الرابع من آب 2020 لعقل العويط… الكتابة التي تولد من رحم الفاجعة

رؤوف قبيسي:

نادراً ما أعجزعن التعبير. أقبل التحدي، واقول بيني وبين نفسي: امسك اليراعة يا صاح، وحبّر ما تريد أن تذيعه في الناس، فربما قرأك واحد أو اثنين، وربما قرأك الألوف، وما هذا بالأمر المهم على أي حال. في السوق كتب يقرأها الملايين وليست في نظرك ذات قيمة، وفي أسواق التجارة يقول أصحاب الحوانيت “إذا تساوت الأذواق بارت السلع”. ليجرب كل واحد منا حظه إذن، ويدلي كل أمرئ بدلوه، وما الكتب آخر المطاف غير سلع للمضغ، منها الذي تهضمه العقول والقلوب، ومنها الذي تزدريه. توقف عن كتابة القصة يا صاح، لأنك لست من اصحاب القصص، ولست من هواتها. لا تجرب الشعر القديم، لأنك أضعف من أن تلم ببحوره وأمواجه، ولا تجرب الحديث منه، لأنك تفتقر إلى الخيال المجّنج الذي تتطلبه مملكة الشعر.لا تجرب اللغة العالية، لأنك لست من مدارسها. اكتب اللغة البسيطة، ولا تبالي كيف يراك الآخرون وكيف يحكمون عليك. المهم ان تكتب، وأن تكتب بصدق، لكن إياك ثم إياك، أن تقرأ كما يقرأ المتزلّفون وبسطاء العقول، لأن معنى ذلك ان اشياء كثيرة ستفوتك، ويستغلق أمرها عليك. عملا بهذا كله قرأت وما زلت أقرأ، ومن هذا الذي قرأته قبل أيام كتاب عقل العويط  “الرابع من آب 2020″، عن انفجار المرفأ الذي ضرب المدينة. قرأته وفي تقديري أني سأبلغ المرقاة التي يريد كل شاعر من قارئه أن يبلغها. دققت وأنعمت النظر، وإذ أنا امام حاجز، حال بيني وبين بلوغ علياء الشاعر، وأين أنا من عليائه وسدرة منتهاه!. بعض الشعراء أعرفهم معرفة شخصية، معرفة تساعدني على تسلق معراجهم، وتعينني على الدخول إلى عالمهم الأثيري، لكني بعد أن فرغت من قراءة “الرابع من آب 2020″، بانت لي فكرة وانقشعت غيمة، فصاحبنا يصف انفجار مرفأ بيروت بلغة مغايرة كل المغايرة. حادة وآسرة على رغم ما يكتنفها من أصباغ الغموض. لا أعرف في الحق في أي خانة أضع صنيعه، ولا أظن أن الكاتب نفسه يعرف موضعه، بحكم السجية الفنية التي تأخذ الشاعر، على غيرإرادة منه، إلى أمكنة لا حدود لها، وخيالات تأبى القوالب الجامدة وأطر التصنيف، وتجعل القارىء يتساءل عما إذا كان الذي يقرأه  شعراً هو أم نثراً، وتحمله على أن يقول ما يقوله أصحاب العمائم حيت تعصى عليهم الأجوبة، “العلم عند الله”. حين سألوا طه حسين مرة رأيه في لغة القرآن، هل هي شعر أم نثر، أجاب بأنها ليست بشعر ولا بنثر، وإنما هي قرآن وكفى. ساورني الشعور ذاته وأنا أقرأ “الرابع من آب 2020 “، وتساءلت: هل هو شعر أم نثر، أم هو لغة مكتفية بذاتها تفيض شعراً ونثراً في الوقت عينه؟ كيف يمكننا أن نقبض على معاني الشاعر، وفي أي خانة محددة نضع هذا الكتاب، والمؤلف يجترح لنفسه ولنا كتابة خارجة من رحم فاجعة ضربت المدينة وهزتها هزاً عنيفاً؟  كيف يتسنى لنا ذلك ونحن نقرأه يخاطب بيروته ويقول: “وبيوتٌك أجساد ٌ سابقةٌ، وأعمار تلفت، وحرائق مسعورة وهمهمات قرابين ورائحة بكاء إسمنتي تجنّز هواءك المريض”؟ أو حين يخاطب الأرواح الواعدة بالتمرد: “لا تغلقوا التوابيت. لا تسمّروها بالمسامير. سيأتي يوم قريب نحتاج فيه إلى هذه التوابيت المختومة بسجلات اصحابها، لحشر اشلاء الأنهر، وفرائص المستشفيات، وأحشاء البساتين. يا لهذه الساعة. يا لهذه الساعة”.

نعم، يا لهذه الساعة. الألم الممض يغرسه البارود في قلب كل مواطن في أي ناحية من نواحي الأرض كان. يا لهذه الساعة، تنفتح فيها العيون على كلامك أيها الشاعر. ألم تكفنا صور الفاجعة وأخبارها، حتى تأتينا وتنكأ جراحنا بقلم حديدي. عزاء هو أم رثاء هذا الذي يشي به كلامك؟ جرس إنذار للتمسك بالأرض، أم دعوة للرحيل؟ مهما يكن، سأقول فيك ما قاله جبران لحفار القبور ساعة أرشده هذا الأخير إلى قبر حبيبته سلمى ” في هذه الحفرة قد دفنت قلبي ايها الرجل، فما أقوى ساعديك”. أستعير قول صاحب “النبي” في وصف ما خطه يراعك، وأعدك وعداً أحسبك تحبه وتقبله، بأنني لن أتوارى خلف حجارة المرفأ، كما توارى جبران خلف أشجار السرو. لن ابكي مدينتي ومسقط رأسي ومنشأي كما بكى جبران حبيبته. سأبقى مجاهدا ما وسعني الجهاد، صبوراً ما وسعني الصبر، وكيف لا، وكلماتك تغرس فينا الروح الثورية التي ترفض كل شاذ وهجين. “ستموتين (يا بيروت)  كثيراً، وكل الوقت، لكنك لن تكوني حصة أحد، ولن يسبيك أحد. ما أجمل أن مراسك صعب، وانت على فراش الموت. إياك أن تستسلمي. ستعثر نظراتك الأخيرة على طريقة، لإرضاء الزفرة المميتة واجتراح ضحكة المستحيل. لا بد أن يحضر جهاز التنفس، وسرير المستشفى. وسيهب الكثيرون لرفعك عالياً، كما ترفع عروس يوم الزفة، أو كما يرفع سهل إلى رؤوس الجبال”.

لن أتشفّع بأمثولة طائر الفينيق الذي تقول الأسطورة أنه يموت ثم ينهض من رماده. بيروت لا تموت رغم كل ما ألمّ بها من صنوف الدمار وألوان الخطوب. حية هي في نفوس ابنائها ونفوس ساكينيها ومحبيها، واعرف حق المعرفة، أن أهلها اينما كانوا، يؤثرونها على اي مدينة أخرى، حتى على المدن التي ألفوها وأصابوا فيها الثروات. ما أصعب أن يخون المرء مدينة مثل بيروت. هي أشبه بزيتونة مباركة زيتها يضيء، ويبقى مضيئاً مثل جمر أبدي. لقد تعرضت بيروتنا إلى صنوف مختلفة من الاحتلالات، منها الذي جاء من الأشقاء، ومنها الذي جاء من الغرباء، ومنها الذي ما زال يربض على روحها بفعل آثام ارتكبها، ولا يزال يرتكبها  أمراء الحرب. نجحوا وينجحون، لكنه نجاح إلى حين. قصيرو النظر هم، إلى حد فقدان النظر والذاكرة والبصيرة. لا يدرون أن يوماً سياتي، ويحين موعد دفع الثمن. عاجلا أم آجلا سيدفعون هذا الثمن، وتلك حقيقة تثبتها الشواهد والتجارب وأحكام التاريخ. في كتاب “طيور ايلول” تهدي الراحلة إميلي نصر الله كتابها إلى بلدتها التي في الجنوب، “إلى قريتي الطيبة حيث امتزجت ذرات كياني بذرات ترابها الأحمر”. هكذا هي حكايتنا مع بيروت، ذرات كياننا ممزوجة بذرات ترابها ونسيمها، وكذلك تبقى حتى لو قوضتها معاول الهدم وأمستها رماداً. حية تبقى، ويبقى وردها يتنفس أمام الريح العاتية. من ماضّي الجميل، أذكر يوما جاورت فيه صديقاً يونانياً في لندن. أمضى في تلك المدينة نحو ثلاثين عاماً، وقررذات يوم أن يعود إلى بلدته في اليونان. حين سالته عن السبب أجابني بأن لندن لم تعد فنجان شايه، ما يعني في الإنكليزية أنها لم تعد المكان الذي يرتاح إليه. أعرف أن بيروت تغيرت، وتغيرت كثيراً، وعلت البثور وجهها النضر، بفعل جرائم لوردات الحرب، وما ارتكبه القيمون على إدارة بلديتها من الرزايا، وبما منحوه لحيتان المال والقطط السمان من رخص البشاعة، وما أحدثه الفساد في عمليات بدت في الظاهر بشائر خير، أما في الباطن فكانت عمليات مجحفة بحق الوطن والمواطنين، اغتنت منها أقلية ضحلة ما زالت تقتات من أموال الناس، وتعزف على أوتار التدين الأعمى، وتذر الرماد في العيون. مهما يكن، تبقى بيروت بالرغم من ذلك كله، فنجان قهوتنا المفضّل، كرسّينا المفضّل، صحننا المفضّل، شرفتنا المفضّلة المطلة على البحر، بصخرته الدهرية “كأنها وجه بحار قديم”. مدينة نرتضيها وترتضينا في الظروف الحالكة، وفي الساعات العصيبة، وبها نلوذ حين يضيق بنا العالم الواسع.

أراني قد ابتعدت عن كتابك ايها الشاعر، بفعل حالة نفسية أعرف يقينا أنك تدركها ويدركها كل متأذ من تلك الفاجعة التي عنوانها “الرابع من آب 2020 “. أعود إليك لأشاطرك الهموم، والمناجاة الرهيفة البعيدة عن التكلف، النابعة من صميم نفس مكلومة. ما هم يا رفيق، إذا كان السّم الذي لا يميتنا يزيدنا قوة، كما قال نيتشه، وردد قوله من بعده، أصحاب العقول القوية والنفوس القوية. من ثمّ، ألست أنت القائل في الصفحة 52 من كتابك: “سيعود هذا البحر إلى رشده بعد أن ينظف ماءه بمائه، وسيكون ملحه جديراً بتطييب جروح النوارس وزبد الموج، مثلما سيكون جديراً يترشيد تربة الأرض المعدومة”؟ من تربة الأرض المعدومة هذه، ولدت لغتك التي تنكأ جراح المدينة لتشفيها أيها الشاعر، ومنها سيهب النسيم الواعد، “ويفتح ممراً في السديم العقيم وفي خيال الغيوم”.

العدد 118 / تموز 2021