أفغانستان.. هدية أميركا المفخخة

طالبان تعود إلى السلطة وسط قلق إيران وروسيا وباكستان والهند والصين

محمد قواص

حمّلت إدارة الرئيس جورج بوش الإبن نظام طالبان في أفغانستان مسؤولية استضافته لتنظيم القاعدة الذي ارتكب جريمة الهجمات الإرهابية الشهيرة في 11 أيلول (سبتمبر) من عام 2001. رفضت طالبان تسليم زعماء القاعدة، لا سيما أسامة بن لادن، ولم تجد إدارة واشنطن بداً من الرد بقوة في مكان ما للانتقام من مرتكبي الكارثة التاريخية التي حلت بالبلاد في ذلك العام. فكان أن قادت واشنطن تحالفا دوليا لاسقاط نظام طلبان عام2001 وإلحاق الأمر باسقاط نظام صدام حسين في العراق عام 2003.

فيتنام – أفغانستان

مضى عشرين عاما مذاك. تبدلّت أمور كثيرة في هذا العالم واكتشفت واشنطن مرة أخرى بؤس خياراتها وخواء خططها الاستراتيجية الطويلة الأمد. بدا أن واشنطن تقارب قضايا العالم بانفعالية الهواة وتشخصن المعضلات وتسلك منافذ متهورة تدفع أميركا ثمنها مالا وهيبة وجنودا، ولا تترك بعد فعلتها إلا البؤس والدمار والكوارث. هذا كان شأنها في العراق وهذا شأنها تماما في أفغانستان.

لم تنسحب الولايات المتحدة من أفغانستان بل قررت إعادة البلد إلى سلطة حركة طالبان كما كان الأمر عليه قبل الغزو الأميركي عام 2001. تقرّ واشنطن، في عهد إدارة جو بايدن، بهزيمتها الأفغانية بعد أكثر من ثلاثة عقود على هزيمة الاتحاد السوفياتي وانسحابه من هذا البلد عام 1989. وعلى الرغم من الخطاب “الملائكي” للرئيس الأميركي، في

بايدن: حان وقت إنهاء الحرب في أفغانستان

14 نيسان (أبريل) الماضي، بالإعلان أنه “حان الوقت” لانهاء الحرب في هذا البلد، فإن الحدث يمثّل فشلاً سياسيا واستراتيجيا وفكرياً وأخلاقيا ينال مباشرة من هيية أميركا وقدراتها على تغيير التاريخ، كما يشوّه حكايتها التي انتشى لها فرنسيس فوكوياما حين استنتج “نهاية التاريخ” في ملحمة قهر “الخير” الأميركي لـ “الشر” الشيوعي في ذلك البلد.

ثمّة تشابه خبيث في التجربة الأميركية في أفغانستان بتلك في فيتنام. حتى الانسحاب الليلي غير المعلن من قاعدة باغرام الشهيرة في 2 تموز (يوليو) الجاري، ودون أي تنسيق مع السلطات المحلية التي سارعت لوقف أعمال النهب، يُذكّر بمشهد الهروب المذّل من فيتنام في صيف 1973. في الحالتين روّجت الولايات المتحدة لعناوين الدفاع عن الليبرالية والحرية والعدل، فانهزمت، وتركت البلدين لحالهما ومصيرهما دون أن تترك التجربة الأميركية في الحالتين امثولات ودروساً يمكن أن تكون زادا يضاف إلى انجازات “الحلم الأميركي” في العالم.

وقد تبدو الهزيمة الأفغانية أكثر قتامة من حيث أن واشنطن تتخلى عن الحكومة الأفغانية الحليفة (رغم وعود بغير ذلك واسترضاء بايدن للرئيس الأفغاني أشرف غني باستقباله في البيت الأبيض قبل أيام)، وتفشل دون عناء في إقامة تسوية، ولو مرحلية، في هذا البلد، وتتقصد إهمال أي تعاون دولي لإخراج صيغة لا تحفظ ماء وجه سلطة كابل فقط، بل تحفظ ماء وجه أميركا في الخروج من المستنقع الأفغاني.

ألغام الإنسحاب

لم ترضَ واشنطن البعيدة بالتخلي عن أفغانستان لصالح تسوية مُسبقة ومُنسّقة مع العواصم القريبة، بل تقصدت أن تترك البلد مفخخا يقضّ مضاجع بلدان الجوار ويضعهم جميعاً أمام المجهول. وسواء كان هذا المجهول واعداً بالنسبة لباكستان التي لم تتخل يوما عن تحالفها مع طالبان والتعويل على عودتهم للسلطة، فإن دولا مثل الصين وروسيا والهند وإيران، والتي قاربت أفغانستان وفق الستاتيكو الأميركي فعمل بعضها على مناكفته وبعضها الآخر على

الانسحاب المتسرّع يذكر بالانسحاب الاميركي المذل من فيتنام

التعامل معه، ستجد نفسها متقابلة متنافسة متنافرة في خرائط النفوذ الجديدة التي قد تتمتع بواشنطن بتأمل فوضاها وعبثها.

والحال أن سيطرة حركة طالبان على السلطة في أفغانستان هي مسألة وقت فقط. تشي بديهيات الأمور بذلك، ويؤكد انقلاب موازين القوى ذلك، ويوحي ثبات خطاب الحركة وعدم قبولها أية تسويات بالاتجاه صوب ذلك. لسان حال طالبان يقول: أتيتم إلى أفغانستان بقواكم الجبارة وقلبتم حاكمها، فإذا ما ذهبتم وقواكم الجبارة يعود حاكمها. وسواء اكتسحت طالبان ما تبقى من أفغانستان وأسقطت المدن الكبرى واحدة تلو أخرى، أو تقاتلت بضراوة مع حكومة كابل، أو انخرطت في صراعات عرقية (بين بشتون وطاجيك وهزارة وأوزبك وغيرها)، أو أوجدت والرعاة الجدد المحيطين بالبلد صيغة تسووية محتملة للحكم، فإن حركة طالبان ستكون صاحبة القول الفصل دون أي منازع.

وفيما لا يكشف خطاب حركة طالبان الكثير عن علاقات أفغانستان الطالبانية المقبلة مع العالم، إلا أن احتمال تناقض نفوذ اللاعبين الجدد بعد انسحاب الولايات المتحدة، يطرح أسئلة حول موقع الحركة على رقعة صراع الأمم، خصوصا ذلك التقليدي بين الهند وباكستان، أو ذلك المكتوم بين روسيا والصين، أو ذلك الملتبس في علاقة طالبان العقائدية مع إيران (بعد انتفاء الحاجة للتقارب بزوال الوجود الأميركي)، أو في ما يمكن أن يتبقى لتركيا لتجنيه وتحظى بقطافه. والسؤال الأكبر سيدور حول وظيفة الانسحاب الأميركي داخل خريطة الصراع الاستراتيجي الكبير بين واشنطن وبكين.

سقوط الإيديولوجيا

يؤشّر الحدث إلى دينامية انكفاء أميركي قد تشهد بعض ارهاصاتها مناطق أخرى في الشرق الأوسط. تتخلى الولايات المتحدة عن خططها لصناعة عالم على مقاسها ينهل من خزانات الدفاع عن الحرية وحقوق الإنسان وفرض الديمقراطية وفق المعايير الأميركية. ليس الأمر جديداً، ذلك أن واشنطن تخلت قبل ذلك عن “الشرق الأوسط الجديد” وعما كانت تعوله على “الثورة الخلاقة” هناك. تنتقل الولايات المتحدة من موقع “صناعة التاريخ” إلى موقع التسليم

طالبان تستعيد الحكم بعد عقدين

بالأمر الواقع والتعامل معه ببراغماتية ميكيافيلية، بحيث تُخضع أميركا خياراتها لسلطة المصالح شتان شكل ومضمون الأنظمة السياسية المقابلة.

ينسحب الأمر على صراع واشنطن مع الصين وروسيا. يغيب خطاب أيديولوجي مضاد لنظامي البلدين على منوال ما كان منتهجاً خلال الحرب الباردة. يتصاعد الغضب الأميركي من الدولتين على قواعد تتعلق بالأمن والاقتصاد والأدوار الجيوستراتيجية، ويخلو هذا الغضب من أي مضمون عقائدي أو أيديولوجي. وفق ذلك يمكن قراءة “تسليم” الولايات المتحدة أفغانستان لحركة جهادية إسلامية ستجد واشنطن لها أعذاراً وفتاوى، وربما اتفاقات غير معلنة، لتمييزها عن جماعات الإرهاب من داعش إلى القاعدة وما بينهما. حتى أن الجنرال كينيث ماكينزي، قائد القيادة المركزية الأميركية، لم يخف إعجابه، العام الماضي، بقدرة طالبان على سحق داعش في ولاية ننغرهار “بدعم محدود جداً من جانبنا”، على حد قوله!!

تدعم أميركا طالبان في الحرب ضد داعش، ولا عجب أن يتطور هذا الدعم ويصبح مفصليا حين تسود الحركة مشهد السلطة في أفغانستان. خلقت الولايات المتحدة نظاما دوليا جديدا حين غزت أفغانستان وأتبعت ذلك بغزو العراق. تفكك واشنطن جزئيا هذه الأيام هذا النظام طارحة أمام بقية اللاعبين الكبار لا نظاما لم يكن في الحسبان. وقد لا يكون من المبالغة الدعوة إلى تأمل الحدث الأفغاني بصفته مفترق طرق يبدل خطوط الخرائط ويعيد ترتيب الصفوف بحيث أن من رأى في مفاعيل الغزو عام 2001 أعراضا لـ “نهاية التاريخ”، قد يقرأ في الحدث كتابة لتاريخ آخر.

حروب الآخرين

في الولايات المتحدة من يرى أن الفوضى والحرب الأهلية والكوارث التي ستنتج عن الانسحاب الأميركي في أفغانستان لا تضرّ بمصالح الولايات وأمنها الاستراتيجي. فإذا لم يكن الأمر كذلك، فواشنطن تسعّر بركانا متفجراً قد تهدد حممه طموحات الصين وخططها لمدّ طرقها ومنازعة أميركا النفوذ والثروة في العالم. قد لا يكون الأمر كذلك، لكنه حتماً سيكون محدِّدا لمسار صراع القرن بين واشنطن وبكين.

لافت أن يدعو الرئيس الأفغاني السابق حامد كرزاي إلى عدم مقاتلة حركة طلبان لأن “الصراع أجنبي الأجندة

إيران تحاول التودد لطالبان وردع الفوضى الأفغانية

والأهداف”. هنا فقط بيت القصيد. تغادر الولايات المتحدة أفغانستان معوّلة على أن تستعيد نفوذا داخل هذا البلد بسبب صعوبة أن تتفق دول الجوار على نظام إقليمي يوفر لأفغانستان استقرارا وتآلفا وازدهارا. البلد صعب معقّد قد لا يتيح لطالبان أن تهنأ بسلطان يسود كامل مساحة البلد. البلد منقسم بين قبائل وأعراق وطوائف، ولهذه التقسيمات امتدادات تتجاوز حدود البلد وتخضع لاجندات دول نافذة لن تتخلى عن طوحاتها للخصوم. هي حرب الآخرين التي لا يمتلك الأفغان إلا الانخراط بأتونها.

إيران وأفغانستان الجديدة

على خلاف ميادين الصراع التقليدية التي استحوذت على اهتمام الطرفين الإيراني والأمريكي، والحديث هنا عن مضيق هرمز وخليج عُمان وغيرها، فإن أفغانستان شكلت بنظر إيران إحدى أبرز البيئات الإستراتيجية التي يمكن إحراج الولايات المتحدة فيها.

وفي الوقت الذي تجاهد فيه الولايات المتحدة لإبقاء قواعد الصراع مع إيران ضمن ميادين تقليدية معروفة، فإن بنك الأهداف يبدو أكثر مرونة أمام إيران، وذلك بفعل طبيعة انتشار حلفاء إيران على عدة مسارح عسكرية، تمتد من جنوب شرق آسيا حتى البحر الأبيض المتوسط، وهو ما يجعل أفغانستان ذات أهمية كبيرة لإيران في استفزاز الإدارة الأمريكية الجديدة.

شكل اتفاق السلام الذي وقعته الولايات المتحدة مع حركة طالبان أحد أبرز التحولات الإستراتيجية في منطقة جنوب شرق آسيا، الذي يقضي بسحب القوات الأمريكية، وهي رغبة أمريكية أعلنتها إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن مؤخرًا، ما يشير إلى حالة إرهاق أمريكي من حرب لا منتصر فيها في أفغانستان.

ونظرًا للمواقف المترددة لقيادات حركة طالبان من هذا الاتفاق، ما يرشح فرضية انهياره في أي لحظة مستقبلًا، فإن إيران هي الأخرى ليس لديها تصور واضح عن طبيعة الموقف المستقبلي في أفغانستان أيضًا.

وفي هذا الإطار، مثل تحالف القبائل في شمال أفغانستان أحد أبرز حلفاء إيران في الساحة الأفغانية، إلى جانب مليشيات فاطميون (شيعة الهزارة)، فقد تمكن قائد فيلق القدس الإيراني إسماعيل قآني من نسج علاقات تحالف

ما الذي تملكه روسيا في أفغانستان

عسكري وثيق معهم خلال سنوات الحرب الأهلية في تسعينيات القرن الماضي، وعلى الرغم من التنسيق الإيراني الأمريكي، لتحقيق الاستقرار في الساحة الأفغانية خلال تلك الفترة، فإنه بعد هجمات 11 سبتمبر/ أيلول 2001، وإعلان الإدارة الأمريكية عن محور الشر، الذي يضم إيران إلى جانب العراق وكوريا الشمالية، أدى هذا الإجراء الأمريكي إلى إنهاء التنسيق الاستخباري بين الطرفين، والتحول من حالة التعاون إلى حالة الصراع في أفغانستان.

من المتوقع أن إيران ستواجه مزيدًا من التحفظ في حدودها الشرقية، وترسيخ مركزية الجماعات المحلية الحليفة لها في الداخل الأفغاني

وشكل إعلان انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان مؤخرًا، هدفًا إيرانيًا مهمًا لمرحلة ما بعد اغتيال قائد فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني، وهو هدف مرتبط بهدف آخر متمثل بجهود إيرانية لتحقيق انسحاب القوات الأمريكية من العراق أيضًا، هذه القوات التي لطالما ألقت طهران باللوم عليها، في استهدافها واستهداف حلفائها في المنطقة، فانسحاب قوات حلف الشمال الأطلسي بقيادة الولايات المتحدة من أفغانستان، يمكن أن يفسح المجال لإيران للمناورة في أفغانستان، البلد الذي لديه قواسم مشتركة مع إيران.

إلا أن التساؤل المهم هنا: ماذا لو أدى الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، إلى عودة دوامة الفوضى والصراع مرة أخرى إلى أفغانستان؟

الأمر الذي ينبغي الإشارة إليه، رغم تأكيد الإدارة الأمريكية على مصطلح “الانسحاب المسؤول” من أفغانستان، لا ضامن حتى اللحظة من تطبيع الأوضاع في هذا البلد بعد الانسحاب، بل إن تكرار سيناريو الانسحاب الأمريكي من العراق عام 2011، قد يجد طريقه إلى أفغانستان مجددًا، في حالة لم تكن هناك التزامات أمريكية واضحة حيال هذا البلد.

وعلى الجانب الإيراني، فمن غير المرجح أن تواجه إيران مرة أخرى فيضانًا من المشكلات الإنسانية والأمنية من أفغانستان، بالطريقة نفسها التي أدت بها الحرب الأهلية الأفغانية سابقًا، أو حتى الحرب في أفغانستان عام 2011، إلى طوفان من اللاجئين الأفغان، وهو ما يجعل إيران هي الأخرى متشككة من تداعيات ما بعد الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، إذ إن التحديات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تعاني منها اليوم، ستجعلها أمام مشهد معقد للغاية.

ورغم أن انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان، سيخلق فراغًا في السلطة، ويمنح طهران مجالًا أكبر لزيادة نفوذها، سواء من خلال المسؤولين الأفغان أم الجماعات المسلحة القريبة منها، بما في ذلك حركة طالبان، فإنه بالمجمل ليس

ما وظيفة أفغانستان المقبلة في الصراع الأميكي الصيني؟

من الواضح إلى أي مدى ستسعى إيران لتوسيع مصالحها في أفغانستان، وكيف ستتعامل مع مخاوفها التي يأتي في مقدمتها تحدي الهجرة وضبط الحدود.

من المتوقع أن إيران ستواجه مزيدًا من التحفظ في حدودها الشرقية، وترسيخ مركزية الجماعات المحلية الحليفة لها في الداخل الأفغاني، والأهم من كل ما تقدم، التعامل بحذر مع فراغ السلطة الذي سينشأ في أفغانستان بعد الانسحاب الأمريكي، وهو ما أشار إليه وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف في مقابلة له عبر الإنترنت الأسبوع الماضي، مع مسؤولين أفغان وهنود، معتبرًا أن الانسحاب الأمريكي من أفغانستان بمثابة حرب جديدة، ولا يمكننا تحملها مع وجود 3 ملايين لاجئ أفغاني في إيران، فليس باستطاعة إيران فعل المزيد فيما لو تكررت الحالة.

إن إحدى فرضيات الانغماس الإيراني المباشر في الحالة الأفغانية، هي إمكانية عودة نشاط تنظيم داعش بعد الانسحاب الأمريكي

إن التعقيد الذي تواجههٌ الحالة الإيرانية في أفغانستان، سيجعل إيران تمارس دور الإطفائي لأي تصعيد مفترض في الداخل الأفغاني، سواء عبر دعم جهود حلفائها لضمان الاستقرار وتعزيز أمن الحدود أم ربط الاستقرار في أفغانستان ضمن مسارات الحوار الحاليّ في فيينا مع الولايات المتحدة، وإجمالًا فإن الاستجابة الإيرانية للحالة الأفغانية ستعتمد على درجة التهديد الذي ستواجهه طهران مستقبلًا.

وهنا يمكن القول إن الروابط التي تؤطر العلاقات بين إيران وحركة طالبان من جهة، والقاعدة العسكرية التي يمثلها لواء فاطميون الأفغاني من جهة أخرى، تشكل خيارات إيرانية متعددة لضبط الإيقاع الأفغاني حسب التوجه الذي تريده طهران، كما يمكن لإيران إعادة تأسيس محور إيران وروسيا والهند، لدعم انتقال سياسي جديد في أفغانسان بعيدًا عن الرؤية الأمريكية.

إن إحدى فرضيات الانغماس الإيراني المباشر في الحالة الأفغانية، هي إمكانية عودة نشاط تنظيم داعش بعد الانسحاب الأمريكي، إذ حذر ظريف في بيان أصدره في 16 من أبريل/نيسان، من وجود تنظيم داعش في أفغانستان، وأشار إلى أن التنظيم تبنى حتى الآن مسؤولية عدد من الهجمات القاتلة في أفغانستان، وقال ظريف: “نشهد الآن دور داعش، لا نعرف من يدعم داعش في أفغانستان، بالطبع، لدينا بعض الأدلة الموضوعية عن الأشخاص الذين خططوا لنقل داعش من العراق وسوريا إلى أفغانستان”، وأضاف “داعش خطر على أفغانستان وإيران وباكستان والجميع، لذلك لدينا تهديد مشترك”.

حسابات الكبار

بسبب الانسحاب المتسرّع والفجائي لقوات حلف “الناتو”، استطاعت “طالبان” أن تكتسح عدداً من المناطق الأفغانية. واللافت هو ما تقوم به “طالبان” من تحسين علاقاتها بدول الجوار، والتأكيد أن ليس من أهدافها المسّ بالاستقرار الإقليمي. وقامت، لهذا الغرض، بالتواصل مع كل من روسيا والصين وإيران، التي استضافت موتمراً للحوار الأفغاني، دعت فيه طرفي الحوار (الحكومة الأفغانية و”طالبان”) إلى السلام وتقاسم السلطة. ورحّب وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف بما سمّاه “الهزيمة الأميركية” في أفغانستان.

الصين

اجتاحت “طالبان” مقاطعة بدخشان الشمالية الشرقية، ووصلت إلى الحدود الجبلية مع منطقة شينجيانغ الصينية. لطالما نظرت الصين إلى “طالبان” بعين الحذر والعداء، بعد أن دعمت “طالبان” الجماعات المسلّحة الإيغورية في شينجيانغ وتعاونت معها. أمّا اليوم، فقامت “طالبان” بإرسال رسائل واضحة إلى بكين، عبر باكستان، أظهرت فيها حسن النية، وعبّرت عن أملها في أن تؤدّي الصين دوراً أكبر في أفغانستان بعد رحيل الأميركيين. وبما أن الصين لا يعنيها كثيراً ملف حقوق الإنسان، ولا تتدخل في كيفية حكم البلاد التي تتعامل معها استثمارياً، فمن المحتمل أن تكون العلاقات بين “طالبان” والصين مرشَّحة للتعاون في المستقبل. تحتاج “طالبان” الى الاستثمارات الصينية لتعزيز الاقتصاد، الأمر الذي يسهّل لها إخضاع الأفغان وفرض الحكم الإسلامي، بينما التعاون مع الحكم الأفعاني المقبل، والذي ستسيطر عليه “طالبان”، سيعزّز النفوذ الصيني في المنطقة.

روسيا

لطالما خشي الروس التمدد الإسلامي في محيطهم الجغرافي، وتأثيره في الحركات الانفصالية في الاتحاد الروسي، فشجعوا إطاحة “طالبان” في السابق. اليوم، يتعامل الروس بحذر مع التطورات الناتجة من الانسحاب الأميركي، وعبّروا عن استعدادهم لتعزيز نفوذهم العسكري في طاجيكستان، تنفيذاً لمعاهدة الأمن الجماعي، والتي تضمّ روسيا وخمس دول سوفياتية سابقة أخرى، وأعلن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف أن موسكو مستعدة لاستخدام قاعدتها العسكرية في طاجيكستان، إحدى أكبر قواعدها العسكرية في الخارج، من أجل ضمان أمن حلفائها في المنطقة.

في المقابل، زار وفد من “طالبان” روسيا، مبدياً رغبة في التعاون مع موسكو، ومؤكداً عدم الرغبة في المسّ بالاستقرار في المنطقة.

أميركا

تبقى منطقة وسط آسيا ذات نفوذ استراتيجي مهم بالنسبة إلى الأميركيين، ومهمة للتأثير في طريق الحرير الجديد الذي تنفّذه الصين براً، ويربط الصين بأوروبا والعالم. لذا، يبحث الأميركيون في إمكان إنشاء قواعد عسكرية في الدول المجاورة في آسيا الوسطى، بديلة من تلك التي أخلوها في أفغانستان.

لا تبدو الخيارات الأميركية كبيرة في هذا المجال، فلقد قام المبعوث الأميركي الى أفغانستان، زلماي خليل زاده، بزيارة منطقة وسط آسيا في أيار/مايو الماضي، للبحث في إمكان إنشاء قواعد عسكرية في الدول المجاورة لأفغانستان.

في هذا الإطار، تقوم تلك الدول بموازنة دقيقة لمصالحها، بين كل من روسيا والصين والولايات المتحدة الأميركية، آخذةً في عين الاعتبار المصالح الحيوية والاستثمارية والحدود المشتركة مع كل من روسيا والصين، وتهديد “طالبان” بالانتقام من الدول التي تستضيف القوات الأميركية المنسحبة، بالإضافة الى الشكوك في التزام الولايات المتحدة أمنَ حلفائها، وخصوصاً بعد تخليها المفاجئ عن أفغانستان وترك المتعاملين مع قوات “الناتو” لمصيرهم.

وهكذا، تبحث الولايات المتحدة الأميركية في إمكان إبقاء قواتها في المنطقة لاحتواء الروس والصينيين. لكن دونَ هذا الهدف عدة صعوبات. وفي هذا الإطار، هناك سيناريوهات ثلاثة:

أن تضغط روسيا والصين على الدول المجاورة لمنع الولايات المتحدة من تأسيس قاعدة عسكرية لها في منطقة آسيا الوسطى، وهذا سيُعتبر ضربة للاستراتيجية الأميركية في المنطقة، وخطة احتواء الصين وروسيا، وتخلياً عن منطقة حيوية وأساسية في الصراع الجيوبوليتكي العالمي.

أن تستطيع الولايات المتحدة إقناع إحدى الدول المجاورة بالقبول بتأسيس قاعدة عسكرية، وبالتالي إدخال تلك الدولة في صراع محاور، ما سيسبب لها كثيراً من عدم الاستقرار الداخلي. ونتيجة الضغوط الروسية على تلك الدول، والتي يتقنها بوتين جيداً، تقوم تلك الدول بداية باستضافة القوات الأميركية، ثم تقوم في ما بعد بابتزاز الأميركيين، تحت وطأة المطالبة بالانسحاب، كما حدث مع قيرغستان في السابق (على سبيل المثال لا الحصر). وبالتالي، سيسبّب هذا الأمر قلقاً لإدارة بايدن، التي ستضطر إلى التعاون مع مجموعة من الحكّام الديكتاتوريين، الأمر الذي سيقوّض ادعاءات بايدن الأيديولوجية (الديمقراطية في مقابل الديكتاتورية).

أن يتعاون الأميركيون مع بوتين، للسماح لإحدى الدول المجاورة لأفغانستان (طاجيكستان أو أوزبكستان) باستقبال قاعدة أميركية على أرضها، وهذا من الصعب على بوتين قبوله، إلاّ في حال قدّم الأميركيون إغراءات إلى روسيا بمكاسب في أماكن أخرى، ووعود بعدم استخدام تلك القواعد للمسّ بالأمن القومي الروسي.

العدد 119 / اب 2021