مقابلة مع الدكتورة الشاعرة دورين سعد

بيروت، من ليندا نصّار

 دورين سعد للحصاد: “أطمح أن أخرج من الأنماط المقولبة، فالمرحلة الثقافيّة تصنعها محاولات الكاتب ورغبته في التغيير.”

تعيش الدكتورة دورين سعد حالات الكتابة بكلّ ما تقتضيها من طقوس وهي تعتبرها تمثيلًا للذات وثمرة للعزلة والتأمّل في العالم والوجود. في هذا الحوار نقترب من الأكاديمية والناقدة الشاعرة اللبنانية دورين سعد  كونها باحثة

الشاعرة دورين سعد

وناقدة في الجامعة وخارجها،  وهي التي استطاعت أن تستفيد من دراساتها الأكاديمية وقراءاتها لتحصين معرفتها النقدية، محاولة الولوج إلى أعماق النصوص العربية والعالمية، لتضع بصمتها الخاصّة في النقد.

الحصاد التقت الأكاديمية دورين سعد في بيروت وكان لها معها الحوار الآتي:

الحصاد: كيف بدأت تتّضح عندك موهبة الكتابة؟

دورين سعد: الكتابة ليست حدثًا طارئًا في حياة الإنسان. فالشّجرة لا تثمر إلّا بعد أن نصقلها ونعتني بها… ونؤمّن لها كلّ الشّروط الصّالحة لتنمو بطريقة سليمة.

رغبتي في الكتابة بدأت تظهر منذ الصّغر، إذ كنت أميل إلى العزلة والتأمّل وأشعر أنّي بحاجة إلى التّعبير عمّا يجيش في أعماقي ويتأجّج في ذاتي…

فنحن نعيش عالمين: عالم يوميّ ملموس لكنّه يبقى غير مفهوم، وعالم آخر يُشعر به، لكنّه واضح في تجلّياته الداخليّة كما لو أنّه أقوى من مظاهر الوجود حولنا. فبين الائتلاف والاختلاف… بين عالمنا الداخلي وعالمنا الخارجي تتجلّى الكتابة بأبهى حلّتها.

الحصاد: إلى أيّ مدى يمكن للباحث أن يستفيد من دراساته وأبحاثه الأكاديميّة لتطوير قصيدته؟

دورين سعد: الشعر أوّلًا موهبة …فالإنسان لا يعرف في أيّة لحظة تزوره القصيدة… متى تطرق بابه وتؤرّقه… فمتى ألحّت عليه حالة الكتابة، عليه أن يستجيب لها…

الشاعر لا يستدعي القصيدة وإنّما هي التي تستدعيه.

وفي هذا السياق يستحضرني ما قالته الأعرابيّة في الحبّ بأنّه كالنار في الحجر… إن قدحناه أورى وإن أهملناه توارى… هكذا هي القصيدة تحتاج أن نسقيها لتورق وتزهر.

تحتاج إلى روافد معرفيّة… إلى قراءة دائمة… إلى مخزون ثقافي، إذ لا شيء ينبع من فراغ.

الأبحاث العلمية لا تصنع موهبة الشّعر لكنّها تصقل القصيدة، كالجوهرة الّتي يجب أن نعتني بها دومًا… ونزيل عنها الغبار ليلتمع وهجها… العلم يوسّع آفاق القصيدة لتخرج مرتدية ثوبها الكامل… لكنّه لا يخلق قصيدة.

الحصاد: ما الذي تطمح دورين سعد إلى تحقيقه في العالم الأدبيّ؟

دورين سعد: العالم الأدبي واسع ومتشعّب … وأنا أوافق أبا نواس حين قال: حفظت شيئًا وغابت عنك أشياء…

فأنا ما زلت أرتقي بمدارج العلم وما زال ينقصني الكثير. لكنّني أسعى أن أحصّن معرفتي بالنظريات النقديّة لأستوعبها وأضيف إليها. إذ من الضروري الحفر في الجذور واكتشاف الأصول لتكون سندًا صالحًا في الأبحاث العلميّة.

أطمح أن أخرج من الأنماط المقولبة، فالمرحلة الثقافيّة تصنعها محاولات الكاتب ورغبته في التغيير.

الحصاد: تكتبين قصيدة النثر منذ أعوام. ماذا يعني لك الشعر وكيف تصفين علاقتك به؟

 دورين سعد: لا أكتب الشعر، بل هو يكتبني… يسير بي على هواه… يمسك بيدي كطفلة تتهجّأ الحروف الأولى في الأبجديّة…

أنتظر القصيدة كمن ينتظر برقًا في سماء الصدفة، أنتظرها كمن ينتظر هبوب النسيم في فصل الصيف…

هي الآخر الذي كنته، الآخر الذي سأكونه.

الحصاد: نقرأ لك أبحاثًا ودراسات نقديّة في مجلّات عربيّة ومحليّة، هل يمكن أن نسألك إلى أين النقد اليوم، وما الذي ينقصه ليتطوّر ويتقدّم بشكل أفضل ؟

 دورين سعد: في عالمنا العربي يسير النقد بخطى خجول. فمعظم النّقاد العرب ينهلون من النظريّات الغربيّة يترجمونها ويحاولون تطبيقها على النصوص العربيّة… وقد غاب عن أذهانهم أنّ للنصّ العربيّ طريقة في التشكّل والبناء مختلفة عن النقد الغربي. وهو يستمدّ هذه الخصوصيّة من الّلغة العربية التي تعمل وفق نظام معيّن.

هذا لا يعني أن نتقوقع على أنفسنا؛ فالاطّلاع على المناهج الغربيّة أمر ضروري وحتميّ… ولكن من دون أن يذوب نصّنا العربي في قالب غربي جاهز. فالانسلاخ عن تراثنا العربي هو بمثابة الانسلاخ عن الجذور… هو فقدان للهويّة… ومتى فقد الناقد هويّته دخل في دائرة الخطر.

بالتالي، النقد هو ممارسة اجتماعيّة، بحاجة إلى إيجاد قنوات تواصل مع المجتمع.

ويبقى السؤال هنا عن علاقة الأدب والنقد بالمؤسّسات والّلحظات التاريخيّة والمجتمع من جهة، ووظيفة النقد وضرورة أن يعود إلى محيطه الاجتماعي من جهة أخرى… لا سيّما أنّه تحوّل إلى ممارسة سريّة تجد صداها في دائرة نخبويّة من القرّاء.

وفي هذا الإطار، يستحضرني قول نورثروب فراي: “لكن هناك سببًا (…) يجعل وجود النقد ضروريًّا هو أنّ النقد قادر على الكلام بينما الفنون كلها خرساء.”

الحصاد: بين كتابة النقد الأكاديمي والنقد الانطباعيّ، ماذا تختارين، وهل يمكن التوفيق بين الاثنين؟

دورين سعد: لكلّ مقام مقال… ولكلّ نقد خصوصيّته وطريقته في التشكّل…

النقد الأكاديمي يستدعي منهجًا صارمًا وطريقة في الكتابة توصل الباحث الى نتيجة تقتضي إثبات الفرضيّة التي وضعها أو نفيها… لذلك الجامعة هي الحاضنة الفعلية له، كذلك المجلات الأكاديميّة المتخصّصة.

أمّا النقد الانطباعي، فيتناوب بين الأسلوب الخبري والأسلوب الإنشائي… يجمع بين السمات الموضوعية والسمات الذاتيّة، يراعي المتلّقي… يتوجّه إلى شريحة كبيرة من القرّاء. وهو مناسب في الأمسيات الأدبيّة…

لا يمكننا أن ننكر بأنّ النقد الأكاديمي قد خسر شريحة واسعة من قرّائه استقطبها النقد الانطباعي لسهولة جهازه المفاهيمي.

أمّا التوفيق بينهما فلا يكون الّا في قراءة نقديّة شفويّة أو أمسية أدبية… فالعصفور

مهما فرح في القفص… لا تليق به إلّا السماء…

 الحصاد: تناولت في بحثك الأكاديمي مفهوم الوطن لدى ثلاثة شعراء. إلى أي مدى يمكن لمتتبع هذه القصائد، التي قمت بدراستها، أن يصوغ رأيًا أو أن يحلّل تحوّلات الّلغة وارتباطها بالأوطان والأمكنة عند الشعراء المذكورين؟

دورين سعد: تناولتُ في أطروحة الدكتوراه مفهوم الوطن لدى ثلاثة شعراء: الشاعر القروي، وخليل حاوي، ومحمد الماغوط. ولأنّ الشعر الوطني، بتعبيره عن وشائج قائمة بين الشاعر والوطن، يرصد نبضًا إنسانيًّا لا يتوقّف ما دام هو حيًّا، فإنّ أيّ انفصام بين الاثنين يؤدّي الى فتورٍ وتلاشٍ.

والواقع ليس المشهد الشعري سهل الرصد. والأصعب من ذلك إذا حاولنا إظهاره عند شعراء ينتمون إلى أزمنة مختلفة وحالات ذاتية واجتماعية متباينة.

وضمن هذا الإطار أودّ أن أشير بأنّ الوطن كما الوطنيّة لفظتان اصطلاحيّتان مستجدّتان نسبيًّا؛ فقد بدأ الإنسان في التعبير عن وطنيّته، بشكل مبهم في القرن الثامن عشر، ثمّ أخذت مواقفه تتعمّق وتتضّح ابتداء من نهاية القرن التاسع عشر حتّى أيّامنا الحاضرة. بالتالي، من خلال الأعمال الأدبيّة على نحو عام، والشعريّة منها على نحو خاص، يمكن رصد العلاقة التي تربط أولئك الشعراء بأوطانهم واختبارها، لاسيّما أنّ نشوء مفهوم الوطن في الخطاب السياسيّ أو الأدبيّ يستوجب السؤال عن علاقة القصيدة الحديثة بتأكيد هذا النشوء أو نفيه.

فبعد أن تحوّل مفهوم النقد والدراسات الأدبيّة واتّسع نطاق البحث والدرس في الزمن المعاصر، أصبحت عناصر القصيدة تتمثّل في التجربة الشعريّة والموسيقى والخيال ووحدة العمل الفنّي،لا في الّلفظ والمعنى والوزن والقافية فحسب كما كان معروفًا في السّابق.

إنّ هذا التباين في بنائيّة القصيدة العربيّة بين التقليد والتجديد هو ما سيلمسه المتتبّع للقصائد…لأن الشعراء المختارين قيد الدرس يتلاقون في إطار واحد، إنّه المشهد الشرق- أوسطي. ولبنان واحد فيه نظرًا إلى التشابه والتماثل في الأحداث والظروف والأزمات المتلاحقة التي فرضتها الحربان العالميّتان وما بينهما وبعدهما من استعمارٍ ورث استعمارًا من الأتراك إلى الأوروبيّين. هذه الأحوال الدّقيقة تجعل القارئ يرى الوطن من على شرفة قصائدهم. فإذا كان القرويّ قد نظم أشعاره مع بداية القرن العشرين وظهور الأدب المهجري، فإنّ خليل حاوي تحوّل عن قديمه، وسار في درب جديد منذ منتصف القرن العشرين، حاملًا بعض الجدّة في فترة الحداثة الشعريّة. أمّا بالنسبة إلى محمد الماغوط، فأنتج شعرًا مغايرًا للمعهود مع أواخر القرن العشرين.

والواقع، ما إن ظهرت قصيدة الماغوط وأمثالها والحلم يراود الشاعر بأن يجعل من الشعر عمليّة فكريّة، إضافة إلى كونه عمليّة عاطفيّة خياليّة. فالتحوّل يجري في المجتمع والحياة المعاصرة، وتتغيّر فاعليّة القصيدة الحديثة بين حقبة وما يليها…

من هنا، يتبيّن المتلقي بعد قراءة متأنيّة لثلاثة شعراء في نماذج شعريّة متنوّعة في سياقاتها، كيف استطاعت تجربة هؤلاء الشعراء أن تجعل من القصيدة منبرًا يعبّر من خلاله عن علاقة الإنسان بالوطن والمجتمع والأرض والأمّة، محاولًا تقويض الزمن الرديء المتأتّي من فترات الحروب والاستعمار لابتنائه من جديد وفقًا لقيمه المثاليّة.

الحصاد: تناولت في كتبتك ودراساتك كبار الكتّاب كما ذكرنا في سؤال سباق، ومنذ فترة جمعت حوارات الدكتور شربل داغر في كتاب. وتقولين في تقديمك للكتاب: “من حاور شربل داغر – مثلي- كان شريكًا معه…” كيف يمكن للقارئ والمحاور أن يندمج في العمليّة الإبداعيّة؟ وما هي الحدود الفاصلة بين القارئ والكاتب؟

دورين سعد: أعلن رولان بارت في النّصف الثّاني من ستينيات القرن العشرين، موت المؤلّف وميلاد القارئ، مبدّلًا بذلك الصورة النمطيّة المتخيّلة في الأذهان عن المؤلّف. فإقصاء الكاتب يعطي الحرية للقارئ في أن يشعر بمتعة القراءة.

وقد أراد بارت من موت المؤلف أن يجعل النصّ فضاء مفتوحًا، ما يؤدّي إلى إلغاء مركزيّة الذات وإحلال مركزيّة الّلغة.

أن نكتب أي أن نصل إلى مرحلة تكون فيها الّلغة هي الفاعلة وليس الذات. فيصبح القارئ شريكًا مع المحاور في العمليّة الإبداعيّة، ويتمكّن بذلك من إنتاج نصّ جديد.

فموت المؤلّف قد يكون إعلانًا لميلاد القارئ، ولكن تبقى الأسئلة المطروحة:

هل يمكن قراءة النصّ من دون الالتفات إلى المؤلّف؟ وهل يمكن أن تذوب الحدود نهائيًّا بين القارئ والكاتب؟

لعلّها أسئلة إشكاليّة تطرق الباب لأبحاث جديدة.

الحصاد: ما هو جديدك؟

دورين سعد: لديّ قيد الطبع مجموعة شعريّة بعنوان: نحت في الهواء فوق أفق الزمن…

كذلك كتاب بعنوان “قصيدة النثر في “حزن في ضوء القمر: محمد الماغوط نموذجًا”.

وكتاب آخر “الوطن في تحوّلاته عبر القصيدة مضمونًا وأسلوبًا عند الشعراء الثلاثة: الشاعر القروي، خليل حاوي، ومحمد الماغوط.”

أودّ في نهاية هذا الحوار أن أشكرك على هذه الأسئلة الراقية والمحفّزة. فالكتابة تحضّ على الكتابة… والنقد لا ينمو في الفراغ، بل إنه بتطور ويصبح فاعلًا في بيئة ثقافية تتيح له أن يؤثّر في القراء. كما أتوجه بالشكر الى مجلة حصاد التي أتاحت لي فرصة التعبير عن رأيي وأفكاري.

العدد 118 / تموز 2021