لنعقد طرفي السبحة بحثاً عن لبنان

دكتور نسيم الخوري

قالت لي طلاّب الدكتوراه في الحلقة الدراسية التي أقمناها حول “بقايا الربيع العربي”: “لم يبق لنا في لبنان إلاّ دعوة العام 1975”.

مفارقة غريبة أن تشطب شابات وشباب أعمارهم ومحاوراتنا العلمية لهذا العام الجامعي فتقفله على هذا النحو . لقد قفزوا بي الى تاريخ موت لبنان في غربتي وإلى الموت الآخر في العام 1980 عندما كنت طالباً وقُتل أستاذي رولان بارت بشكلٍ سخيف، إذ صدمته شاحنة ونحن خارجون معه من الكوليج دو فرانس، وكان قد غاب قبله، في العام نفسه، فيلسوف الوجودية جان بول سارتر الذي شاطرناه متواضعاً مقهى”الدو ماغو” المألوف في السان جرمان وذكريات ثورة ال1968 في فرنسا الجامعية، ثمّ لحقهما ميشال فوكو البارع في تشريح السلطات، ثمّ غاب جاك بيرك المستشرق المعروف الذي أرشدنا الى “البنيوية” كمنهج يغزو جامعات العرب، قائلاً لماذا ترجعون إلى التعقيدات الغربية والتشظيات المنهجية ، عودوا إلى إمريء قيس والجاحظ كانا قبلنا أول القائلين بالوسم والمتوسم بمعنى ال significant  وال signifie

بدت فرنسا الجامعية يومها تراكم في الزوايا حطام الخسائر والإنهيارات الفكرية والآمال، وبدا الزملاء الطلاّب والمثقفون يشمّون رائحة الموت في الأجواء وكأن مرحلةً مزهرة من تاريخ البناء والثقافة والفكر قد دفنت في فرنسا

لم يقفز بي طلابي الى ال 1975 إلاّ عند كتابة هذا النص حيث وقعت كلماتهم لتفجّ رأسي وحبري إذ تعود ولادات النصوص والتحليلات والخطب في لبنان مدموغة بحروب ال 1975 واللبنانيون في أكثر من جحيم. قد تكون التوصيات والتحذيرات التي تسديها بعض الدول إلى رعاياها من مخاطرالأوضاع في لبنان من الأسباب القويّة التي أيقظت الذاكرة اللبنانية على هذا التاريخ، ناهيك عن المخاطر المحفوفة بنا والتي يسكنها اللبنانيون حيث لم يبق لهم من متنفّسٍ في أزمنة شديدة المرارة يُباع فيها لقاح الكوفيد وكأنّه مثل لبنان أسير الوكلاء والوكالات الحصرية التي تحتكر كلّ شيء. هكذا تبدوالعواصم اللبنانية من طرابلس وصولاً الى صور مروراً ببيروت وصيدا مغلولة وأسيرة الكثير من السجون والمخاوف والهواجس والوساوس التي يعنيها العام 1975 الأمر الذي يجعلك تشاطر طلابك والآخرين الخوف من إرتفاع إيقاعات الكلام.

إنّه تاريخ محفور في ذاكرة اللبنانيين إلى زمن طويل. يحمل انهيارات وطنهم المفتوح للتفكير والتعبير الى التلذذ بالإنقسام والتنابذ، وهم درجوا على تسميته “بالساحة” في الإعلام وفي الأحاديث، مع أنّ الساحات وتسمياتها لها أعباؤها في التاريخ إذ تزول فيها المسافات بين المباح والمستباح. لعلّ لبنان من أكثر الأوطان تعرّضاً لمدائح كان يستحقها من أشقائه العرب، لا لأنّه كليم الجبل واليم، بل لخبرته الاتصالية العريقة والسريعة مع الآخر التي خرطته في ثوب الثقافة العربية والعالميّة، على تنوّع نسجه، لكنّه اليوم مقعد في مكانه فقيراً ويصدّق بأنّه مسافر الى الأمكنة جميعها. هو يهاجر. ألم تتجاوز تلك الخبرة العفوية المنقرضة في عالم الإتصال والضيافة مجموعة هائلة من المؤتمرات والدعوات والتوصيات والتمنيات والتسهيلات الكلامية التي سلكتها دوائر الجامعة العربية في تواصل العرب في ما بينهم منذ ال1948، هذا من دون التطرّق الى موقع الجامعة العربية الغائب، وخصوصاً لو بحثت عن دورها في زمن قطاف نتائج الثورات العربية

ويعني ال1975 اليوم ، إلى جانب الانهيار، أمرين: أولهما جيل جديد من الشباب الخارج قسراً من لبنان، غير قادر على تركيب عملٍ مفيد أو ولوج جامعة،وثانيهما بقاء الأهل في جحيمٍ قديم يلهث بالنفط والسلاح والتدريبات عليه وتذكّر الشهداء والعواصف الكبرى في أخبارها ونتائجها وأرباحها وذكرياتها، وبلغة لا تصدّق تعكس لذّة إعادة إنهيار الوطن مجدداً فوق أرصفة العالم.

بكلمتين: يعود الجرح ليصبح وطناً، والمواطنون بحارة يهيلون الملح في الشرايين، وينهار العقل والبحث، وما عاد الحبر يألف الإقامة إلاّ في الخرائب التي أحسن ت. س. إليوت استعارتها في كتابة أشعارها الأبدية. الشعر أبلغ من البحث؟ نعم. ولربّما هو الصوت المعبّر عن الجرح الانساني اللبناني البليغ

 ويترسّخ في الذهن ونحن على تماس يومي مع إنتظارات العرب في هجرانهم وإبتعادهم عن الساحة اللبنانية، ومع جروحهم المتنقلة من غصنٍ الى آخر، أننا نغرق في بحر من الكلام العربي الذي لا يقول شيئاً، ولا يفضي إلى حركة أو فكرة مجدية. وكأنّنا في قمّة العجز الذي يقودنا إلى صمت الصمت أو تعداد الانهيارات. كيف نقرأ الفكر السياسي في لبنان سوى العودة الى التأرجح بين شرق وغرب أوالتوفيق والخلط بينهما؟ تلك مهمة متكررة قديمة بات العالم المهتزّ فيها سوقاً للمال العربي والإسلامي، لكنّ ما يطفو على السطح يقودنا الى بعض السياسيين وتمسّكهم المعاصر المفتون بإكتشافهم الحديث للعرب والمسلمين وثرواتهم وعطاءاتهم، وهم ورثوا عن الآباء والأجداد تمسّكهم بالغرب وإعراضهم عن العرب والمسلمين إلاّ إذا شاء الغرب أن يمهّد لهم الطريق بالترجمة أو بالوسطية والتوسّط في بناء الإقتصاد، وللمفارقة الثانية في بناء الوطن ؟

يغالي المثقفون هنا بالخوف إذ يشعرون برائحة الموت في الجو، وكأنّ مرحلةً مضت أو تسقط من تاريخ التفاهم والثقافة والسياحة والثروات والثورات والإنفتاح والديمقراطية والحرية قد غابت، وراح شبابنا  وطلاّبنا في الجامعات ومتتبِّعو المحاضرات يبحثون عن تأسيسٍ لموجات جديدة تشعل النار لكن من دون جدوى.

إنّه نص أكاديمي لا أكثر، بدأناه بجردة حساب أو قصاص لذيذ لهذا التبعثر أو الأشلائيّة القديمة المفروضة بين الآباء والأبناء. إنّه يشابه الخيط – خيط السبحة، الذي جمع أحجاراً ما كنت أعرف أنّها تتلاقى وتتواصل “نفسياً” وثقافياً  إلى هذا الحدّ إلا عند كتابتها وإسقاطها (Projection) لكي تكتسب شخصيّتها – شخصيتنا إذ ترتفع في “جدار” أو مقالٍ من ورق. إنّني إذ نعقد طرفَي الخيط، فإنّما أحاول تنقية الذات عبر تواصل حُبيبات السبحة المبعثرة في ركام الانهيارات في خلال هذا الزمن الطويل.

إنّه نوع من “التفريج” (Catarcisme) الذي لا ضير إنْ جاء مصحوباً بما يشبه البكاء السرّي للنصوص. وهو يعبّر في هذه الفقرات، نلبسها ثياب الأدب، عن طرح الولادات الطويلة، واللاجدوى، والرتابة، وطغيان التبعثر وأمور أخرى أقساها الحروب. وما تساوق هذه الفقرات إلا للإفصاح عن صعوبات إنسانية ومنهجية من لون واحد، لا يعاركها ويعرف مدى تجذرها إلاّ من يكابدها في بحر سياسي ولغوي وإعلامي وتغييري وعربي بحثاً عن لبنان.

كاتب لبناني وأستاذ مشرف في المعهد العالي للدكتوراه.

العدد 117 / حزيران2021