التنمر على النساء في الوسطين السياسي والفكريّ، بين النفسيّ والاجتماعيّ

نسرين الرجب

حوار مع الدكتورة فاطمة عبود: « إنّ الخوف من المرأة ومما تحقّقه كامنٌ في تعبيراتنا الثقافيّة والاجتماعيّة ومستترٌ خلف حبِّها…».

        شهدت السنوات الخمسون الأخيرة تقدمًا نسبيًا في التموضع الاجتماعي للمرأة العربية، ويظهر هذا التقدم جليًّا في إقبالها على التعلم ومشاركتها في العمل الاجتماعي والمهني والفكري والسياسي. وقد أفرز ذلك تغيرًا في كثير من العادات والتقاليد التي تتصل بمكانة المرأة وأهميّة دورها في البناء الإجتماعي. غير أن هذا التبدل ظلّ للأسف كميًّا وليس نوعيًّا، فعلى الرغم من تخطّيها لمراحل طويلة من النضال وتحدّي الصعاب بهدف إثبات هويّتها وتأكيد حضورها الإنسانيّ، ما زالت المرأة تخضع – وفي كثير من الأحيان- للمعايير المجتمعيّة في التصنيف والتي يشوبها الكثير من النقص والمحدوديّة، فإذا أبدعت في الأدب نُسب إبداعها إلى رجل يقف وراءه، وإذا برز فكرها في موقف أو قضيّة سياسيّة قيل “لن يُفلح قوم ولوا امرأة أمرهم” -على الرغم من الجدليّة التي تُحيط بهذا الحديث والسياق الذي جاء فيه-، وإذا خالفت تقليدًا اتُهمت بالضلال واشرأبت الرؤوس وامتدت الألسن للنيل من سمعتها ومن مكانتها، وللمسّ بشخصّها، ليعكس ذلك نمطًا من التفكير العُنصري يمثله الكثير من الذكور في مجتمعاتنا العربيّة، والتي – مهما بلغت من درجات التمدن والتحضر- فلا زالت تعاني من الرجعيّة والتقليد ليس من قبل العامة ذوي المستوى الثقافي المحدود فقط، إنما أيضًا وللأسف من قبل المثقفين “بتوع المدارس”.

         إنّ فهم الأسباب النفسيّة والاجتماعيّة الكامنة خلف ظاهرة التنمر على النساء ضرورة فكريّة ومعرفيّة قد تسهم في الحدّ من هذه الظاهرة؛ فعدم تجاهل الإساءات  التي تتعرض لها النساء في المواقع الثقافيّة والسياسيّة،  قد يُنبّه إلى واقع تهميشهنّ في المواقع المذكورة، فيدفع بالتالي بالجهود القانونيّة للحدّ من هذه الممارسات اللامسؤولة، والتي تعتبر المساس بشخص النساء نقدًا محقًا، خاصة في ظلّ استمرار الإعلام في تنميط الصورة الاستهلاكيّة للمرأة ..

        للحديث عن واقع هذه الظاهرة وأسبابها النفسيّة والاجتماعيّة، كان للحصاد هذا اللقاء الحواري مع الدكتورة

الدكتورة فاطمة عبود

فاطمة عبود، وهي أستاذة في الجامعة اللبنانية – معهد العلوم الاجتماعية؛ محاضرة في مواد علم النفس الاجتماعي، وفي المواد التخصصيّة لماستر الإرشاد والتوجيه النفس اجتماعي في المعهد المذكور.

        الأسس الجندرية، واستراتيجيّة التعويض الذكوريّة

        تؤكّد الدكتورة فاطمة عبود أنّ مفهوم العنف لا يرتبط – كما يتبادر الى الأذهان- بالإيذاء البدني فحسب بل يتمظهر بأشكالٍ عديدة كالعنف اللفظي والنفسي والجنسي والاقتصادي، وبأنّه لا ينحصر في الأسرة باعتبارها حيِّزا لالتقاء الجنسين بل يتجاوزها ليشمل زوايا المجتمع بأسره وصولاً إلى العالم الافتراضي. وهي تعتبر أنّ التنمر اللفظي والنفسي هو من مظاهر العنف الممارس ضد المرأة. والعنف ظاهرة تسود المجتمعات على اختلاف ثقافاتها، فهو يطال المرأة في كافة الأوساط التي تتواجد فيها، لا سيّما تلك التي تحقّق فيها نجاحات مرهونة أصلاً للعنصر الذكوري، وأبرزها حاليًا الوسطين السياسيّ والفكري.

        فمن منظور نفسي، تكمن جذور هذه الظاهرة –والكلام للدكتورة- في آلية تشكّل هوية الذكر منذ طفولته، فهذا التشكّل الذي ينطلق من إدراك الفروق بين الجنسين ويقوم على تعارض وتنافر الذكورة والأنوثة، يجعل الابتعاد عن الأنوثة شرطًا ملازمًا لتحقيق الهويّة الذكريّة. فيترافق ذلك لدى الذكر مع تبخيس عالم الأنوثة المضاد لذكورته. تبدأ هذه المحاولة من الشعور بضرورة تحطيم العلاقة مع عالم الأم أولاً، ولا يلبث ذلك أن يُعمّم على كافة جنس الإناث، ليُترجم في مظاهر العنف وأشكاله كتجسيدٍ لمظاهر الرجولة واستعراضٍ لها تجاه المرأة وما تمثلّه بالنسبة للذكر من مظاهر منبوذة ومرفوضة في أعماقه.

        أمّا من الناحية الاجتماعيّة، فتتحدث عن: سيادة التربية المبنية على أسسٍ جندرية، والتي تنطلق من المحدّدات الثقافيّة والاجتماعيّة لانتماء الفرد إلى أحد الجنسين؛ تُضيف: هذه التربية هي وليدة نظام سابقٍ لوجودنا، وهو النظام الأبوي السائد في المجتمعات العربيّة، الذي يُعاد إرساؤه في تفاصيل وجزئيات السلوك اليومي، في التفاعلات، في الاختيارات والاتجاهات التي نتبناها، وفي اعتماد المنمطات الجندرية بكافة تجلياتها.

    وتشرح أن: تربية الذكور في ظل النظام الأبوي تجعلهم يتماهون مع نموذج مفترضٍ للذكورة  يُرسي القوّة والتوكيد وقمع المشاعر وإخفاء الضعف، كشروط أساسيّة لديمومتهم. إلا أنّ اقتحام النساء للمجالات “الذكورية” والمكتسبات التي حقَّقْنها على كافة الصعد الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة والفكريّة بدت وكأنها تهديدٌ للتصوّر التقليدي للذكورة، وأنذرت بخسارة امتيازاتها التاريخيّة، فوجد الرجل نفسه أمام صعوبة في بناء تصوُّرٍ جديد لذاته ولدور يتناسب مع التغييرات الجذريّة التي طالت دور المرأة. وهذا ما يدفعه، وفي سياقات مختلفة إلى محاولة التقاط الطيف الذكوري من خلال بسط تسلطه كوسيلة تعويضيّة تحافظ على الحالة الدونيّة للجنس الآخر، وما التوجه العنفي إلا واحدة من الاستراتيجيات التي تتيح له ذلك.

        الذكورة الإقصائيّة والتقليل من نجاحات النساء

        توضّح الدكتورة عبود، أنّ التعصُب الجنسيّ يدفع المجتمع للتغاضي عن نجاحات النساء فيه، وتتجلى المظاهر الأشد قسوة في المجتمعات الشرقيّة من خلال التناول الدونيّ لقدرات النساء الفكريّة عبر بعض الممارسات كإشاعة بعض الأمثال الشعبيّة التي تترسخ في البنى الذهنيّة والمعرفيّة، وتسِم موقع المرأة بالتبعية في السلم الاجتماعي؛ هذا من جهة، ومن جهة أخرى فهي تكرّس الصورة المركزيّة للرجل النموذج، فعلى أساس وجوده، تُقَيَّم المرأة ونجاحاتها، ليُحافظ بذلك، ومن خلالها، على امتيازاته؛ وهنا تتجلى نزعة الذكورة الإقصائيّة، وهي وظيفة دفاعية يفعلّها الرجل بوجه التهديدات التي يستشعرها ضد امتيازاته المهدَّدة بالسلب. فبحسب التمثّلات الاجتماعيّة، إن مجال الرجل هو المجال العام، والنجاح في ميادينه متلازمٌ مع وجود الرجل، لذا فمحاولته إقصاء المرأة عنه هي بمثابة دفاع عن هيمنته المفترضة فيه، وسلبُ نجاحاتها هو في ظلّ هذا الواقع حفاظٌ على الذكورة المستعليَة، وتكريسٌ لتبعية المرأة في التركيبة الاجتماعيّة.

        المرأة واعتناق أيدولوجية الهيمنة الذكوريّة

لماذا تصادق النساء على مقولة “المرأة عدوة المرأة”، وما هو دورها في تكريس هذا النمط السلوكي الموجه ضدها، ولمَ تقبل به؟

     تُرجع الدكتورة الأمر إلى المصنّفات الجندريّة التي  تُرسي قواعد التمييز ضد المرأة، يستتبعها العنف كواحد من مظاهره السلوكية. وتضيف: لأن هذه المصنّفات هي بنيةٌ ذهنية معرفيّة غير منظورة بالنسبة للبعض، وسابقةٌ لوجودهم، فقد تبدو كأنها “طبيعية”، لذا نجد أن شريحة لا بأس بها من نساء مجتمعاتنا تعتنق وبصورة لاواعية أيدولوجية الهيمنة الذكورية المتأصّلة في مكوّناتنا الثقافية، فتتبنى الاتجاهات الجندرية على أنها من مسلمات الوجود ليتحوَّلن بذلك من موقع “الضحية” إلى موقع “الأضحية” التي تقدم نفسها طوعًا على مذبح الذكورة المتعالية؛ أما لدى الشريحة الأخرى، فالتي تحاول التمرد على واقع الخضوع،  قد تجد نفسها متمردةً مغردةً خارج سرب النساء اللاتي يؤمنّ بأن الأنوثة تُقاس بمعيار الدونيّة والاستسلام، فتتراجع مزكيةً هذا الإجماع القسري، لتعيش استلابًا فكريًّا يكبلها ويفرض عليها الإذعان لواقع غير متكافئ، والتكيف مع كل ما ينتظره المجتمع الأبوي منها، فتفرض على نفسها الصمت تفاديًا للوصمة التي قد تحملها نتيجة لذلك. لذا، تُشير أنّه -وفي الحالتين- يمكن تحميل المرأة قسطًا من المسؤوليّة في تكريس السلوك العنفي الذي يملي عليها انتماءها الأوّلي الضعيف مكرِسًّا محوريّة الذكورية.

        المرأة واللغة: التذكير في اللغة هو الأساس والتأنيث هو الفرع

   إنّ العلاقة بين الثقافة واللغة – بشكل عام- هي علاقة تبادليّة؛ فاللغة العربية مثلا قد أعطت الهيمنة للمذكر وأضعفت في كثير من المواقع الجنس المؤنث، تستشهد الدكتورة عبود هنا بمقدمة كتاب “المرأة واللغة” للناقد السعودي عبدالله الغذامي، حيث نقل الكاتب فيها عن أحدهم قوله “خير الكلام ما كان لفظه فحلاً (ويشير فيها إلى الذكور) ومعناه بكرًا (مشيرًا إلى الإناث)”، وكأنّه يعلن عن قسمة ثقافيّة يأخذ فيها الرجل التجسّد العملي للُّغة والأساس الذي تُبنى عليه، ويترك المعنى للمرأة لكونه خاضعًا وموجّهًا بواسطة اللفظ، ولأن المعنى لا وجود له إلّا تحت مظلة اللفظ وتبدُّلاتِه.

   تنطلق الدكتورة عبود من فكرة أنّ الرجل كان ولعصورٍ طويلة، منتجاً للغة ومستهلكًا للُّغة، أمّا المرأة  فكانت مجرد موضوع لهذه اللغة، حتى أنّها عندما  دخلت معترك العلم والثقافة صارت تتكلم بلغة الرجل التي استعمر الثقافة، مما جعلها في موقعٍ هامشيّ بالنسبة لإنتاج اللغة. بالإضافة إلى ذلك فهي عندما كتبت كانت كتاباتها هروبًا من الأنوثة وليس إفصاحًا عنها؛ وهكذا ظل ضمير اللغة وأصلها رجلاً، وبقي التذكير في اللغة هو الأساس والتأنيث هو الفرع: فإذا ما دخلت المرأة إلى المجال المهني فإنها تدخل في سياق التذكير، فتكون عضوًا أو مديرًا أو أستاذًا مساعدًا… وفي اللغة إذا خاطبت جمعًا حاشدًا من النساء فيه ذكرٌ واحد، تستخدم ضمير الجمع المذكر؛ وتخاطب اللغةُ القرّاء والمستمعين والمشاهدين باعتبارهم دائمًا ذكور، فتكرّس النظرة الناقصة للمرأة لتبقي هذه الأخيرة كائنًا تابعًا لا مستقلاً، فهي ابنة فلان، أو زوج فلان، أو أمّ فلان، هذا والرجل في اللغة غير معروف بجنسه فحسب فهو الإنسان، العام، الشامل والمعيار لكل شيء.

   وتتابع بأنّه، وعلى الرغم من المحاولات العديدة التي نشهدها حاليًا لإقحام الضمير المؤنث على الخطاب اللغوي (القارئ والقارئة، الزملاء والزميلات…) كسعي لتحرير اللغة من سيطرة التذكير، يظل ذلك في إطار التغيير الشكلي الخجول طالما لم يتحول إلى استراتيجيّة ثقافيّة جذريّة تطال الذاكرة اللغوية.

   تنفي الدكتورة عبود صفة التحيّز عن اللغة بشكل عام، فترى أنّه – على الرغم من أنّ المرأة مغفلة الحضور في بعض مواقع اللغة- فاللغة مجرّدة من المحمولات، وتؤكّد أنّ التحيّز والتمييز ملازمان لثقافة المجتمع وليس لجوهر اللغة أو معانيها؛ وبالتالي يجب العمل على تعديل القيّم المجتمعيّة لينعكس ذلك على بنية اللغة ودلالاتها وليس العكس؛ فالثقافة هي من يصنع اللغة.  وتضيف للتدليل على ذلك القول: “حسبنا أنّ الحرف بانفراده ذكرٌ وأنّ اللغة بشمولها أنثى”.

        القانون ومحدوديّة الرؤيا

         اقتصرت الجهود القانونية، بحسب الدكتورة عبود، على تناول العنف الجنسي أو الجسدي، فاهتمت بقضايا الاعتداء والاغتصاب والقتل والزواج المبكر، ساعيةً بصورةٍ انتقائيّة لاستقصاء ومعالجة الأنواع المرئية من العنف وبفعالية محدودة، فلم تتخطَ بذلك حدود النظريّة ولم تتجاوزها إلى مستوى التطبيق الفاعل والشامل. وكذلك فقد غابت عنها الرؤيا المرتبطة بالعنف اللفظي والنفسي والإقصاء والاستبعاد الذي تتعرض له المرأة في كافة ميادين حياتها اليوميّة، حتى وإن كان واضحًا ومعلنًا، كالتنمر الذي يطالها على وسائل الإعلام أو في مجالات العمل أو سواها.

        الإعلام وتهميش المرأة

         يؤدي الإعلام بكافة أشكاله دورًا أساسيًّا في ترسيخ الرؤية النمطيّة تجاه النساء، في هذا السياق لفتت الدكتورة عبود أنّ الخطاب الإعلاميّ ما زال عاجزًا عن موازاة التطوّر الحاصل في دور المرأة، وهو يعمد بالتالي إلى حصرها في صورة نمطيّة سلبيّة لا تراعي إمكاناتها، وذلك بالتركيز على دورها في الاهتمام بالمظهر ورعاية المنزل. وأشارت إلى  دور التكنولوجيا الحديثة واستخدام وسائل التواصل الاجتماعي في مضاعفة تعرّض المرأة للعنف اللفظي والتعبيري والمعنوي؛ بالإضافة إلى قيام وسائل الإعلام التقليديّة والحديثة بالإعلاء من القيَم الجماليّة لجسد المرأة عبر إلقاء الضوء عليه كضرب من ضروب الاستغلال، فتقدّم بذلك صورة غير متوازنة عن كينونة المرأة وخبُراتها وإنجازاتها وتتبنى تثقيفاً موجهًا نحو تهميش المرأة فتعمّق النظرة الدونية إليها لتذكي بذلك النزعات الكامنة لتعنيفها لفظيًا، وكذلك نفسيًا.

        تختم الدكتورة مؤكدة أنّ الموقف العملي الذي اتُّخذ من المرأة إثر تطور أدوارها لم يستطع التغلب على ما ترسّخ من عادات وقيَم تقليديّة تعتبر أن المرأة كيانٌ ناقص وتابع للرجل. فالمجتمع لا يزال يدأب على استخفاف أي طرح أو فكر جدليّ تتقدم به المرأة، وإذا سألنا لماذا؟ الجواب بكل بساطةٍ لأنّها المرأة، تجسّد الاختلاف، ومجتمعنا يخشى الاختلاف، فكيف باختلافٍ تطرحه امرأة وهو قد يحمل بذور تفوّقها وانعتاقها وانتصارها؟ هو الخوف من تراجع تأثير التفكير التقليدي المضاد، إنّ الخوف من المرأة ومما تحققه كامنٌ في تعبيراتنا الثقافية والاجتماعيّة ومستترٌ خلف “حبِّها”، فحب المرأة، بغضها والخوف منها هي متناقضات الصندوق الأسود، هي إملاءاتٌ لاشعورية أوليّة لطغيان الذكورة وخفتان الأنوثة.

العدد 117 / حزيران2021