العولمة و الهندسة الورائية

الدكتور إبراهيم الحريري

الزراعة كغيرها من النشاطات الأخرى تأثرت بالتقدم التكنولوجي وسياسات الرأسمالية التجارية والسوق المفتوح ، وتعرضت في نفس الوقت لبعض القيود السياسية والاقتصادية فأصبح قطاع الزراعة مطالبا بإنتاج مواد غذائية  بتكاليف منخفضة، وفي نفس الوقت  مراعاة الاعتبارات المتعلقة بالحفاظ على البيئة وسلامة الأرض والحيوانات وصحة المستهلك.

بتكليف من المؤسسات الزراعية والمشاتل يعكف العلماء في مختبرات معهد العلوم النباتية في مركز يوليش للأبحاث في ألمانيا , و الذي يضم اكثر من مائة باحث من 17 دولة  على البحث عن الجينات التي تمنح النباتات خصائص معينة، ففي الأداء و التركيز على الهندسة الوراثية الزراعية بالزراعة والأنسجة وإنتاج المحاصيل المقاومة للأمراض والتنوع في الإنتاج الزراعي، و مقاومة الجفاف و زيادة الانتاج. ويعتبر ذلك من الأمور التي تزداد أهمية، بالنظر إلى ظاهرة التغير المناخي وتبعاتها. وكما يقول مدير المعهد أولي شنور، فإن زيادة عدد سكان العالم وارتفاع استهلاك اللحوم ينعكس على ازدياد الطلب باستمرار على إنتاج النباتات. ويضيف “يتوجب علينا إنتاج المزيد من المحاصيل في المساحة نفسها من الأرض، وذلك تحت ظروف مناخية قاسية ومن هنا تكتسب زراعة وتنمية النباتات معنى جديدا تماما.”

و اليوم الشركات العملاقة لتصنيع البذور و تطويرها ورائيا تسيطر بشكل اساس على المخزون العالمي للبذور و تقود الحكومات بتوفير الغذاء بمواصفات جينية مهجنة و معدلة ورائيا ,و تطور هذه البذور بمختبرات الشركات بكل من امريكا و اوربا و اسرائيل و تزرع بمزارع بالهند ليكلف الكيلو الواحد زراعة مائتين دولار امريكي و ليباع عالميا بأسعار تصل لاربعمائة الف دولار لبعض البذور ,

الفيلم الوثائقي الذي انتجته قناة TV5 Monde في العام 2014 تحت عنوان “حرب البذور”، كشف ان خمس شركات عالميّة موزعة على عدّة دول في الغرب تسيطر على أكثر من 50% من البذور المخصصة للزراعة في العالم. وهذه الشركات التي تسيطر على البذور هي “مونسانتو Monsanto و بايونير Pioneer في الولايات المتحدة الامريكية – ليماغران Limagrain في فرنسا – سانجانتان Syngenta في سويسرا – وباير Bayer في المانيا”. هذه الشركات الخمس باتت تملك 6 آلاف نوع من الحبوب،ب بالتالي فإن المزارعين باتوا ملزمين بشراء هذه البذور المعدلة جينيا، والغير قابلة للزراعة الا مرّة واحدة، فامكانية اقتطاع جزء من المحصول لاعادة زراعته بات امرا غير ممكن، لان البذور المعدلة من قبل هذه الشركات “عقيمة” ولا تُزرع الا لمرّة واحدة، و قيمتها الغذائية لا تتجاوز 30% من القيمة الغذائية للزراعة العضوية و التي اصبحت تنادي بها كثير من المنظمات غير الربحية العالمية. فالنتيجة هي جعل المزارعين مجبرين على شراء البذور المعدلة جينيا والتابعة لهذه الشركاتالعملاقة و العابرة للحدود ,وبلا شك هذه الشركات تمتلك نفوذا كبيرا، ونشاطا خفيا و منظماً، مكنها من الزام الدول وخاصة في آسيا وافريقيا من استصدار القوانين التي تكرس احتكار هذه الحبوب.

تطلب منظمة التجارة العالمية من الدول الأعضاء أن يكون لديها شكل من أشكال التشريعات لحماية الأصناف النباتية. وتلبي الدول هذا المطلب من خلال الانضمام إلى الاتحاد الدولي لحماية الأصناف النباتية الجديدة (UPOV)، الذي يضع قيودًا على إنتاج البذور وبيعها وتبادلها, رغم أنه لا يوجد التزام قانوني بالانضمام إلى مجموعة UPOV. لكن دولًا من بينها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وكندا وسويسرا واليابان، تستخدم اتفاقيات التجارة الثنائية والإقليمية للضغط على دول جنوب الكرة الأرضية للانضمام إلى المجموعة.

 و كل هذا و ذاك لا يكسر العزيمة لمبادرات بناءه منها مبادرة البذور المفتوحة المصدر (OSSI)، التي ساهم من خلالها عالم الاجتماع الريفي جاك كلوبنبورغ في تعبئة البذور وإرسالها إلى المزارعين، وهي مبادرة عالمية مقتبسة من البرامج الرقمية مفتوحة المصدر، تتيح تبادل البذور مجانا دون أيّ تقييد، لكنها تعاني من مشاكل، فهي عرضة للاستيلاء عليها بسبب مصدرها المفتوح.

رغم أن غريغور ماندل (1822 – 1884)، الأب المؤسس لعلم الوراثة، و نشرت ابحاثه عام 1865, الا أن عصر الثورة الصناعية الرابعة عام  2003 شهد تحديد السَلْسَلَة الكاملة للجينوم البشري  و هندسته  و الخريطة الجينية فيما بعد ، و يتم الأن دراسة الحالات الطبية والعمليات البيولوجية حتى مستوى بالغ الدقة. ويتعزز كمّ المعلومات الوراثية من خلال التصوير الطبي الدقيق والتحاليل المختبرية المتقدمة، وكلها تعتمد على المعلوماتية والحواسيب. و أصبح مجال الهندسة الورائية ( هندسة الجينات) من أحدث العلوم و أكثرها إثارة للجدل ,والتي تشمل التحكم في الجينات والاستنساخ الحيوي, و يتم ذلك بدراسة تغير الجينات عن طريق إضافة جين أو مجموعة جينات أو تعطيلها في المادة الوراثية للكائن الحي، وذلك لإنتاج صفات مرغوب فيها أو استبعاد صفات غير مرغوب فيها.

و من تطبيقات الهندسة الورائية:

  • إنتاج الأنسولين البكتيري بدلاً من التقليدي المستخلص من الخنازير والأبقار.
  • إنتاج بروتينات عالية القيمة الحيوية كغذاء للماشية والدواجن.
  • إنتاج مواد كيميائية دوائية ومضادات حيوية بتكلفة أقل وبمعدل إنتاج عال.
  • إنتاج أنزيم تنشيط البلازمينوجين النسيجي الذي يستعمل لمنع تخثر الدم داخل جهاز الدوران لمرضى الجلطة القلبية.
  • إنتاج ألبومين بلازما الدم بهدف الحد من مشكلات وأخطار الحصول على بلازما ملوثة من المتبرعين بالدم من المرضى.
  • التشخيص المبكر لبعض الأمراض الوراثية مثل الأنيميا المنجلية والبول الفينولي.
  • إنتاج بروتين الإنترفيرون وراثياً، وهو هرمون النمو لمعالجة التقزم البشري وبطء النمو.
  • المعالجة بالجينات مثل: إضافة جين إنتاج الأنسولين في الصبغي البشري مما يؤدي إلى إمكان شفاء المريض بمرض البول السكري شفاء دائماً، وعلاج بعض أمراض نقص المناعة.
  • إنتاج أمصال تركيبية خاصة تتضمن عملية إنتاجها بالطرق التقليدية أخطاراً عدة مثل مصل فيروس التهاب الكبد الوبائي والإنفلونزا.
  • إنتاج عدد كبير من الأمصال واللقاحات ضد الأمراض البشرية والحيوانية والنباتية.
  • إنتاج هرمون اللبن في الماشية لزيادة إنتاج الحليب.
  • إنتاج بكتيريا بحرية معاد صياغتها قادرة على القضاء على التلوث الناشئ عن البقع النفطية الكبيرة التي تتسرب إلى البحار والمحيطات، حيث تقوم بتحليلها إلى مركبات بسيطة وهضمها.
  • إنتاج ميكروبات تقوم بمعالجة مياه الصرف الصحي والتخلص من المواد الضارة والروائح وجعلها صالحة لأغراض مختلفة.
  • إنتاج أنواع مختلفة من الحيوانات والنباتات التي تتميز بضخامة جسمها مقارنة بالأنواع الناتجة منها، و لاتزال هذه التجارب مقيدة بعدد من القوانين المحددة لها.
  • و كشف الطبيبين مايكل ليش و وليام نيهان عن علاقة بين سبب السلوك العدواني و الاضطراب الكيميائي ,و هي من نوع «ارتباط النتيجة بالسبب»، فقد أطلق على هذا الاكتشاف اسم ارتباط أو «قرينة ليش – نيهان» Lesch-Nyhan Connection. وقد أظهرت التجارب الحديثة على الحيوانات أن زيادة نسبة المادتين المادتان «إبينيفرين» (Epinephrine) و«نورإبينيفرين» (Norepinephrine) في المخ تؤدي إلى سلوك عنيف، يمكن معه أن يقتل الحيوان حيوانا آخر من فصيلته وجنسه, وأن الإنزيم المعروف اختصارا بالحروف MAO (أحادي أمين أُكسيداز) والموجود في المخ، يؤدي دورا أساسيا في «مزاج» الإنسان. فانخفاض نسبة هذا الإنزيم في المخ يؤدي إلى شعـور بالابتهاج، في حين يؤدي ارتفاع نسبته إلى شعور معاكس تماما بالاكتئاب.
  • الأجسام المضادة: وهي بروتينات خاصة تقوم بالدفاع عن الجسم ضد الميكروبات الغازية، وقد أمكن إنتاج أجسام مضادة محددة للنسل وذلك باستخدام بروتين مهندس وراثياً مضاد لذيل الحيوان المنوي، ويحوله إلى حيوان منوي غير قادر على الحركة. وتم إنتاج هذا البروتين في الدول المتقدمة على نطاق تجاري.
  • سوماتوستاتين: هرمون تفرزه الغدة فوق النخامية (الهيبوثلاموس) في المخ، ووظيفته منع إفراز هرمون النمو وهرمونات الغدة النخامية، كما أنه منظم لهرمونات البنكرياس والمعدة والأمعاء. واستطاعت إحدى الشركات الأمريكية إنتاج هذا الهرمون صناعياً.
  • لقاح الإنفلونزا: وهو مرض كثير الانتشار ويسببه فيروس له سلالات متعددة. ولعلاج الإنفلونزا لابد من وجود لقاح شامل لكل هذه السلالات. وتم التوصل إليه في مختبرات زراعة الفيروسات كاملة في مزارع فيروسية ثم تثبيط عملها المرضي، والاحتفاظ بشكلها وتحليل الطاقم الوراثي لها وزرعه داخل الخلايا المحتمل إصابتها لتكوين أجسام مضادة له تستطيع أن تتعرف إليه وتقاومه.
  • لقاح التهاب الكبد الفيروسي: ويصنع بأخذ جين من فيروس (ب) الكبدي ثم يحمل على خلايا الخميرة التي تكاثره مع تكاثر مادتها الوراثية منتجة لقاحاً له.
  • لقاح الجذام: توجد جراثيم الجذام في الإنسان والفئران وحيوان الدرع (في الدم). و استطاع علماء الهندسة الوراثية إيجاد لقاح له، مستخدمين في ذلك دم حيوان المدرع، ولايزال تحت التجربة على مئة ألف شخص من سكان ملاوي، وعدد مماثل من سكان القارة الهندية. وتتم هذه التقنية بأخذ الجينات اللازمة وتحميلها على بكتيريا القولون (إيشيرشيا كولاي).
  • ثاومايتن: بروتين بسيط حلو المذاق، وحلاوته تلك مفيدة جداً لمرض البول السكري، فهو أحلى من السكر بنحو ثلاثة آلاف مرة، ويتميز بأنه سهل الهضم. وتم إنتاج الثاوماتين لكنه لا يزال في مرحلة التجربة.
  • روكينان: أنزيم قادر على إذابة الجلطات الدموية، والمسؤول عن صنع هذا الأنزيم هو أحد الجينات، وقامت شركة أمريكية بتحميل البرنامج الوراثي لهذا الجين على جرثومة، وأثبت ذلك نجاحاً علمياً، لكن تكاليف هذه التقنية مرتفعة، وهذا يؤثر على الكمية المطروحة للتناول.
  • لقاح منع الحمل المشيمي البشري: استطاع العلماء التوصل إلى لقاح منظم للحمل تستخدمه المرأة من خلال تقنيات الهندسة الوراثية، وهو عبارة عن هرمون (جونادوتروبين) المشيمي البشري، حيث تحقن به المرأة فيعمل على تحفيز الجهاز المناعي لتكوين أجسام مضادة تهاجم البويضة قبل إخصابها وتدميرها، كما يحفز المبيض على عدم إنتاج هرمون (البروجيسترون) الضروري لعملية التبويض. وبهذا اللقاح يمكن للمرأة أن تستخدم حقنة من الهرمون بدلاً من تناول أقراص (البروجيسترون) الصناعي يومياً، أو استخدام اللولب، وما ينتج عن ذلك من تجلط الدم وزيادة في الوزن وغثيان وقيء نتيجة لإحداث الأقراص اضطراباً في الدورة الشهرية.
  • دراسة المادة الوراثية الأحفورية أو القديمة Ancient DNA سواء كانت بشرية أو حيوانية أو نباتية. من أجل تسليط الضوء على التاريخ البيولوجي للحياة على الأرض. وأول بحث نشر في مجال عزل المادة الوراثية الأحفورية كان عام 1984.
  • و هندسة الانجاب قد تمكننا من الانجاب بدون أمهات في قضايا مثيرة للجدل.
  • أما التطور الأحدث فهو هندسة النبات وراثياً لإنتاج المواد ذات الأهمية الطبية، وهو ما قد يحل قريباً محل عمليات التخمير التقليدية للأدوية، وكان الدافع وراء هذا الاتجاه هو الرغبة في أن يحصل الناس على اللقاحات الواقية مع طعامهم.

و بالنهاية ببداية طرح الشركات الأوروبية والأمريكية طعامها المعدل والمعالج وراثيا قوبلت الفكرة باستياء كبير وهجوم وصل في بريطانيا لحد الهجوم على مزارع الطعام المعالج وإزالة النباتات من الأرض , و نشطت الزراعة العضوية و منتجاتها المتعددة و التي تكون اكثر جودة و اكثر ثمناً و قيمتها الغذائية مرتفعة و هو ما لا يتوفر بكثير من المنتجات المعدلة وراثياً و التي تغزو دول الجنوب بسبب رخص سعرها و توفرها و سهولة زراعتها و انتاجها الغزير, و لكن الخيار الوحيد امام هذه الشعوب هو الاعتماد على المنتجات المعدلة ورائيا بعصر العولمة.

العدد 119 / اب 2021