ومن الحب ما قتل

وَجَد الانسان نفسه ضعيفا عاجزا أمام فايروس كورونا الذي اجتاح العالم و انتشر في أرجائه كما تنتشر النار في الهشيم. لم يكن امامنا و لاشهر عديدة سوى البقاء في المنزل و عدم مغادرته الا للضرورة القصوى، و كذلك أجبرتنا تلك الظروف على تجنب الاختلاط مع الاخرين، كإجراء للسلامة و الوقاية قدر المستطاع من الاصابة بالمرض المميت !

نتج عن تلك الظروف الاستثنائية فائض غير مألوف من الوقت، اذ قبل ذلك كانت عطلة نهاية الاسبوع تمضي بشكل سريع، أسرع بكثير مما نرجو لها ان تمتد في الكثير من الأحيان. ظروف الجائحة و ما ترتب عنها من ضوابط عدم مغادرة المنزل الا للضرورة القصوى، اعادت لي الرغبة في ممارسة بعض الهوايات التي كنتُ قد ابتعدت عن مزاولتها بسبب ضيق الوقت و مشاغل الحياة المختلفة، و التي نعطي لبعضها احيانا اهمية و من ثم وقتا قد يكون اكثر مما تستحق و تتطلب. من تلك الهوايات التي عدت اليها مجددا اقتناء النباتات المنزلية و العناية بها، و كان قد مر زمن طويل على آخر نبات داخلي دخل منزلي و ظل على قيد الحياة لفترة لا بأس بها !

اعتمدت في اختياري للنباتات على درجة حاجتها للرعاية و الاهتمام. رأيت أن من الافضل البدء باقتناء نباتات لا تحتاج الى الكثير من العناية، فالوقت كان مبكرا على اقتناء النباتات المدللة التي تتطلب رعاية انامل موغلة في الخضرة.  تلك المهارة التي كنت اتمتع بها سابقا ثم  اصابها الوهن و الخمول بفعل عدم مزاولتها لسنوات طويلة.

من مجموعة النباتات التي اخترتها كانت واحدة من عائلة الصباريات، و لا اشك انها اكتسبت هذا الاسم بفعل صبرها و مدى تحملها للظروف القاسية، قلت لنفسي هذه نبتة جميلة لن تموت ان نسيتها او اهملتها لفترة بسيطة، و فعلا فقد بدت ( سعيدة ) في مكانها الجديد في داري، بوريقاتها السميكة اللامعة زاهية الخضرة و التي بدأت تتكاثر خصوصا مع حلول اشهر الصيف و ما جلبت معها من ظروف طقس مناسبة لفصيلة الصباريات. لكن مع حلول فصل الشتاء بدأت بعض وريقاتها بالتساقط بعد ان يتحول لونها الاخضر الزاهي الى اصفر باهت حزين.

عند البحث وجدت ان سبب اصفرار الاوراق هو المبالغة بسقيها، فهذه نبتة خلقت لتحتمل العطش و يبدو انها لا تستطيع التكيف مع ما يزيد عن حاجتها من الماء؛ اكسير الحياة !

وجدتُ ان الاحتياجات المتباينة للنباتات المختلفة تمثل اوجه تشابه بينها و بين الانسان، الى حد ما. تلك النبتة التي اشرت اليها كنت على وشك ان أقضي عليها بينما كنت احاول التفاني في رعايتها و منحها ما كنت اظنه ضروريا لها بالقدر الذي كنت اراه مناسبا. اكتشفت ان المبالغة غير المقصودة في رعايتي لها اوصلتها حد الاختناق!

نسمع عن ابناء و بنات يبتعدون عن والديهم، او أحدهما، هربا من حب  خانق يغدقانه عليهم، حب قد تتداخل معه غريزة التملك و الخوف من الوحدة في نهاية العمر، و كذلك الخوف من فقد الابناء و محاولة حمايتهم من الاذى فيغيب عن بالهم ان بعض الاذى ضروري لتحويل عود الابناء الغض الى عود فيه من الصلابة ما يكفي لمواجهة أعاصير الحياة. يتخلى الابناء احيانا عن ما متاح اليهم من اسباب الراحة في منزل العائلة، فقط للتخلص من قيود حب الابوين المفرط.

انتقلت ابنتي الكبرى بعد تخرجها من الجامعة الى استراليا للعمل و الاقامة هناك، و كنت قد شجعتها على اتخاذ تلك الخطوة لعلمي بمدى رغبتها في تحقيق ذلك. حينها اتهمتني احدى الصديقات بقسوة القلب قائلة انها لن تحتمل ابتعاد ابنائها عنها. سألتها ماذا عن الابناء و احلامهم و اهدافهم في هذه الحياة، قالت انها لن تعيقهم عن تحقيق ما يودون تحقيقه شريطة ان يكونوا في اماكن يسهل عليها الوصول اليهم و ليس في اقاصي الأرض. وضعت تلك السيدة برأيي نفسها و ما يسعدها هي أولا و بعد ذلك تأتي سعادة الابناء!

الموازنة بين مقدارالحب  و حدود التعبير عنه مهارة اعتقد اننا نكتسبها  بالخبرة و كذلك بتكرار الخيبات، فكم من عطاء قوبل بالرفض لانه كان فائضا عن الحاجة، يتساوى بذلك العطاء المعنوي و المادي احيانا .

اذكر مقطعا لشاعرة الحب المرهفة لميعة عباس عمارة تقول فيه:

و نريدُهُ

و نُلِحُّ نَطلُبُهُ

فيجيئُنا من صَوبِهِ عُذرُ !

و هذا ما يحصل احيانا، و قد يكون مشكلة بالنسبة للبعض؛ المُحب يريد و يلح في طلب ما يريد من الود و التواصل و المحبة المتبادلة بدون ان يلتفت لما يريده الطرف الآخر، فقد لا يكون لدى الآخر نفس المحبة الموجودة لديه، و قد لا يبادله الرغبة في القرب و التواصل.

قد يساء فهم بعض المبادرات التي لا دافع لها سوى المحبة و الاهتمام، فقد تجف او تتضاءل منابع المحبة في القلب اتجاه صديق او قريب او حتى اخ او اخت احيانا، بفعل احداث و ظروف تكون اقوى من تلك المحبة فتتغلب عليها و تهزمها، و هنا تختلف ردود أفعال الناس، و لا اتكلم استنادا عن بحث او دراسة و انما من خلال مشاهداتي في هذه الحياة و رصدي لأحداث و أشخاص عبر عمر زاد عن نصف قرن من الزمان. هناك علاقات تُبنى على المنفعة فيزداد الحب في قلب الشخص كلما ازداد انتفاعه ممن ( يحب ) و يدوم ذلك الحب طالما دامت المنفعة. من المؤسف ان نجد ذلك النوع من الحب في تزايد، فهو حب اناني لا يتجاوز حدود حب الشخص لذاته، و سواد ذلك الحب قد يعني انحسار او هزيمة الحب النقي المجرد من الرغبة بالكسب و الانتفاع.

في عالمنا اليوم لا يختبر المحبة الحقيقية برأيي الا من لم يكن لديه الكثير ليعطيه للاخرين، من الناحية المادية، فذلك شخص يبتعد عنه النفعيون و لا يطلب القرب منه الا من احبه لطيب خصاله او لما يملكه من ثراء معنوي.

رحم الله الشافعي اذ قال:

اذا المرء لا يرعاك الا تكلفا… فدعهُ و لا تُكثر عليه التأسفا

فما كلُّ من تهواهُ يهواكَ قلبُهُ… و لا كل من صافيته لك قد صفا

اذا لم يكن صفو الوداد طبيعة… فلا خير في ودٍّ يجيءُ تكلفا

سلامٌ على الدنيا اذا لم يكن بها… صديق صدوق صادق الوعد منصفا.