سعدي يوسف خارج المكان

محمد علي فرحات

فقد الشعر العربي الحديث واحدا من أعلامه الكبار، سعدي يوسف (1934– 2021)، وهو الرابع في أدباء عرب انتهت أعمارهم في العاصمة البريطانية، بلند الحيدري ونزار قبّاني وخليل رامز سركيس. والملفت أن العراقيين الحيدري ويوسف دفنا في لندن في حين أن السوري قباني واللبناني سركيس دفن كل منهما في عاصمة وطنه الأصلي، أي في دمشق وبيروت.

هكذا يبدو المنفى مصيرا محتّماً للشاعر العراقي بعدما تعذّرت إقامته في وطن ملتبس على رغم أهميته، فحين كان سعدي يوسف في نزعه الأخير بدا العراق منشغلاً بنزاعات حول تمثال أبي جعفر المنصور، الخليفة العباسي الذي بنى بغداد عاصمة العالم المتمدّن في زمنها، وحكم دولة شاسعة من حدود الصين إلى الحدود الإسبانية الفرنسية قبل حوالى 1300 سنة. كان سعدي يموت في لندن وجنود يحرسون تمثال المنصور في الكرخ شمال بغداد لئلا يحطّمه معترضون على التاريخ متأثّرون بأجندات إيرانية غرائبية.

لا يتفقون على الحاضر ولا على الماضي، لذلك تستمر الدياسبورا العراقية سفرا بلا عودة، حيث يحمل العراقي وطنه في القلب إلى بلاد كلما كانت بعيدة كلما كانت أكثر إنسانية.

الحضور العربي الأول لسعدي يوسف خارج العراق هو أنّ قصيدته كانت الأولى في سياق قصائد العدد الأول من مجلة” شعر“اللبنانية التي أصدرها بدءا من شتاء 1957 يوسف الخال بالتعاون مع أدونيس وشوقي أبي شقرا وأنسي الحاج، وأتت بعدها في العدد الأول أيضا قصائد لبدوي الجبل وبشر فارس وألبير أديب ونازك الملائكة وفدوى طوقان وإبراهيم شكرالله ونذير العظمة ورفيق المعلوف وموسى النقدي وفؤاد رفقة وميشال طراد.

سنوات منافي سعدي يوسف بلغت 42 عاما في حين أن إقامته في وطنه العراق بلغت 25 عاما. هكذا يبدو المنفى غالباً في حياة الشاعر وسلوكه كما في شعره أيضا، وقد تحوّل الوطن الأصلي إلى رمز بل حتى إلى ذكرى باهتة. تلك هي السمة الغالبة على سعدي يوسف، هو الذي ولد في أبوالخصيب جنوب البصرة، حيث ولد أيضاً بدر شاكر السيّاب. وكان سعدي طفلاً في الخامسة حين توفي أبوه فتولّى أخوه الأكبر رعايته. كان يقول: عندي رغبة بأن أدفن في جوار أبي لكنني لا أعرف أين قبره. أما الأم فتوفيّت ولم يعلم بموتها إلا بعد حدوثه بخمس سنوات، ووصله الخبر وهو في باريس.

نشأ سعدي في عائلة فقراء، وقال إنه لم يستطع شراء الكتب إنما كان يستعيرها من الأصدقاء ومن مكتبة المدرسة، وأحياناً كان ينسخ القصائد على ورق الأكياس، كما كان ينسخ كتباً بأكملها ثم يجمع الأوراق ويحوّلها إلى دفتر.

تابع دراسته العليا في دار المعلمين التي كانت كليّة أبناء الفقراء في العراق وسبقه فيها السيّاب وحسين مردان وبلند الحيدري، وكان يلتقي هؤلاء الشعراء ويعرض عليهم قصائده ويستمع إلى آرائهم.

غادر العراق للمرة الأخيرة عام 1979 ولم يعد حيّا أو ميتاً. كان المنفى وطنه ورأى أن القصيدة تمنحه التوازن أكثر من أي حزب ومن أي دولة. ولم يستطع أن يحقّق أمنيتين، الأولى إلغاء أكثر من خمسة أسداس ما كتب من شعر في مختلف مراحله، والثانية كتابة سيرته الذاتية بأكبر قدر من الصراحة.

لكن العراق بقي في خلفية جولات الشاعر في بلاد كثيرة. إنه الوطن الذي لم يبق منه سوى الإسم الجغرافي. كانت بغداد عاصمة العالم في زمنها رمزا للعراق فلما غربت غرب معها ولا يزال، يتنازعه الفرس والكرد والترك، كما يتنازعه أيضاً عربه الغالبون ضحايا تناقضات التاريخ وأشواكه الجارحة.

كتب عام 1997:

” سوف يذهب هذا العراق إلى آخر المقبرة

سوف يدفن أبناؤه في البطائح جيلاً فجيلاً

ويمنح جلاده المغفرة.

لن يعود العراق

ولن تصدح القبّرة

فامشِ إن شئت دهراً طويلا

وادعُ إن شئت كل ملائكة الكون

كل شياطينه،

ادعُ ثيران أشور،

عنقاء مغربةْ…

أدعُها وانتظر في دخان التهاويل

معجزة المبخرة“.

التقيت سعدي كثيرا في بيروت ثم في لندن. كانت صداقتنا صامتة. نمشي معاً مسافات وكلامنا قليل. أشهد أن سعدي أكثر الشعراء الذين عرفتهم رصانة. يحاور نفسه أكثر مما يحاور الآخر. وداخلني دائما إحساس بأنّه ينتبه كثيرا إلى صحته العصبية لئلا تحطمه الغربات، وقد نجح في ذلك. كان سعدي يفضّل سعدي على سائر الأصدقاء: إنتبه لنفسك، يرددها، ليسمع هو وحده لا ليسمع الآخرون.

العدد 118 / تموز 2021