رمزي صنبر 1937-2021

رؤوف قبيسي:

 غالباً ما رثيت رجالا عرفتهم وخالطتهم وكانوا بمنزلة أصدقاء مقربين، لكن في حياة كل منا استثناءات غريبة وحوادث غريبة لا تخطر على بال. قد نلتقي أشخاصا مرة أو مرات معدودة، فيتركون في نفوسنا اثرا، وإذ برحيلهم يجعلنا نستعيد من حافظة الزمن ما كان بيننا وبينهم من علاقة. هذا ما شعرت به حين بلغني نبأ رحيل رمزي صنبر من صديقه رجل الأعمال الصيداوي مروان كالو. كان الراحل رمزي قد اتصل بي قبل اشهر من مقر إقامته في لندن بعد أن أخذ رقم هاتفي من الصديق مروان، يسالني عن أوضاعي، وهو في حال من مرض شديد لازمه في سنواته الأخيرة. كان في صوته بقية من نوم، وربما شيء من وجع، ورغم ذلك تمنى، مثلما تمنيت، أن نلتقي في لندن في وقت قريب، لكن الفيروس الذي لا يرحم، حال دون ذلك اللقاء إلى الابد، وابعدني عن لندن، وحال دون  لقائي حتى بأبنائي.

 لم يكن رمزي صنبر من عشرائي، بحكم فارق العمر والصنعة والمرتبة الاجتماعية، وقد تكون المرات التي التقيته فيها معدودة، ولست أشك في أن رحيله قد أحزن الكثيرين من أهله وأقربائه وأصحابه، ومن عرفه ولازمه  في أعماله التي امتدت إلى القارات الخمس. في أحد مشاريعه خارج حدود العالم العربي، كان لي في أحدها دور متواضع، إذ أوفدني إلى بلدة “باسكا غولا” الواقعة في جنوب الولايات المتحدة، لأشارك في الإشراف على الترجمة العربية لمشروع كان في طور تقديمه إلى السعودية، بالتعاون مع رجل الأعمال السعودي الشيخ فهد العذل. أمضيت في تلك البلدة شهراً بكامله قرب حوض هائل لبناء السفن، لأن المشروع كان يتعلق ببناء عدد من البواخر إلى سلاح البحرية في المملكة العربية السعودية. وقد تكون تلك الرحلة المثيرة إلى تلك البلدة الواقعة في ولاية المسيسيبي، هي ما ايقظ في نفسي ذكرى تلك الأيام، وجعلني أتحسر على رحيل رمزي صنبر. من بعد تلك الرحلة قابلت الراحل مرات معدودة، في ماربيا حيث كنت أقيم، وحيث كانت له أعمال عقارية متنوعة. كان الراحل من أوائل رجال الأعمال العرب الذي وفدوا إلى ماربيا، واستثمروا في مشاريعها الكبيرة، ومنها مشروع “أتالايا ريو فيردي” العقاري، الذي نفذه في سبعينات القرن  الماضي، وكان من المشاريع التي أيقظت ماربيا من غفوتها التاريخية على ذلك الساحل الجنوبي الإسباني الناعس، وجعلت منها إحدى أهم المناطق السياحية في إسبانيا. بعدها نفذ رمزي صنبر مشروع “برج داغ هامرشولد” بالقرب من هيئة الأمم المتحدة في نيويورك، ورمم في تركيا  قصر السلطان العثماني عبد العزيز، وحوله إلى فندق من خمس نجوم باسم “تشيران بالاس”، وهو اليوم أحد المعالم البارزة في المدينة، كما نفذ في السعودية مشروعاً كبيراً في حقل الاتصالات، مع الأمير السعودي محمد بن فهد بن العزيز. هذا ما كنت أعرفه عن مشاريع الراحل، لكن الذي كنت أجهله من أعماله وهي كثيرة، عرفته قبل ايام من ابنه كريم، وقد يحتاج إلقاء الضوء عليها إلى كتيّب أو كتاب.

كان رمزي صنبر نجما في كوكبة من رجال الأعمال الفلسطينيين الكبار، الذين شاءت الاقدار أن يخسروا وطنهم، ويعوضوا عن هذه الخسارة بالمساهمة في بناء أوطان الآخرين، وكان من البّنائين الذين امرعوا التراب وحولوا الحجارة أبراجاً وجسوراً ومنازل. عبر مجموعته التي أسسها في العام 1968، بدأ رمزي صنبر نشاطه في الدول العربية في حقل الاستشارات الهندسية والتصنيع والطاقة والتطوير العقاري، ليتوسع هذا النشاط بعدها إلى أوروبا، وافريقيا، والولايات المتحدة، ودول شرق جنوب آسيا، والصين.

كان رمزي صنبر دائم الابتسامة مشرق الوجه دوماً، خصال حببت إليه الناس، وساعدته على أن يقيم صداقات وعلاقات عربية ودولية واسعة في الشرق والغرب. مزاياه الشخصية تلك، وخبرته الفريدة في حقل الهندسة، مهدت له الطرق لتنفيذ مشاريع مختلفة في دول عربية وأجنبية. أحلامه كانت كبيرة بحجم الأعمال الكبيرة التي نفذها، لكن النجاح في العمل لم يصرفه عن الكتب والقراءة والفنون فظل يحبها ويحب الحياة والموسيقى التي شغف بها وهو بعد طالباً في المدرسة الإعدادية. ولد رمزي صنبر في حيفا عام 1937، وجاءت عائلته إلى لبنان على أثر قيام دولة إسرائيل. في بيروت درس الهندسة المدنية في جامعتها الأميركية، ثم سافر إلى باريس ونال قسطاً من العلوم المتصلة بمسائل البيئة، ليرتحل بعدها إلى الولايات المتحدة لدراسة القانون. لم ينسه الترحال مسقط رأسه، وبقيت فلسطين في خيالاته إلى اليوم الأخير، كما بقيت اللهجة الفلسطينية واضحة على لسانه.

كان الكاتب المصري القدير عباس محمود العقاد يقول “لا أخاف من الموت أخاف من المرض”، وفي تقاليدنا الشرقية نقول في ساعات المآتم “كلنا على هذه الطريق”. نقولها كضرب من التعزية والعزاء. كما نقول عن الذي رحل بعد عذاب المرض إنه ارتاح. لكن هل يكون الموت الذي خطف رمزي صنبر بعد معاناة المرض يحملنا على القول إنه ارتاح؟ أعرف يقينا أن الراحل، مثله مثل اي فلسطيني ولد في فلسطين، وحملته البواخر في رحلة خروج ليس من بعدها عودة، لم يذق طعم الراحة في حياته، على رغم الفرح الذي كان يوزعه على الآخرين، والابتسامة الدائمة التي ارتسمت على وجهه البشوش. مثل لوحة سوريالية من عبث الأقدار كانت حياة رمزي صنبر وأمثاله من الذين ولدوا في فلسطين، ملحمة من تجارب مرة، وأشدها مرارة في حياة الراحل، صورة طفل يخرج مع عائلته من ميناء حيفا عام 1948 إلى عالم مجهول.عن تلك المآسي كتب رمزي صنبرقبل نحو عشرين عاما يقول إن كل صورة عن فلسطين كانت تعيد أليه الصورة الأولى ” أرى الصورة تكبر، والفظاعات تكبر، والأهوال تكبر، والأخطار تكبر، وأمامي صورة موازية لازمتني مدى الحياة، عن شعب يقاتل ويصمد، ويستطيب الموت والعذاب، في سبيل أرض انتزعت منه قطعة قطعة، واحتلالا بعد احتلال، فيما العالم يراقب أو يحزن عبر البيانات المكتوبة!  كيفما تلّفت أرى الصورة أمامي، تلاحقني وأنا خارج من بيتي ومدينتي إلى غير عودة. وأسأل نفسي دائما: لمن يثأر هؤلاء الأطفال؟  لنا نحن الذين تركنا على اساس أنها “كم يوم ونعود”؟ أيثأرون لأبنائنا؟ للعرب؟ أم للمقهورين في العالم؟… هؤلاء الصغار،  يمرون فوق الموت وتحت الموت، لكي يبنوا لنا وطنا يستحق الحياة أكثر من أي بلد آخر”.

العدد 117 / حزيران2021