مأساة عدنان خاشقجي في أول فيلم سينمائي

“المنشق”  يقضي ويُحرق  وأسرته تصمت قسراً

ملبورن ـ جاد الحاج

يعود اسم برايان فوجيل الى الظهور بقوة على أثر فوزه بالأوسكار عن فيلمه الأول “إيكاروس” حيث اخترق المخرج الأميركي واحدا من اكثر الحصون المعاصرة مناعة، ليروي خلفيات تنشيط الرياضيين خلافاً للقانون كي يفوزوا بالميداليات البراقة ضمن فريق الدرّاجين الروس. وقد استطاع فوجيل أن يصطحب معه من روسيا الى الولايات المتحدة رئيس أطباء مراقبة التنشيط السري  غريغوري رودشينكوف الذي زوده   بكامل ملف   هواة الدراجات الهوائية الروس ممن فازوا بالميداليات الأولى في سباق “لومان” الفرنسي، وقد أدى  كشف امرهم الى فضيحة كبرى لطالما أنكرت الأوساط الرياضية الروسية حقيقة وجودها.

واليوم يعود فوجيل الى خرق الحصون الديبلوماسية والاستخباراتية ليكشف في فيلم جديد حقائق اغتيال الصحافي السعودي عدنان خاشقجي. صحيح أن شريطه لا يميط  اللثام عن اسرار ما زالت محيّرة بالنسبة الى الجمهور العريض، إلا أنه استطاع في هذا الفيلم أن يضع الكثير من النقاط   على حروفها، مما أوصل رسالة متينة وقوية الى العالم تكشف كيف تتمكن القوة الطاغية أن تمحو واحداً من ناقديها، وبالتالي كيف تخفق كل الجهود المبذولة سياسياً وإعلامياً وحقوقياً عن كشف الحقيقة برمتها، ناهيك عن ذكر مرتكبي الجريمة بأسمائهم الكاملة.

  يكشف فيلم “المنشق” ابرز الوقائع الثابتة بالصوت والصورة ابتداءً من وصول طائرة خاصة الى اسطنبول عليها فريق مؤلف من جرّاح مختص بتقطيع الأعضاء يرافقه 14 مهنياً درسوا فنون  لإعدام وإخفاء آثارها. ويسلك المخرج اسلوب المزج (او الصهر الإبداعي) بين الوثائقي والمتخيّل عبر توظيف آخر المستجدات الألكترونية  لوصل المشاهد المتقاطعة وتمرير فصول الواقعة المروعة في برودة موضوعية خالية تماماً من المؤثرات العاطفية.

   أمضى عدنان خاشقجي سنوات طويلة صحافياً معتدلاً وفي أحيان كثيرة شديد القرب من العائلة المالكة في الرياض. إلا أنه بدأ بنقد مدروس وإيجابي لوقائع من الصعب إنكارها تتعلق عموماً بحريات التعبير والظلم الذي لحق بكل من يتوجه بالتعليق او الرفض نحو السلطة الحاكمة. وسنة 2011 أزعجت ثورة الربيع العربي أوساط الحكم والسلطة في السعودية وبالتالي ألهمت خاشقجي مزيداً من العزم ما دفعه الى البحث عن أولئك المنشقين الذين تمكنوا من اللجوء السياسي الى بلدان غربية حرة مثل كندا وفرنسا وغيرهما. وهكذا أصبح خاشقجي واحداً من أصدقاء عمر عبدالعزيز الذي يتمتع بشهرة واسعة جداً في عالم التواصل الاجتماعي والمنشورات المختلفة المهتمة بكشف حقائق الأنظمة الديكاتورية في العالم. ولم يعد سراً قيام المخابرات السعودية بتجنيد عدد كبير من المخبرين لمتابعة نشاطات أولئك المنشقين المنتشرين في بلاد بعيدة وحريصة على حرياتهم وحياتهم. وقد بات أولئك المخبرون معروفين باسم “الذباب” لكثرتهم. أما خاشقجي فلجأ الى اسطنبول ومنها تواصل مع عبدالعزيز في معركة طاحنة ضد “ذباب” المخابرات السعودية معركة  اسلحتها مقالات خاشقجي في “واشنطن بوست” ومعلومات عبدالعزيز عن أحوال ومصائر ومعاناة   المنشقين السعوديين حول العالم.

لكن هل أخفق خاشقجي في تقييم أبعاد مواجهته للنظام السعودي عبر منبر عالمي بالغ النفوذ والانتشار؟ وإلا كيف قبل دعوة موظفي القنصلية السعودية في اسطنبول لإنجاز أوراق طلاقه القسري؟ وكيف قرر الدخول وحده الى القنصلية من دون زوجته التركية خديجة جنكيز؟ وكيف فاته ان يتحفظ فيأتي برفيق موثوق أو محامٍ موكل رسمياً بحسب الإجراءات القانونية في تركيا؟ اسئلة كثيرة كهذه حجبها ’ضباب‘ المجزرة التي اودت بحياته .

’لقد كانوا في انتظاره وعلى استعداد تام وجهوزية مهنية ضارية‘ يقول احد افراد المخابرات التركية ممن ساهموا في  تفخيخ مبنى القنصلية السعودية باجهزة التنصت التي نقلت  حيثيات المقتلة المروعة.  حقنوه قسراً بمورفين قوي، اوثقوه، وبعد تقطيع جثته، أنزلوها الى قبو تحتي في مبنى القنصلية وطلبوا ثلاثين كيلوغراماً من اللحم البقري لإحراقها وتغطية  رائحتها . وتلك الحقيقة موثقة تماماً لدى المخابرات التركية التي سبق أن رصدت الكترونياً أصواتاً داخل القنصلية السعودية في اسطنبول. قابل فوجيل عدداً من  افراد جهاز المخابرات التركي الذين دفعوا بالقضية الى المحكمة للتحقيق وتبيان المزيد من الوقائع.

في مقابلة مع “لوموند” الفرنسية قالت خديجة إن الزواج الشرعي الذي عقدته مع خاشقجي في 16 أيلول (سبتمبر) 2018 بحضور عائلتها بقي سراً حتى يوم دخوله الى القنصلية السعودية في اسطنبول. ونقلت “لوموند” عن إحدى قريبات خديجة انها وافقت على قبول صفة “الخطيبة” حتى يتمكنا من تسجيل زواجهما مدنياً، علماً ان عدنان سلَّم المهر وقدم نفسه لوالديها ولبقية الاسرة وحصل على موافقة الوالد وبركة الآخرين. وتضيف الصحيفة المذكورة نقلاً عن قريبة خديجة ان “كل ما تبقى هو عقد الزواج المدني بينهما، وقد جاء الى القنصلية ليثبت انه مطلق شرعاً في بلده الأصلي لأن  تعدد الزوجات محظور في تركيا.

أما بالنسبة الى منفذي العملية الرهيبة فقد أصدرت المحكمة الجزائية في الرياض أحكاماً بحق ثمانية لم تُذكر أسماءهم علناً لا في الصحافة ولا في الإعلام الرسمي، علماً ان الاحكام المذكورة اكتسبت الصفة القطعية طبقاً للمادة 210 من نظام الإجراءات الجزائية بحسب ما ورد في وكالة الأنباء السعودية. ويُذكر هنا أن المادة 210 تُفسح في المجال للتنازل الشرعي من ذوي القتيل بعد صدور الاحكام التي بلغت 124 سنة توزعت على الثمانية المحكومين بحسب ما صدر عن كل واحد منهم كفعل إجرامي، وقضت المحكمة ايضاَ بالسجن 20 عاماً على خمسة من المدانين وعلى 10 سنوات للثلاثة الباقين. وتلك، بحسب القانون، أحكام نهائية واجبة النفاذ طبقاً للمادة 212 من نظام الإجراءات الجزائية في المملكة العربية السعودية.

أحدث شريط “المنشق” بلبلة نقدية لدى عرضه ضمن الأفلام المأخوذة من سيناريوهات متنوعة معظمها روائي او مستوحى من مؤلفات متخيلة. الا ان النقاد الجديين اعتبروا الشريط فتحاً اسلوبياً من شأنه ان يشرّع الابواب على اقتباسات مماثلة تعكس احداثاً واقعية ذات اثر موصوف وابعاد متعددة الجوانب. وفي المحصلة الأخيرة لقد أوصل برايان فوجيل صورة قاتمة لواقع حرية التعبير  في محيط ما زال يعتبرها مسألة عارية من الأهمية، حتى لو اقترن تغييبها بجرائم تقشعر لها الأبدان.

العدد 119 / اب 2021