الحياكة

تعيد كلمة الحياكة الى ذهني صورة الجدة التي كانت تصورها بعض كتب الاطفال بوجهها الباسم السمح و شعرها الابيض و نظارتها و هي تجلس في كرسيها المريح ممسكة بإبرتي حياكة تتدلى منهما قطعة من الصوف نسجتها الجدة بصبر، عقدة تلو الاخرى.

الحياكة مهارة يدوية جميلة يعتمد جمال المنتج فيها على ذائقة الحائك الفنية و مقدار ما يتمتع به من القدرة على تنسيق الالوان و اختيار انواع الخيوط و العقد المستخدمة في القطعة الواحدة، و التي قد تكون قطعة ملابس او مفرش او غير ذلك مما تستخدم فيه قطع الانسجة الصوفية او القطنية مثلا.

تحيل الحياكة خيوط الصوف او القطن او ما شابه ذلك الى قطع نسيج باستخدام ابرتين طويلتين او اكثر، و هي من الفنون او الابتكارات القديمة حيث توجد في المتحف البريطاني اقدم قطعة محاكة تم العثور عليها حتى الان يقدر عمرها بأكثر من الف و سبعمائة سنة، و هي عبارة عن الفردة اليسرى لجوارب صغيرة يبدو انها حيكت لطفل، و قد تمت حياكتها بحيث ان الجزء الامامي منها يتألف من قسمين كي يدخل ابهام القدم الايسر في احدهما ليحتوي القسم الاخر اصابع القدم الاربعة الباقية. كانت تلك القطعة من ضمن ما كشفت عنه تنقيبات الاثار في مصر، حيث يعتقد ان المصريين القدماء هم اول من توصلوا الى نسج الخيوط بتلك الطريقة و منهم انتقلت مهارة الحياكة الى اوروبا و بقية انحاء العالم. و قد كشف الباحثون ان فردة الجوارب تلك كانت قد حيكت باستخدام ابرة حياكة واحدة و ان الخيوط المستخدمة قد تم تلوينها باستخدام صبغات مستخلصة من نباتات مختلفة.

مع التقدم الصناعي تحولت الحياكة بالتدريج الى مجرد هواية تمارسها النساء على الاغلب، و رغم اننا نسمع كثيرا عن خياطي الملابس من الرجال و عن النساجين منهم الذين يقومون بنسج الاقمشة و السجاد باستخدام آلات او مكائن خاصة بذلك، الا انني و الى فترة قريبة لم اسمع عن رجل يمارس الحياكة و لم اصادف رجلا يلف الخيوط و يعقدها حول ابر الحياكة لعمل قطعة ملابس لصغاره كما تفعل الامهات او الجدات !

تسببت جائحة كورونا، و التي اخذت العالم على حين غرة، في احداث الكثير من التغيرات في الحياة اليومية للكثير من الناس في مختلف بلاد العالم. ليست جميع تلك التغيرات سلبية، فهناك دوما جانب مضيء للعتمة قد لا يعثر عليه الا من يبحث عنه. مع ضوابط البقاء في المنزل التي رافقت الجائحة وجد الكثيرون ممن كان العمل يستهلك معظم ساعات ايامهم ان لديهم الكثير من اوقات الفراغ التي لم يعتادوا عليها، فبدأ البعض باستعادة هوايات كانوا قد تركوا ممارستها بسبب ضيق الوقت، بينما جرب البعض الآخر ممارسة فعاليات جديدة تحولت سريعا الى هوايات محببة صاروا يمارسونها بمتعة و شغف. الحائكون من الرجال مثال جميل على ذلك.

بدأ الشاب الاسترالي براندن جيراك يتعلم الحياكة قبل جائحة كورونا بعدة سنوات، يقول انه كان يراقب امه منهمكة بالحياكة بينما كان هو يشعر بالملل، فطلب منها ان تعلمه تلك المهارة و لم تتردد الام بل اصطحبته معها الى المتجر الذي كانت تشتري منه عادة خيوط الصوف و غيرها من مستلزمات الحياكة.

وجد جيراك متعة كبيرة في ممارسة الحياكة، و التي تحولت الى هواية محببة لديه، خصوصا و انه و من خلالها تعرّف على اصدقاء جدد. لكنه ظل يمارس تلك الهواية في اماكن محددة لا تتعدى منزله او منزل صديقته المقربة او محل مستلزمات الحياكة الذي اخذته امه اليه في البداية، حيث يوجد فيه ركن مخصص لذلك. مع جائحة كورونا و ما نتج عنها من خلو الاماكن العامة تقريبا من الناس، بدأت صديقة جيراك تشجعه على الذهاب معها الى الحدائق العامة لممارسة هواية الحياكة المشتركة لديهما، في الهواء الطلق بعيدا عن المنزل. يقول انه كان متوترا في المرة الاولى التي بدأ فيها بالحياكة في مكان عام رغم قلة تواجد الناس فيه، و قد لا يلام على ذلك اذ لاحظ نظرات الاستغراب في عيون البعض، حتى ان احد الرجال اقترب منه و سأله ان كانت تلك طريقة جديدة لاجتذاب الفتيات و التقرب من النساء!  صار جيراك يأخذ معه قطع الحياكة التي يعمل عليها اينما ذهب؛ الى المقاهي و الحدائق العامة و حتى الى قاعة المحاضرات، يقول انها هواية تساعده على الاسترخاء و تصرف ذهنه عن ما يقلقه. هناك عشرات الالوف من المتابعين لصفحته على الانستغرام، حيث ينشر عليها ما ينتجه من القطع المحاكة، يشكل الرجال اكثر من عشرة بالمئة من اولئك المتابعين.

لم تؤثر الجائحة كثيرا على بعض الناس الذين استطاعوا الاستمرار بمزاولة اعمالهم من البيت، عبر الشبكة العنكبوتية و التواصل الالكتروني، بينما اضطر الكثيرون الى التوقف عن العمل لفترات طويلة، خصوصا اصحاب الحرف اليدوية كالحدادين و النجارين و غيرهم، و ذلك ما دفع البعض منهم الى البحث عن اعمال يدوية اخرى يمارسونها كهوايات تسد الفراغ الناتج عن توقف العمل.

يشير احد المواقع الالكترونية للحرف اليدوية الى التزايد السريع في عدد المنضمين اليه من الشباب من الرجال منذ بدء الجائحة، يمارس الثلث من اولئك الرجال اشغال الابرة بمختلف انواعها كالتطريز و الحياكة و الكروشيه او ما يعرف بالحياكة بالسنارة، من ضمنهم بعض المشاهير مثل الغطاس البريطاني توم دالي  الذي حاز مرتين على لقب بطل العالم في الغطس اضافة الى ميدالية اولمبية. صار دالي يمارس الحياكة بالسنارة بشغف و بحرفية عالية حتى انه قلد فستانا يحمل الماركة الشهيرة گوچي و الذي قال بعض اصدقائه انه يصعب التمييز بينه و بين الفستان الاصلي.

حقيقة لا اعرف ما الذي يميز الهوايات و الحرف عن بعضها فيجعل هذه مخصصة للنساء و تلك للرجال، فقد اثبتت النساء مقدرتهن على ممارسة اعمال كانت حتى عقود قريبة تقتصر على الرجال، اما بالنسبة للاعمال التي اقتصرت مزاولتها على النساء فالامر لا يتعلق بالمقدرة على القيام بها و لكن ربما كان امتناع الرجال عنها ناتجا عن نظرة دونية للمرأة، فلا يزال البعض يشبه الرجل بالمرأة من باب الاهانة و تقليل الشأن.

حرية التفكير التي تكفلها المجتمعات المتحضرة لافرادها تتيح للانسان مساحة واسعة لتأمل الموروثات كافة، اجتماعية كانت ام عقائدية او غيرهما، و مناقشتها او تغييرها و الغاء ما استُهلك منها و لم يعد يناسب الزمن المعاصر.

العدد 117 / حزيران2021