رحلة حبر خلف طفلٍ في الأنفاق

 الدكتور نسيم الخوري

أتوخّى توقيع حبري بالتحولات في الصراع العربي “الإسرائيلي”، لا على مستوى الإنقسامات العربية والإقليمية، ولا العلاقات العربيّة الإيرانيّة، ولا على مستوى الدول العظمى، وفي رأسها أميركا التي يحكّ جوزيف بايدن رأسها وأمامه التقارير الجديدة في مستقبل القدس وفلسطين. لنقل أن بين تموز2006 وغزة ال2021 وقع انفجار استرتيجي، وبان قطاع غزّة والجنوب اللبناني والمؤمنون يجدّدون البحث عن فلسطين تنفّض أذيالها من “صفقة العصر” التي سقطت أمام المقاومة المقيمة حتّى في حليب الأطفال منذ 7 قرون وكأنّه البارحة.

أمسٍ ضاعت فلسطين، وأضاع العرب وحدتهم، لتنسحب قضاياهم نحو مثلّث تركي إيراني”إسرائيلي” . وتُصبح المعضلة في تبعثرٍ النزاعات بين عرب الإمكان وعرب الإستحالة. لربّما أيقظت جرأة غزّة العالم بصفتها صاروخاً إنفجر في تل أبيب ورأس العالم. ذهول تمّ تدوينه حيال صعوبة طمس الصور والحقائق، وتقديراً للمستقبل ورث الجميع تبايناً حافلاً بالحيرة والتشتت في هندسة المواقف في الصراع التاريخي.

مال الوجدان الشعبي للتقاطع والتنسيق في تفاصيل الحربين/التاريخين، تطلّعاً لتصحيح الماضي وكأنّهم في ال 1948 مندفعين لفكرة المقاومة الخفيّة والمفاجئة والمتجاوزة للإستراتيجيات والقرارات الدولية الصادرة بلا نتائج. أضيف هنا معطىً مشاعيّاً يتمّ استثماره أعني الإنخراط العربي العام في الفضاء إعلاميّاً أبرزت الصور عبره فضائل العولمة وموروثاتها الكبيرة.

أغادر بعد التوقيع، بحبري متقفّياً طفلاً غزّاويّاً في صناعة الأنفاق. بدأ حفرها بأنامله الطريّة الترابيّة وصولاً لملامح حلم العصور بوطنه المعاند للضياع:

كان محمد الأسود المعروف ب جيفارا غزّة من لاجئي حيفا مسؤولاً للجبهة الشعبية في قطاع غزّة، وملاحقاً من قبل “اسرائيل”، وأحد القادة الأوائل الذين التمسوا، منذ السبعينات وبعد ترسيم الحدود بين مصر وفلسطين المحتلة عقب اتفاقية كامب دايفيد،”مهنة الموت” أو أسلوب حفر الأنفاق في نضال الفلسطينيين لتجاوز الحصار والملاحقات الإسرائيلية.

صحيح أنّ فكرة الأنفاق قديمة خبرها الفيتناميون بجدارة ضد أميركا، ومثلهم اللبنانيون في حرب “إسرائيل” ال 2006،  لكنّ الأنفاق الغزّاوية بقيت القلق المتداول في العالم. بدأ حفرها ممراتٍ سريّة للفارين من التعقّبات الإسرائيلية. كان الحفّار يُعرف “بالقطّاع” تتبعه رفوف الأطفال الصغار الجائعين ( 7 -15 سنة) لتعبئة الأتربة والرمال وحملها الى الخارج  ب”البايلة” الصغيرة الأحجام ثمّ بالبراميل المقصوصة لقاء 100$ لحفر مترٍ واحد.

تطورت ظاهرة الأنفاق مع الإنتفاضة الأولى في ال1987، لتمتد من غزّة المحاصرة،على خط  الحدود الى سيناء ومصر خارج الأراضي الفلسطينية، بما يجعل النفق وصلةً بين منزلين متقابلين على جانبي الحدود. مع قدوم السلطة الفلسطينية في العام 1994، وفي إطار تنسيقها الأمني  مع قوات الإحتلال، قامت “إسرائيل” بتدمير آلاف المنازل المحاذية للشريط الحدودي  الأمر الذي رفع، مع إندلاع انتفاضة الأقصى من أهمية صناعة الأنفاق التي صارت محوريّة. قد يتطلّب حفرها شهرين وأكثر، وعلى عمق يتراوح بين 13 و30 متراً تحت الأرض، ليصل طولها الى 1000 متر بعرض مترين. لطالما جاهرت اسرائيل عن خشيتها، بعد حرب غزّة وتدمير الكثير من الأنفاق، أن يعيد الغزّاويون بناءها وتوسيعها بالعرض بما يسمح من تمرير أسلحة لم تصل اليهم قبلاً.

كانت تصل كلفة النفق الى 60 ألف دولاراً يتمّ دفع نصف الثمن لصاحب البيت المُعتمد كبداية للنفق أو “ذيله” حسب التسمية الغزّاوية، ويُدفع الباقي لمجموعات الحفر المعروفة ب”الأرنب” والحفارين الأطفال والعمال والمهندسين. كان يحقّق مالك النفق أرباحاً تصل الى أكثر من 50000 شهرياً. هكذا ازدهرت “استراتيجيات الأنفاق” من حيث بنائها وتجهيزها بالفتحات اللازمة بما يجعلها أقل عرضة للسهولة في الردم أو التهديم، وبات عدد الأنفاق بين رفح الفلسطينية والمصرية قبل حرب ال2008 على غزة 1200 نفقاً لها أكثر من 870 مدخلاً في الأراضي المصرية. وراح يُقدم كبار التجار على شراء الأنفاق بأسعارٍ قد تصل أحياناً الى 150 ألف دولاراً.

ساعد مصريو الحدود من البدو ورجال الأمن المصريين، بغضّ الطرف عن حركة الأنفاق، مدفوعين بالرشوة لفقرهم أحياناً كما لصلات النسب تربطهم مع عائلات الفلسطينيين، يُعرف واحدهم ب”الأمين” بلغة الأنفاق، ويقتصر دوره بالسهر على باب النفق أو “رأس الأفعى” بلغة الأنفاق، مقابل حصص مالية وعينية تأميناً للمتنقلين في هذه الأنفاق ذهاباً وإياباً عند الحفر أو عند نقل المواد الغذائية والبضائع والأدوية وقطع غيار السيارات والأجهزة الإلكترونية وحتّى المحروقات لسدّ حاجيات أهل غزّة.

تغيّرت المعطيات، بدءاً من العام 2000، ، وبدأ الفلسطينيون بنقل الأسلحة والذخائر التي كانت تتدفق، عبر الأنفاق، مع اشتداد الحصار الذي بلغ أعلى وتيرته مع انسحاب “اسرائيل” من القطاع صيف 2005، وسيطرة حماس عليه في تموز/يوليو2007، وهكذا تدفّقت الصواريخ الإيرانية والروسية كما الصواريخ المضادة للطائرات، بالإضافة الى أطنان مادة “تي أن تي” والمتفجرات الضرورية لإشعال الصواريخ التي كانت تنقل مفككة الى قطعٍ صغيرة، ليعاد تركيبها في الداخل وصولاً لصناعة الصواريخ والقذائف المحليّة.

أخرج من الأنفاق بكلمات أربع: صحيح أنّ سيطرة حماس على غزّة، حولت طرائق التعاطي مع ظاهرة الأنفاق، عبر معبر رفح، بين الفتح والإقفال أو تدمير الأنفاق كمادة سياسية يمكن استخدامها في توتّرالعلاقات المتوترة بين غزّة ورام الله فيفتح النفق ويغلق مؤشّراً لفتح الحوارات وانقطاعها، وصحيح إنّ رفع الأغطية عن صناعة الأنفاق يكشف تاريخاً مضمّخاً بالكوارث والأمراض والفقر والعذابات والقهر الذي يعانيه مليون ونصف بشري محشورين في  45 كلم من مساحة فلسطين التاريخية يتحركون في مربع مدينة غزّة، وصحيح بأنّ فلسطين لا تُنسى مقيمة مدى الأجيال، لكنّ الأصحّ أنّ على “إسرائيل” أن تنسى فكرتين لم تستطع خلعهما من رأسها: بناء جدار يروح في عمق الأرض بين غزّة ومصر أو إقامة سدٍّ مائي كبير تنهار فيه الأنفاق، لأنّها أمام واقع جديد يتجدّد.

كاتب وأستاذ مشرف في العلوم السياسية والإعلاميّة – المعهد العالي للدكتوراه

العدد 118 / تموز 2021