الارتفاع المفاجئ للتضخم يخرّب خطط “الفدرالي”

محافظو “الاحتياطي” منقسمون بين مؤيد لزيادة أسعار الفائدة ومعارض لها

من يضمن بأن يستمر باول في قيادة السياسة النقدية بحلول العام 2023؟

هلا صغبيني

مفاجأةٌ غير محسوبة كانت توقعات مجلس الاحتياطي الفدرالي رفع أسعار الفائدة من مستواها الحالي شديد الانخفاض في وقت أبكر مما كان مخططاً له سابقاً. هذا التغيير الكبير في لهجة توقعاته مرتبطٌ بتنامي معدلات التضخم التي بلغت سقفاً يفوق ما كان الاحتياطي الفدرالي يعتبره “تحت السيطرة”. فجاءت توقعات الاحتياطي الفدرالي بمثابة “جرس إنذار” للسوق حول استجابته المحتملة لارتفاع التضخم عبر رفعه أسعار الفائدة وبدء تقليص مشترياته من الأصول.

لقد ساعدت السياسة التي بدأ الاحتياطي الفدرالي باتباعها منذ بدء أزمة وباء كورونا في مارس (آذار) من العام الماضي، على صعيد معدل الفائدة المنخفض والتي حدّدها بالقرب من الصفر، في تحقيق انتعاش سريع من الركود الذي سجّله أكبر اقتصاد في العالم. فهذه السياسة أبقت القروض الاستهلاكية والتجارية أرخص، وجعلت الأسهم

توقعات “الفدرالي” تضع الأسواق في حالة من القلق

المتداولة في “وول ستريت” أكثر جاذبية للمستثمرين مع انخفاض أسعار الفائدة والعوائد على السندات الحكومية. لكنّ التغير في لهجة “الفدرالي” يأتي بدافع من انتعاش اقتصادي أقوى بكثير وتضخم أكثر حدة مما توقعه قبل بضعة أشهر فقط.

ففي مارس (آذار) الماضي، أعلن صانعو السياسة الأميركيون أنّ معدل الفائدة لن يشهد أي زيادة حتى العام 2024 على الأقل. لذلك، فإن ما كشف عنه لتوقعات اللجنة الفدرالية للسوق المفتوحة، وهي اللجنة المسؤولة عن تحديد السياسات النقدية ضمن مجلس الاحتياطي الفدرالي، حول رفع الفائدة مرتين بحلول العام 2023، كان نوعاً ما مفاجِئاً للأسواق. وهو ما يُقرأ منه توجهٌ محتّم لـ”الفدرالي” على طريق خفض الدعم الكمي البالغة قيمته الشهرية حالياً 120 مليار دولار في وقت أقرب مما كانت تنتظره الأسواق.

توقع اللجنة حول مصير أسعار الفائدة عقب اجتماع السادس عشر من يونيو (حزيران) الماضي، جاء نتيجة رفع توقعها بالنسبة للتضخم. فمؤشر الأسعار للإنفاق الشخصي على الاستهلاك – وهو المؤشر المُفضل لـ”الفدرالي” لاحتساب التضخم – يتوقع أن يبلغ 3.4 في المئة هذا العام، أي بارتفاع نسبته 1 في المئة كاملة عن آخر توقعاتها للتضخم، والتي كان أصدرها المجلس في مارس (آذار) الماضي (2.4 في المئة). وهو ما يشكل أعلى مستوى للتضخم منذ العام 1992. أما الأسباب التي أدت الى هذا الاستنتاج هي زيادة بنسبة 5 في المئة في مؤشر أسعار

مسؤولون في “الاحتياطي” يتخوفون من فقاعة في القطاع العقاري

المستهلك؛ والارتفاع القياسي في مؤشر أسعار المنتجين بنسبة 6.6 في المئة، وهو أعلى بكثير مما شهدته الولايات المتحدة منذ ما قبل الأزمة المالية على الأقل. وقد تركزت الضغوط التضخمية إلى حد كبير في السيارات المستعملة والفئات المرتبطة بإعادة فتح الاقتصاد، مثل تذاكر الطيران، كنتيجة طبيعية لحصول الأميركيين على اللقاح وعودتهم إلى أنماط حياة أكثر طبيعية قبل انتشار الوباء.

تباينات داخلية

لكن توقعات اللجنة المفتوحة التي بنيت على أساس الرسوم البيانية أو ما يعرف تحديداً باسم “مخطط النقاط”، اثارت كباشاً وتباينات بين محافظي “الفدرالي”. فمنهم مَن عارض تضييق السياسة النقدية الحالية ومنهم مَن أيّد هذا الاجراء.  وهو ما أبرزته الوثائق المنشورة بعد اجتماع اللجنة. فـ 13 من أعضاء اللجنة الـ18 رأوا أن هناك حاجة محتملة لمعدلات أعلى بحلول نهاية عام 2023، وسبعة من بين هؤلاء الـ13 رأوا الحاجة لبدء رفع أسعار الفائدة في أقرب وقت في العام المقبل. فيما الباقون عارضوا هذا الأمر مطلقاً.

وهو ما يمثل تحولاً ملحوظاً عن المرة الاخيرة التي حصل فيها تحديث للتوقعات في مارس (آذار) حين توقع 11 من المسؤولين الـ18 أنه لن تكون هناك حاجة لزيادة الأسعار قبل العام 2024. كما أظهرت الوثائق أن 13 من أصل 18 رأوا أن المخاطر على توقعات التضخم لديهم مرجحة في الاتجاه الصعودي، وهو أعلى رقم منذ أن بدأ المصرف المركزي بنشر تلك البيانات عام 2011.

محافظ الاحتياطي الفدرالي عن ولاية دالاس، روبرت كالان، رأى أن الاقتصاد قد يواصل تقدمه بسرعة أكبر من المُتوقع نحو تحقيق أهداف “الفدرالي” ليبدأ في تقليل معدل دعمه الكمي في وقت أسرع من المُتوقع. وهو الامر نفسه الذي عبَر عنه محافظ الاحتياطي الفدرالي عن ولاية أتلانتا، رافيل بوستيك. كلاهما يعتبران أن احتواء التضخم يجب أن يكون من خلال تقليص الدعم الكمي. لكن موقف كالان وبوستيك لن تكون له نتائج ملموسة. فهما ليسا حالياً عضوين مصوّتين في اللجنة الفدرالية للسوق المفتوحة (12 عضواً مصوتاً) برئاسة رئيس الاحتياطي جيروم باول.

لذا، كان واجباً ترصد تصريحات محافظي الاحتياطي الفدرالي في الولايات الاخرى الفاعلين في السوق المفتوحة. فمحافظ الاحتياطي الفدرالي عن ولاية سانت لويز والمُصوت الاحتياطي للجنة حالياً، جيم بولارد، قال إنه “من الممكن أن يؤدي تواصل ارتفاع التضخم خلال العام المقبل الى دفع الفدرالي لبدء رفع سعر الفائدة العام المقبل من دون الانتظار الى العام 2023”. أما رئيس الاحتياطي الفدرالي في بوسطن، إريك روزنغرين (وهو مصوّت احتياطي في اللجنة حالياً)، فقال إن “الفدرالي” قد يرفع معدل الفائدة بحلول نهاية العام المقبل 2022، مع وصول سوق العمل والتضخم الى المستهدف. ويجب التوقف في تصريحاته عند تخوفه من حصول فقاعة في القطاع العقاري نتيجة الارتفاعات القوية لأسعار العقار والتي قد تليها تراجعات حادة، ودعوته الى التخفيف من مشتريات الأوراق المالية المدعومة برهونات عقارية في الوقت نفسه مع تخفيف مشتريات ديون الخزينة، وتشديده على ضرورة العودة بمستويات التضخم إلى 2 في المئة بأسرع وقت. أما رئيس الاحتياطي الفدرالي في ولاية ريتشموند، طوماس باركين، وهو عضو مصوّت في اللجنة، فقال إنه سينتظر حتى العام المقبل لتحديد ما إذا كان “الفدرالي” حقق أهدافه المتعلقة بالتضخم والتوظيف حتى يبدأ في رفع أسعار الفائدة من مستوياتها الحالية القريبة من الصفر.

في المقابل، وعلى الجانب الآخر الذي بدا أكثر حرصاً على تفعيل الاقتصاد، فجاء عن محافظ الاحتياطي الفدرالي عن ولاية نيويورك، جون وليامز، (وهو نائب رئيس السوق المفتوحة)، الذي قال “إن المناقشات بشأن رفع سعر الفائدة لا تزال بعيدة في المُستقبل” في تصريح ساهم في تهدئة الأسواق بعض الشيء.

أما نائب رئيس المجلس الفدرالي للإشراف، راندال كوارلز، فشرح أن أسباب ارتفاع معدلات التضخم تعود الى اختلالات سلسلة الإمداد وارتفاع الطلب، و”هما عاملان عابران، ويملك الفدرالي الأدوات للرد إذا ظل التضخم مرتفعاً لفترة أطول من المتوقع”. وأبلغ المؤتمر السنوي للمصرفيين في يوتاه “إذا مر عام من الآن ولم نشهد تراجع التضخم إلى مستوي أقرب لهدفنا البالغ 2 في المئة… فلدينا الأدوات في مجلس الاحتياطي الاتحادي لنبدأ عندئذ، مثلما نفعل بشكل تقليدي، زيادة أسعار الفائدة لتغيير سياستنا النقدية بطريقة تعالج ذلك التضخم”.

وعلى أهمية تصريحات أعضاء لجنة السوق المفتوحة، إلا أن الأسواق كانت تترقب تصريحات رئيس الاحتياطي الفدرالي جيروم باول الذي بعث خلال شهادة له أمام لجنة نيابية، برسالة مطمئنة مفادها أن “الفدرالي” سيتخذ قراراته بشأن أسعار الفائدة بناءً على النتائج وليس بناءً على التوقعات، وبالتالي لن يتسرع في تضييق سياساته المُتسعة. وكرر أن ارتفاع التضخم حالياً بهذه الصورة مرحلي، وأن مُعدلات التضخم سوف تتراجع لاحقاً لمستوى الـ 2 في المئة المُستهدف سنوياً. وفسّر باول للمشرعين أن “جزءًا كبيراً جداً، أو ربما كل، من ارتفاع التضخم يأتي من الفئات التي تتأثر بشكل مباشر بإعادة فتح الاقتصاد، وبالتالي ينبغي توقع تبددها على مدار العام”.

لكن هل من يضمن بأن يستمر باول في قيادة السياسة النقدية بحلول العام 2023 فيما ولايته تنتهي في فبراير (شباط) 2022؟

وقد تقاطعت كل هذه التطورات حول مستقبل السياسة النقدية مع إعلان الرئيس الاميركي جو بايدن التوصل الى اتفاق حول حزمة البنية التحتية، وقيمتها تريليون دولار. صحيح أن هذه الأخبار من شأنها أن ترفع معنويات الأسواق والمستثمرين،  لكن الحزم الهائلة، والموازنة الخيالية التي سيضعها بايدن، ستعمل جميعاً على رفع معدل التضخم. فهي تعني المزيد من طباعة الأموال لتدعيم النمو الاقتصادي.

وكانت وزيرة الخزانة، جانيت يلين صرّحت سابقاً أنّ رفع الفائدة لن يكون ضاراً. ورأى بعض الاقتصاديين أن هذا التصريح لا يعني تضارباً في المصالح بين “الفدرالي” والحكومة، لكنه يشير الى عزم الحكومة على تمرير الحزم الهائلة من دون النظر الى تداعياتها على التضخم.

السياسات الراهنة

في الوقت الحالي، لا توجد علامة على أي تغيير فوري. إذ قررت اللجنة الفدرالية للسوق المفتوحة، وبالاجماع، المحافظة على سعر الفائدة القياسي قصير الأجل بالقرب من الصفر (0.25 في المئة) وعلى مواصلة شراء سندات بقيمة 120 مليار دولار شهرياً لدعم الانتعاش. وورد في بيان اللجنة مجدداً عبارة أن الضغوط التضخمية الراهنة “عابرة”. في المقابل، تم شطب جملة كانت واردة في بيان اللجنة في أبريل (نيسان) 2020 والتي اشارت الى أن وباء كورونا “يتسبب في صعوبات بشرية واقتصادية هائلة في جميع أنحاء الولايات المتحدة وحول العالم”، وهو ما يعكس التقدم المحرز في عمليات تلقيح الاميركيين، وما يعني بالتالي أن الاجراءات الطارئة التي اتُخذت سابقاً من أجل تفعيل الاقتصاد، ولاسيما شراء السندات، قد لا تكون ضرورية في المستقبل القريب.

وقد تضمن البيان أيضا تحديثاً للبيانات الاقتصادية، حيث رفع مسؤول السياسة النقدية من توقعات نمو الاقتصاد هذا العام إلى 7 في المئة من 6.5 في المئة سابقا، فيما لم يغيروا توقعاتهم بشأن معدل البطالة.

لكنّ إصرار الاحتياطي الفدرالي على التقليل من وطأة التضخم وعلى أن ضغوط الأسعار الحالية سوف تهدأ بمجرد غياب أسباب اختناقات سلسلة التوريد قصيرة الأجل، يقابله قلق عميق من أن تقع الولايات المتحدة في حالة ركود آخر. فالنائب الجمهوري عن ولاية بنسلفانيا، بات طومي، نبه إلى أنّ المصرف المركزي الأميركي في خطر لأنه “وراء منحنى” التضخم، وأنّ إصراره على أن الارتفاع الحالي في أسعار المستهلك سيكون مؤقتا “يتطلب منه الانتظار لمعرفة ما إذا كان هذا هو المنحى.. كل ذلك يزيد من المخاطرة التي ينتهي به الأمر إلى اتخاذ إجراءات أكثر شدة”.

كبير المستشارين الاقتصاديين في “أليانز” محمد العريان، لم يكن رأيه بعيداً عما حذّر منه طومي. فهو قال إن لديه أدلة متنامية “على أن الاحتياطي الفدرالي مخطئ.. كل يوم أرى دليلاً على أن التضخم ليس مرحلياً، ولدي قلق من أن الاحتياطي الفدرالي قد يتخلف عن الركب وقد يضطر إلى اللحاق به”.

هذا يعني أنه في حال بلغ الاحتياطي الفدرالي هذا المستوى، يتعين عليه رفع أسعار الفائدة وتشديد السياسة النقدية في وقت أقرب، مما يزيد الخوف من تسارع التضخم ليصل الى حدود المنفلت. ويتبادر الى أذهان العديد من محافظي الاحتياطي الفدرالي هنا الركود التضخمي الذي سجل في سبعينات القرن الماضي عقب الارتفاع الكبير في أسعار النفط العالمية، مما تسبب في الزيادة الكبيرة لتكاليف السلع والارتفاع في معدلات البطالة، والذي أدى إلى انخفاض معدلات النمو الإقتصادي وارتفاع كبير في معدلات التضخم. هذا يعني أن الخطر يكمن في أن ارتفاع التضخم الآن، مهما كان مصدره، قد يؤدي أيضًا إلى ارتفاع التضخم في المستقبل.

العدد 119 / اب 2021