الأجيال الشابّة. البعض منهم عاش صراعًا طويلا ليتمكّن من التأقلم مع الصدمة النفسيّة. والبعض الآخر تريّث كثيرًا في الكشف عن الماضي لحين ولادة أبنائه وأحفاده بصحّة جيّدة. برأيي يعود السبب أيضًا في الكشف عن الإفادات على المستوى العالميّ إلى أنّ الضحايا وجدوا مستمعين لهم في العالم. لقد ناشدت الزيارة التاريخيّة الأولى لهيروشيما التي قام بها الأمين العالم للأمم المتحدة عام 2010 نشر ثقافة نزع أسلحة الدمار الشامل، ودفعت إلى ترجمة شهادات الناجين من القنبلة الذريّة إلى لغات أجنبيّة. ويندرج مشروع الترجمة الذي نقوم به في جامعة بون ضمن هذه الحركة أيضاً.

  • “الحصاد”: كمسؤولة عن هذا المشروع في جامعة بون، إلام يهدف مشروع الترجمة هذا؟ أخبرينا عنه قليلاً.

“ناوكو تامورا”: بتكليف من قاعة هيروشيما التذكاريّة القوميّة من أجل السلام لمناصرة ضحايا القنبلة الذريّة يترجم طلابنا في قسم الدراسات اليابانيّة والكوريّة منذ عام 2014 شهادات الضحايا الناجين من اليابانيّة إلى الألمانيّة. هذه الترجمات يتمّ نقلها منذ عام 2017 في قسم العلوم الإسلاميّة واللغات الشرقيّة إلى اللغة العربيّة.

مشروع هيروشيما – ناغازاكي في جامعة بون هو جزء من مشروع الشبكة العالميّة للمترجمين NET-GTAS (شبكة عولمة شهادات الضحايا الناجين من القنبلة الذريّة https://netgtas.com/home/)، هذه الشبكة تنظّم ترجمة شهادات مختارة إلى عدّة لغات وتتابع عمليّة نشر تجارب الضحايا على المستوى العالميّ. حتّى الآن لدينا تسع ترجمات يابانيّة – ألمانيّة، وخمس ألمانيّة – عربيّة.

  • “الحصاد”: سرد التفاصيل من خلال الترجمة عادة ما يكون شاق وصعب، كيفما اذا كان يسرد تفاصيل حادثة مؤلمة تاريخية عالمية، كيف تمكنتم من الغوص في التفاصيل ونقلها بدقة إلى العالم؟

“ناوكو تامورا”: ما يميّزنا أنّنا نتعامل جميعنا كمجموعة عمل مع إفادات الشهود. في بداية كلّ ترجمة نشاهد فيديو أقوال الشاهد. أحيانًا تطفر الدموع في أعين بعض المشاركين. هذه المشاعر والانطباعات بالذات يتمّ تبادلها والحديث عنها في الجلسة نفسها. وأعتقد أنّ هذا الأمر يساعد المشاركين كثيرًا. وهي خبرة قيّمة لأنّه من خلال عمليّة التبادل، ليس فقط في ما يتعلّق بهيروشيما وناغازاكي، بل وبفضل المشاركين في المشروع باللغة العربيّة، في ما يتعلّق ببغداد وحلب وبيروت يمكننا أن نشعر عن قرب بوحشيّة الكوارث في الشرق الأقصى قبل 75 عامًا. ما زلت أتذكّر ما أخبرني طالب عراقيّ أنّ إفادة أحد الناجين اليابانيّين من القنبلة الذريّة  تذكّره بقصص والدته: الجوع بعد الحرب والبحث الذي لا ينتهي عن شيء يؤكل.

لقد ولدت قصّة شخصيّة جديدة من قصّة ناج من القنبلة الذريّة. وأعتقد أنّ نحتاج إلى مثل هذه القصص لكي ننقل للعالم ما كلّفنا بنقله الناجون من القنبلة الذريّة.

 رسالة إنسانية إلى العالم

تحيي اليابان كل عام ذكرى إلقاء القنبلة الذرية على هيروشيما وناغازاكي في السادس من آب، يحضرها الناجون وأقارب الضحايا وعدد من الشخصيات الأجنبية، وتكون المناسبة دعوة إلى السلام في العالم، وتدعو اليابان خلالها إلى وقف الحروب النووية ومحاربة كلّ أشكال الاعتداء النووي الذي من الممكن أن يدّمر الحياة على الكرة الأرضية. وهذه المناسبة غالباً ما تكون لدحض كل أشكال الهجوم على الشعوب والبلدان وتدمير بنيتها التحتية، كما تبث أملاً إنسانية في النهوض بعد وقوع المأساة، لتكون هيروشيما عبرةً للعالم. كما أن اليوم معظم الناجين -الذين ما زالوا على قيد الحياة- كانوا رضعاً أو أطفالاً وقت الهجوم، وباتت مهمتهم الأولى متمثلة في إبقاء ذاكرة التفجيرات حية والدعوة لحظر الأسلحة النووية.

للكارثة وجه واحد

عربياً، تكمن أهمية هذا الذكرى الأليمة بالبعد الاجتماعي، النفسي والايديولوجي في إحياء الذاكرة وتجربة العالمية لنمطية التفكير، فضحايا القنبلة الذريّة هم أخوتنا في الإنسانيّة، وما أصابهم يمكن في أيّ وقت أن يصيبنا أو يصيب أيّ شعب على الكرة الأرضيّة. هم ضحايا المأساة  في هيروشيما وناغازاكي ورسالتهم وقف التناحر والتقاتل وما يرافقهما من بؤس وفقر ومجاعة وفساد واستغلال أرواح الأبرياء في العالم. للفرح وجوه عديدة، أمّا الكارثة فلها وجه واحد، وفيها كلنا إنسانيّاً بيروت ودمشق وبغداد وهيروشيما.

العدد 116 / ايار 2021