غابت ايقونة الشعر العراقي لميعة عباس عمارة

و بغيابها تنطفئ شعلة أخرى من مشاعل النظم العراقي

صعب ان نقول ان فنانا قد مات او رحل، فالفنانون ليسوا مجرد اشخاص. الفنانون مواهب ،والموهبة الحقيقيه لاترحل، انها تظل عبر اعمال اكتملت وقدمت للناس فأبهرتهم، وأضافت لذواتهم معنى أو بهجة ،او لقنتهم فكرة ،أو نسجت في دواخلهم احساسا بالجمال ،والوان الجمال متعددة . الشاعر قبل ان يجيد النظم أو يصنع القوافي ،هو كتلة مشاعر جياشة ، او فيض احساس غامر،ترجمه الى ابيات من الشعر، او كلمات اتسمت بمعنى الرفاهة والرقي ،لذلك فان الفنان،والشاعر ماهو الا فنان الكلمة الذي لايموت معنى ولا يرحل فكره. احمد شوقي والجواهري رحلا ،وحافظ والسياب والبياتي ماتوا جسدا ،ولكنهم تركوا ارثا لا يموت ،واليوم ونحن نسمع أو نقرأ ان الشاعرة لميعه عباس عمارة قد رحلت، لانصدق مثل هذا الخبرالمتداول. بالتأكيد تمنينا لو يكون الخبر محرفا عن معناه ،أوانه التوى في تفسيره. لكن الحقيقة التي لانود سماعها ،أو الخبر الذي نود نفيه هو في نهاية الأمر كان خبرا صحيحا،ومؤكد ا،والأكثر من ذلك دقة كان طبيعيا .ان لميعه مع كل بريقها وكل وهجها ،هي في الأول وفي الآخر بشر،ومخلوق ،ومثل كل المخلوقات لها عمر،ولها زمن،ولا مفر من الوداع الاخير.لكن الصحيح ايضا ان لبعض البشرعطاء ،لا يمكننا القفز عليه،أو ننتزع من اعماقنا مكانته،أو نخلي من وجداننا عبقه وتأثيره،لذلك نتمنى على الدوام لو ان الزمن يتوقف عند من نحب.لميعه من ذلك الطراز من البشر،فقد التهبت مشاعرنا بعطائها شعرا منظوما ذا قوالب فنية بديعه ،وتنوعت اعمالها ،حين طرقت ابواب قضايا وموضوعات مسكوت عنها. ان الكلمة اّسرة،..كم هي رائعه تلك الكلمة ،وجميله ،بل وساحره .انها بالفعل جوهرة ،خصوصا حين تكون بين يدي صائغ ماهر،وحاذق في فنون مهنته . فيشكلها فنا يخطف العين،او جرسا يملأ الأذن . كانت تلك االجوهرة هي الكلمة التي تضوي على شفتي لميعه حين تنطقها شعرا،أو حين تخطها بقلمها حرفا ،أو تسترسل في ابداعها حين تلقيها قصيدة ،تموج بنا بحورا ،وتتقاذفنا امواجا ،نلهث وراءها انبهارا وعشقا للمعنى وطربا للقيمة.غابت الآن لميعه ،كأن روحا قد انتزعت من اجسادنا، أو قبسا قد انطفأ فجأة وطوي في وجداننا،أوكأن سنوات عطرة وخلابة من العمر قد سقطت وولت امام ناظرينا هاربة.

ماذا يقول عنها النقاد ..؟

يقول الناقد العراقي علي حسن الفواز(ان لميعه جزء من ذاكرة القصيدة الجديدة ومن هواجسها بالمغامرة والانفتاح على عوالم نزعت منها الرتابة والمألوف الشعري وكانت القصيدة المسكونة بالأنوثة تمثل وعيا جديدا مثلما تمثل انفتاحا كسرت معه الكثير من تقاليد الألفة والنمطية).ثم عن التأويل الداخلي لقصيدة الراحلة يقول الفواز (إنها كتبت قصيدة البوح كأنها تتمرد على المسكوت عنه مثلما كتبت قصيدة استدعاء الآخر الحبيب الثائرالمتمرد  ،كأنها تبحث من خلاله عن هاجس آخر،ولتجاوز عقدة الهوية التي كانت تعني لها الكثير من الاغتراب والاستلاب)،ثم يقول (ولأنها كانت معاصرة  لجيل متمرد ومغامر تمثل في شعراء جيلها المغامر الأول   أمثال السياب والبياتي ونازك الملائكة، لتجد نفسها وسط أسئلة أكثر صخبا،ووعيا أكثر انشدادا إلى مفاهيم الحرية والثورة والتمرد والبحث عن رؤى جديدة يمكن أن تتسع للإنسان الذي وجد نفسه أمام لغة جديدة، وأمام رؤى وتحولات عصفت بالواقع مثلما عصفت بالقصيدة).

ويقول الناقد العراقي عبد علي حسن إن الشاعرة “تعد أحد الأعمدة التي قام عليها المشروع التحديثي في الشعر العربي في أربعينيات القرن الماضي، وإنها كانت قريبة من الشعراء الرواد، خاصة بدر شاكر السياب،الذي كان زميلًا لها في دار المعلمين العالية،وتربطه بها علاقة تجاوزت الإعجاب إلى المحبة”. وأضاف أن تلك المرحلة كشفت عن ميل وتقبّل واستعداد للمساهمة في صياغة مشروع “قصيدة التفعيلة إلى جانب نازك الملائكة والسياب وبلند الحيدري وعبد الوهاب البياتي، وهو أمر واضح منذ صدور ديوانها الأول “الزاوية الخالية” عام 1960  ولفت إلى أنها “استطاعت أن تكرّس صوتها الأنثوي الخاص الذي يُعدُّ سابقة تتسم بالجرأة ووضوح الرؤية في المشهد الشعري العربي”، ويشير إلى أنها وبجرأتها تمكنت من “ولوج مناطق في مشاعر الأنثى لم يكن الدخول إليها أمرًا مألوفًا من قبل”. وعن قدرتها على صياغة مشاعر الأنثى ومخالفة التابوهات، يقول إنها “لم تكن تضع خطوطا حمراء أمام التعبير عن مشاعر المرأة المختلفة).

اماالكاتب رياض العلي  فيقول إن( لميعة تعد مؤسسة القصيدة الأنثوية العراقية، ومما يميزها هو عذوبة الإلقاء المحبب وسط إلقاء ذكوري باهت ومتشنج”، وتحدث عن المشهد الشعري العراقي من كونه لم يعرف شاعرات إلا في حالتين: “لميعة عباس عمارة ونازك الملائكة، وثمة فرق كبير بين الاثنتين) ويذهب العلي في توصيف حالة نازك إلى أنها “عانت من مشاكل نفسية كثيرة وتقلبات فكرية أثرت على شعرها وحياتها الشخصية، رغم انتمائها إلى طبقة برجوازية بغدادية”، ويذهب إلى حياة لميعة بوصفها “تنتمي إلى طائفة الصابئة المندائية، وتعود أصولها إلى مدينة العمارة الجنوبية الغارقة في لجة التاريخ والميثولوجيا الملهمة، التي أثرت كثيرًا على شخصيتها الشعرية، وتجسد هذا التأثير عندما حصلت على شهادة الدكتوراه في موضوع يخص تراث الصابئة المندائيين، وكذلك مقالاتها التي كانت تنشرها في مجلة (التراث الشعبي) عن اللغة المندائيةثم يستدرك فيقول أنه رغم أصولها الجنوبية فإنها تبغددت بحكم ولادتها في بغداد، وبحكم طبيعتها الميالة إلى الترف والدلع البغدادي المميز”.

اطلالة على رحلتها في الحياة

كان ميلاد لميعه عام 1929 في العاصمة العراقية ( بغداد) ،وابناء العواصم عادة يكونون اكثر انفتاحا على الثقافة والفكر والوان الفنون الاخرى ،عن اقرانهم من سكان الاقاليم، ولكن لقبها جاء من مدينة ( العمارة التي ينحدر منها والدها زهرون عمارة  ،وكان يعمل صائغا للذهب والفضة، وكان معروفا كما هي حال كثير من المشتغلين بهذه المهنة من الديانة الصابئية.

،ويبدو ان اصالة الفكر والادب كانت تتسم بالوفرة في عائلتها ،حيث نجد ان ابن خالها هو الشاعر الكبير( عبدالرزاق عبدالواحد ) وهو احد القمم الشعرية الكبيرة ،كما نجد ان حظها كان وافرا في كونها زاملت شعراء الحداثة الشعرية العراقية في دار المعلمين العاليه في بغداد فرع اللغة العربيه وحصلت على الاجازة عام 1055، كان من زملائها بدر شاكر السياب وعبدالوهاب البياتي. بدأت ارهاصاتها الشعرية مبكرا ،وكانت اولى محاولاتها وهي لم تبلغ الثانية عشر من العمر، وبثت تلك المحاولات الى صديق والدها الشاعر المهجري الاشهر ( ايليا ابو ماضي) ،ولم يمنعها بعد المسافة ان تراسله ،ونشرت لها مجلة ( السمير) أول قصيدة لها وهي مازالت في مرحلة الصبا في الرابعة عشر من العمر، وبمبادرة تشجيعية لها كتب ( ايليا ابوماضي) نقدا وتحليلا لنظمها وقال فيه (ان كان في العراق مثل هؤلاء الأطفال فعلي أي نهضة شعرية يقبل العراق ؟) برز صوتها الشعري، خلال مرحلة الخمسينيات من القرن الماضي  بل انه لم يُعرف داخل الوسط   الشعري العراقي من ألأصوات النسائية سواها ونازك الملائكة وآمال الزهاوي.وقد عاصرنا  موجة الحداثة التي ميّزت هذه المرحلة بأساليبها الفنية وتوجّهاتها الأيديولوجية المتعددة.كانت ( لميعه)طاقة لا تهدا ،وحركة نشطه تحوطها الأنظار ،ولذلك كانت مؤهلة لكي تشغل عضوية الهيئة الإدارية لــ “اتحاد الأدباء في بغداد” خلال الأعوام 1963- 1975،كما انها تولّتْ ايضا موقع نائب الممثل الدائم للعراق في منظمة اليونسكو في باريس بين عامي 1973 و1975.

تراثها الفكري

اسفرت رحلتها الشعرية والأدبيه عن مجموعة من الدواوين الشعرية منها ( الزاوية الخاليه) عام 1960 و( عودة الربيع) عام 1963،و( اغاني عشتار) عام 1960، و( يسمونه الحب) عام 1972 و( لو أنبأني العراف)عام 1980 و( البعد الأخير)عام 1988 ،بالأضافة الى كل ذلك كانت هناك عشرات المقالات والقصائد المنشورة وكذلك الكتب النقدية التي تناولت تجربتها الشعرية .يذكر الكثير من النقاد ان الشاعرة ( لميعه عباس عمارة) ان كانت قد تميزت بالشخصية المقتحمه في اعمالها للكثير من القضايا المسكوت عنها ،وابرزت مايمكن تسميته بالشعر الأنثوي ،في قوالب من الرومانسية المرهفة ،واللغة محكمة التراكيب والمفردات الا انها ايضا تميزت بالعذوبة في فن الالقاء ،مما جعلها تحتلمكانة ملحوظة في خارطة الشعر العربي كاحدى الشخصيات الشعرية النسوية .

الهجرة والرحيل

هاجرت الشاعرة ( لميعة عباس عمارة) من العراق عام 1978 ،واستقرت في الولايات المتحدة الأمريكيه ،الا من بعض الزيارات الخاطفه لبعض البلدان ،ومنها بريطانيا حيث استقبلت بحفاوة من الجالية العربيه، وقد توفيت عن عمر يناهز 92 عاما صباح يوم الجمعة  18 يونيو في مغتربها الأمريكي بمدينة سيغو على الساحل الغربي للولايات المتحدة، بعد أن تدهورت حالتها الصحية. وقد نعاها ابنها زكي على صفحتها ندي: “ببالغ الأسف والأسى أنبئكم بوفاة والدتي الشاعرة لميعة عباس عمارة.. خسارة لكلّ من عرفها من العراق وكل الدول العربية والعالم… الذين أحبّتهم وأحبُّوها. ستبقى ذكراها في وجدان كل من عرفها شخصيا، أو عبر أشعارها ودراساتها الكثيرة. هي التي بذرت فينا مخافة الله، ومحبة الناس، واحترام كلّ خلقه”. وأردف في رسالة نعيه أنّ والدته الشاعرة قد عانت في الأشهر الأخيرة، ولم تكن تأكل أو تشرب أي شيء، ولكن ظلّت في كامل قواها العقلية، وكانت تستقبل من يأتي إليها من الناس بابتسامة جميلة”.

رحلت لميعه عباس عماره، طوعا لقانون الحياة،اذ لابد من من خاتمة لرحلة العمر،ولكنها ستظل باقية طوعا لقانون الفن والموهبه والعطاء الذي اثمر هذا التراث من الاعمال . رحلت وبقيت فهي كانت مثلما كانوا كل الموهوبين الذين اثروا دنيانا ،وجملوا حياتنا ،وبثوا في ارواحنا البهجة والنور.

العدد 118 / تموز 2021