متحف جميل ملاعب: معجزة المبادرة الفردية

عبيدو باشا

تلك قرى لا تموت . قرية بيصور ، من القرى هذه . لا من تمتع واديها بالطين الأشهب ولا بالطين الأبيض ، ما يحتاجه الفخراني لكي يخرج من كهوف الهواء إلى الإقلاع بالإستعمال . ذلك أنها لم تجف يوماً، جفاف الحكايات ولا الإنجازات ولا الأسرار ولا السدد ولا المتون ولا دعاء القرون القديمة بالتقدم إلى القرون الجديدة .خلق الله القرية ، وضعها في صقيع المسافات . إلا أن أولادها جدولوها ، إذ وضعوها على فهارس لا الصلوات وحدها ، حين وضعوها على فهارس الإنجازات . حتى أقلعت من موقعها الجميل، الخلاب ، إلى العصر الجديد على آذان الجن والملائكة ، مع مجموعة من الأسماء ، من فاز أصحابها بالفوز بالفن والثقافة . من صنعوا قبابها ، من رفعوا قبابها إلى الصراط الأعلى . يتردد إسم مروان العريضي كخطاط ذي شهرة عالمية ، كما تتردد أسماء أخرى حفظ العالم ما قالته على صعد وصعد . الأبرز ، من زلق نفسه بنفسه من عرائش التشكيل ، هنيأ مريئاً ، لا كزائر ، كابن لم يترك لشياطين الغفلة احتلال مرابض هذه القرية ، الواقفة كمزار على تغريدات المزار . خاص جميل ملاعب معاركه بالهدأة والسلام الداخليين وفي نفسه أن نفسه أوسع من نفسه. هكذا وجد أن النذر لا يكفي . لا يكفي مونولوغ التشكيلي للرسم والتشكيل . ولا نظر العابد إلى قواميس الهجران . إذن ، بالبال أغنية يا أخت عن بلدي ، كما جاء في واحدة من قصائد محمود درويش. لكنه نفسه لم ير مبنى ولا ضوءاً ولا ديكوراً ولا قيمة ، إلا بعد أن وجد نفسه بالصفر ، بعد أن انطلق من الصفر ، بعد أن وجد القيمة تمنح نفسها القيمة . النفس دوماً، لأن ثمة قبة بيضاء لا يراها سوى أنقياء النفوس على رأس المبنى ، قبة لا يراها إلامن يعرف قراءة المسطح ، فوق المسطح وتحته . النفس غير الروح ، لا يرددها الرسام لأنه الأدرى بأن نفسه هي نفسه لا روحه وأن روحه هي روحه . سونات المشايخ بتلك القرية ، بها من كسور التصوف ما بها . لذا لا يشيخ الشيخ هنا ولا تشيخ الجزائر والشخوص والأحلام والعطر . لأن العطر في بيصور دورانه . ولأن دوران العطور عناق الصبابة للصبابة في اكتشاف الدر الصافي المقطر من ماء الحياء . لا يزال ملاعب حيياً بعد أن أنجز ما انجزه بالرسم ، وما انجزه كإمام من أئمة المتاحف . قصد الرجل المتحف وأقامه، وجده بعد أن أقامه على عين العربات وقادتها في هذا الثغر ، حيث الإتيان والهجرة .

بيصور وطن بقرية ، إذ تقف على مساءات القرى و صباحات المدن . لا مدينة مدينة ولا قرية قرية، بيصور . إنها مساحة لا ترتاد سوى مائها . بعيدة عن بيروت وقريبة من العاصمة . إنها كالتفاحة بين قرى عاليه ، ذات وقفة لا تنسى وصايا الهبوب على صدى الغيمة . لأنها حفظت جيداً أن الصلح بين من لم يتقربوا ضروري ، لكي لا يبقى من لم يصطلحوا ويتصالحوا مرضى التيه والعري الأنساني . سبعة كيلومترات ، ترتفع على منحدرات جبلية تكسوها أشجار الصنوبر في سلسلة جبال لبنان الغربية . وهي اذ تبعد عن بيروت ١٨ كيلومتراً، ترتفع عن سطح البحر بين ٨٥٠ متراً و٩٥٠ متراً.هكذا ، تستقبل الزوار بالإعتدال ، ما كرسه شيوخها حين لحظهم العالم ، بعد أن لحظوا أنفسهم ، في رواحهم وغدوهم إلى التصالح، يدعون إليه ، ثم يتركونه في النسيان على شرف تصالح آخر . الصلح ضد النازلة وغوثاء الطرق وطلقات أفلام الكاوبوي .

لم تتخلق القرية من إنفجار ولا كإنفجار ، خلقت من ولع العلاقة بالحياة . كلما ولت ، تولي إلى التسامح والجمال بعرض القرابين من لحمها الحي ، لأجل أن يبقى السلام سائداً في مناطق وقرى عاليه، المصيف الشهير المعروف . ولو أن الحرب جارت عليها بالميتات والطلل ، بدون أن يسمعها أحدٌ تتأوه أو تستجير . إنها وطن النفس والروح ، وطن الروح في نبضها، تقطره كما يقطر القطار القاطرة . لا يذوب أحد على طرقاتها ، هي الناشئة ضد الكره . هكذا تضحك على ميزان زمانها ومكانها ، حيث يجيئها الزوار يصلونها على شباب شتائها واعتداله ولطف صيفها، اذ لا يقف أمام مرآة عجوز وهو يضحك من سحر حبات الفاكهة على الأرض ومن قبض الريح المشلوح على سلامها . الإعتدال دوماً، اللطف على الدوام . ثم أن اسمها آرامي / سرياني ، معناه بيت الخزاف أو السور ، بعد أن اشتهرت بسور من أشجار الرمان . تذهب على السور إلى منزلك دون عناء . سور دليل ، جميل، كثير الخميل ، جليل ، لا يلتقط حاجات عروضه إلا ملوك الصفاء والمضاء بالصفاء . دلائل الإعجاز تتوالى في هذه القرية المنقورة بحس العصافير وجمر الأيام . خطوة جديدة محمرة بالخلائط الثقافية تحك بيصور من جديد بقياس الوقت بالإبداع . حيث أخرج الفنان جميل ملاعب نقطة ضوء ساخنة من عمق البئر ليضعها بخصر بيصور، بعيداً من سمنة الوصف . متحف الفن التشكيلي ، ما لبى حاجاته بعد أن التقطه من سِفر العلامات ، بعد أن تفرس فيه أكثر مما تفرس في حياته . استولده بدون استعمال مشرط ، بعد شهور طويلة من المخاض . مخاض رجل آت من رائحة حضرموت وباريس ونيويورك ومنهاتن والجزائر وسوريا وآخر زاوية من زوايا البيت . تفرسه كما يتفرس الجوع بالجائع ، ثم حاكاه ولاعبه ليضعه على هودجه . إنه الآن على هودج ينطق بالشعر وتقنيات الهندسة بدون أن يتفوه من فوه ، سوى أنه سار على سويعات الخطوات ، حيث الصدفة والصدقة والحلول والحذف والمد ومد المد وتعظيم السلام اللايائس ببلاد لا تزال تقاسم نفسها الضائقات . لم يخرجه من حقيبة سفره ، ليتجمع دفعة واحدة على رذاذ الأيام أو على شعاب الجنة ، كما يظهر اذا نظرت اليه من قريب أو بعيد . هذه معجزته الصغيرة ، بدأها بدون أن يرتفع على خميلة أحد بالمنجنيق . ارتفاع الجوري على الجوري ، تكرار الحركة وتكرار الشكل . التكرار فلسفة لا نزيف . ليرة على ليرة ودولار فوق دولار ، حملها نمل الفنان لترتفع أصماغ الخامات واحدة فوق الأخرى ، ليرفع المرتاج . وبرفعه ، تنفتح الطوابق وترتفع كما ترتفع السحابات فوق الجغرافيات الثابته والزائحة سواء بسواء . لا حاجة إلى طقوس التقفي للوصول إلى المتحف ، والوقوف على دورات الغواية فيه من أهل المنطقة والعابرين والسابلة والطلاب والفنانين من سراح النجوم، ومن لا تزل اقدامهم على الأرض ومن لف لف الفنون، كل من لف لف الفنون . هذه معجزة صغيرة . هذه معجزة جميل ملاعب ، من لم ينس جماعته من ربعه ومن أهل الفن ، لكي يعقد عليهم إنجازه بعقل لا يقترب إلا من الوهج ، كوره ، ثم رماه في فؤاده ، ثم رماه في افئدة الاخرين بروح لينة وبلا ابتسار . لم ينتظر الظروف لكي يحضن الفن ويدركه ويقدمه كلقاح إلى جانب اللقاحات الأخرى بزمن الفايروس ، بزمن الوباء . كسرُ العزلة بارضاع القرية أصوات المتحف النيئة ، ثم الطازجة بتحولها إلى بوصلة لا تقدم البيعة إلا لجن الرسم والموسيقى والفنون الأخرى من من لم تتريث تراتيلهم لتوحد المسارات ببحر من الخطوات ، حيث سيليق الفرح بتغريد المقامات المُعدي .

بيني وبين المتحف أزمة البنزين لا طلع الأكاسيا. السيارة تكاد تموت في الطلعة العظيمة لبيصور . سوف تدركها ،تقول ، على الرغم من طقطقة علام الوقود على واجهة السيارة الداخلية . واذا لا ، تركن السيارة ، ثم تمضي إلى سكان هذا القطب، تسألهم المساعدة . ولو أن البلاد علمتك أن لا تثق بأحد . التنقل أوديسة في لبنان ، ملك مواسم الموت والحروب والهجرات . تضحك حين تردد أنك تنافس النحل على رواية حكاية المتحف ، بدون معروف أحد . وبين طقطقة علام وصداه في رأسك وقدميك وجهازك العصبي ، تجد أنك اقتحمت ظلام السؤال وظلام الوحشة إلى حائط يلف أرضاً عليها كدس من المنحوتات . حائط شبيه بسور الرمان ، سور جاء بالحكايات القديمة . رمان المجانين . رمان جن اللغة وعرش كل محجوب في الحدقات وبكل ما لا يسمى . كدس من منحوتات جميل ملاعب ومنحوتات آخرين . كأنها خرجت من البيت لتعود اليه بعد أن تنتهي من حراسته . لكن ثمة حارس لا ينام ، يقف على الأرض كما يقف على شرفة. الحارس هناك على الوقت .كأنه بخروجه يتوضأ بالهواء من أجل الصلاة ، أو لينفض تعب الأيام الأولى من ذاكرة القيامة .

لاشيء يعمر سوى النسيان عند البعض . ملاعب لا ينسى ، لا السقيفة ولا الساعدة ولا خرير الكلمات ولا أجنحة المعنى .لا ينسى جميل ملاعب ، أن لا شيء يعمر إلا الفن، لأنه جزء من النفس ، جزء من الروح . الفن ماء يدفق لا بيت ماء .وها الفن بالمتحف يا نقاد بورصات العيد . متحف من لحم ، متحف من ولادة رجل لا ولادة أنثى ، حيث تقطن اللوحات الطوابق ، كحوريات بضة منثورة في خلاء على وهج آهات مكبوتة ، تعزف البشائر وهي تغادر الملكوت إلى الملكوت ، من الطوابق العليا إلى الطوابق السفلى . وبالعكس . لأن الواحدة منها عطشى إلى الأخرى .سوى تسمع صدى ضحكات مسحورة ، إذ تجول في الطوابق المعلاة ضد وباء الذوبان . لقد أقامه الرجل لا في المدينة ، حيث يبدو كياقوتة عملاقة ، تقف على أمورها الهانئة وعلى رائحة الأرض المدعوكة بالخمائر اللغوية ، بعيداً من كل مفاهيم العماء وذاكرة هيروشيما ، بلقطاتها السوداء والبيضاء في بيروت. أطاح إنفجار المرفأ والمدينة منذ عام . وها هم أولاد أمورها ، لا ولاتها ، يستولدون من الموت وجوههم . وجوه ضد الموت . هذا المتحف ضد الموت . جميل ملاعب بيروتي في بيصور وبيصوري في بيروت . ولأنه إبن هذا النسيج ، لم يرتب وهو يواجه الموت على تلال الحصار بنفخ المتحف لكي يناظر الموت وينتصر عليه، لكي يسعد وتسعد بيصور وبيروت بصرح يستقيم على رائحة البحر ومياه القرون ، راوية المجاري على الساعات . صرح يكره الإعياء ويفضل الموسيقى على النداء . صرح خجل من خجل مؤسسه ، غير أنه أبعد من صورة عربة قديمة وهو يقود بيصور إلى الإشتعال الفاتن على دورانها اللذيذ على طفح الفكر وسلالم الهواء إلى أعلى المدينة وآخر القارات الراقدة فوق هجير المفردات على الطرقات .

بداية المغامرة ، أن تزرع متحفاً بعيداً من العاصمة . ثم أن يرفع مونولوغه على رأس الضوء . كأن تقيم عرساً للذئب. لكن الأمر يتعدى الأعراس ، حين يقوم أحدٍ الفنانين التشكيلين البارزين في لبنان بالخروج على الأمور الملعونة إلى التلويح للآفاق بالآفاق . خمسة طوابق ، كل طابق كالعرش. كل صالة قيمة مطلقة ، حيث تمنح الصالات بعضها عظمة الجاه . هذا فتح مركزي ضد المركزية . الأهم ، أن المتحف لا يتأبط شر الإستهلاك ، حين لا يُكرِه ملاعب العباد على دغدغة علاقتهم بالفن التشكيلي ، حين لا يعود إلى أصوات عوانه وأعوانه من أجل أن يأتوا ويجولوا في هذا الحيز ، في هذا الحرم الأبعد من صحراء معلقة .الإستهلاك عند ملاعب وجه أفعى صفراء لا يريد أن يراه لا تحت الغبار ولا بلظى الأوقات . بذلك لا يمحو دمه ، ولا يقيم الأغاني على مزاداتها ، لمَّا لا يراها إلا كنافورة من بريق لا تسكنه مدائحه . لأن العلاقة بالفنون لا تزال تقوم، بالعموم ، على التسليع والإنفاق على السلعة على مفهوم التخديم أو الخدمات . هكذا حمل ملاعب فانوساً لم يجده بكهف علاء الدين لكي ينثر ملح الشعلة ضد الغباء وأقوام الإستهلاك . ذلك أن الدولة نفسها لم ترتقي فوق فكرة أن تطحن حنطتها وأن تدفع بها إلى الإشراق في متحف يقدم شذراته لا أن يحولها إلى خرافة . لا طريق مسافر إلى التعطر بفكرة متحف يمتلك عاجه اللغوي ويدور على نفسه كضباب . لا يزال المتحف دمعة على خد الجمهورية ، على الرغم من أنه يمتلك مسانده . لا اعتراض ولا قبول ، هذا اخطر ما في الأمر ، سوى أن وزيراً الثقافة قادم من وحدة خاصة ، أراد للوحات الدولة أن تستريح في معرض افتراضي .دفع نفور الوزراء السابقين الوزير روني عريجي إلى اعتراض النفور هذا بمتحف لا يضيق باللوحات ، حين ضاقت بالمتحف الشاشة وهو يروح ويجيء مستعرضاً لوحاته ، بدل أن يدوسها كما داسها الآخرون . ثروة لا يؤنسها شيء بصمت الزوايا . ثروة مخفقة تقيم بالظلال بلا دليل . إنها بالزمن المتوحش ، في زمنها المتوحش ولا تزال ، تريد أن تبقى مع جمهورها ، حين تريدها البيروقراطية أن تبقى موزعة في أدغالها وكأن بها مرضاً إذا ما عولجت منه سوف تشاهد وهي ترقص في حركات مجنونة. متحف افتراضي يتيم ،أعزل، تظهر فيه اللوحة كالبحة في بردها وهي تلبس الحيطان الباردة، كما تلبسها الحيطان الباردة . ما افتقده المعرض الإفتراضي الأنسنة ، إذ بدت لوحاته لطخات، تم إظهارها لتمر على عيون الزائرين . تذكر الوزير داوود داوود المتحف الإفتراضي ، ولو أنه لم يشهره بالتدفق فوق أنامله ، لمَّا تطاير المتحف في عهد الوزير عباس مرتضى كما لو أنه مقبرة ، حيث تواشج مع وزارة الزراعة . لأنه وزير بوزارتين ، منح واحدة للعتمة والأخرى للمسرحة . وجد الرجل نفسه في رواقين ارتاح في واحد منهما . ذلك أن الثقافة عنده نبي كافر بوعد فاجر . هكذا ،وجدت الثقافة بعهده شيء من هباءات الجدات . هكذا، جاء المتحف في عهده كشدوة التائه . أضحى برزخاً أجوف ، لمَّا لم يفكر وزير منذ ميشال إده ، وزير الثقافة الأول في لبنان ، بتخصيص فناء وتحديثه للخروج من الفراغ الفكري إلى الإمتلاء المعماري ،علماً أن الوزارة تمتلك المجموعة الأثرى بعالم التشكيل . وهي مرشوشة كالضحكات البريئة بأكثر من مساحة بعيداً من الترميم . هذا موت عبره جميل ملاعب بجنونه . رجلٌ فردْ يحقق ما لم تحققه السلطة . إنها معجزة المبادرة الفردية . شهقةُ روح ، مرت من فوق الخواطر بدون احتداد وبدون خوف من مرارة الندم . قاده الوله إلى وعي فكرة ترشيد العلاقة بالفنون، كمفترق ندي ، غداة البين، ضد سير النسيان، نسيان من أعلوا السليقة والإحتراف . هكذا ، أقام الرجل المربوع القامة ، ذو القبعة الأجنبية على الرأس ما دام صاحياً يسلي جن الرسم ، هكذا أقام متحفه كما لو أنه يرفع الشمس على الصباح . هكذا أقام متحفاً، بعد أن غذى فكرة لا تدغدغ قدر ما تنبني على مواجهة العمى في هذا العالم القاحل، لمَّا حوَّل فراغ الفراغ إلى أجنحة خضراء حافلة بوقع أجراس الحقبات والمراحل التشكيلية في لبنان . صحيح أن المتحف نما أولاً على فكرة عدم الإنحراف إلى تجارب الآخرين، بتخصيص الفكرة السكرانة بلوحاته ومنحوتاته ، غير أنه إذ وجد أن حافلة الهواء العملاقة ليس سوى بيت عنكبوت لا يلتقط سوى لوحاته، راح يعزز المتحف بلوحات عتاعيت الفن التشكيلي اللبناني والسوري ، وكل من رأى الله بالرسم وهو يرتفع كالشجر ضد التجهم إلى سدرة ذكرت دوماً بحراس الرسم الأول ، من رسموا الغزلان والأسود والغزوات والصلوات على جدران الكهوف . هذه وليمة دفلى ، هذه وليمة حجاج الصيف والشتاء والخريف والربيع ، من يطوفون كالأدخنة يجيؤون من كل فج عميق ، من الأسرار ، من ماء الحياة الساخن أو من قصائدها .

لا يستعرض الأستاذ المتقاعد من الجامعة اللبنانية رتبة ولا رائحة ولا صدى ولا حزن قديم لم يرَ . لأن الرسم سوسته، طريقه الجبلية ، تستنفر الرسامين لكي يعلقوا عرقهم على الحوامل والجدران .ما يهمه أن يدغدغ ناره، لا أن تدغدغه النار. كأنه يتلبس روح الطريق وهو يجول مع زواره ، بطوابق المتحف الخمس. كأنه يتلبس ما واره من وارى ، خارجاً من سوأة الظن ، سوأة الظل ، خارجاً إلى ما فات لكي لا يحسب على الموت . لكي يحسب على الحياة . لا يمدح التهور ولن ، إذ يعتقد أن ما تلتف عقاربه عليه آت لا محالة ولو بملاعبة الأقدار وكل سواد ينهش العيون . لم يتهور وهو يتسلق جدران الفكرة العالية بجوع من لا يخشى تقديم القرابين ، من لا يخشى أن تلزمه القرابين ليفتح بهارجها على نفسه ، ثم على الجمهور ، وهو يدري أن القرابين لا تطلع من عصا الساحرة . لا تطلع إلا من الأصابع ، من طلع اللحم من اللحم ، من رذاذ الروح ، من مراكب صيادي الغيم بالحدقات . أشعل الرجل نداه كما يشعل الغيم نداه . بخاطره ، كل لوحة قطرة توقع رحلاتها فوق الوجوه، وكأنها أحجام بلا أجنحة ، حتى لا تطير . لكن من يعرف ، يعرف أن اللوحات تطير حين تضحي وحدها .وحين تلف الأرض رائحة الأرض وهي وحيدة تناظر الوحدة بدون خوف . إذاك ، تضحي أشياء مترفة لا تعرف الخوف . ثمة سلام مدهش بالطوابق ، حيث تتبادل اللوحات البريد وهي تتقفى آثار بعضها . أجنة ببطن امرأة حامل . لوحات ملاعب على الحوامل وعلى الجدران حارسة الوصال بينها وبين اللوحات الأخرى . يرسم الرجل على كل شيء : القماش ، الورق المقوى ، جذوع الأشجار ، الكراسي ، الطاولات، الأرض ، الجدران . يحفر ، ينحت ، يسري بين التراب وكل صلب . يرسم على الأنفاس ، الأمطار ، الغبار ، الألواح ، الصمت . يرسم على كل شيء سوى الكلام . لأن الكلام جهر ، حين أن اللوحة تجهيز وتلغيز الخط بالخط والألوان والحدس وشياطين الأصابع . لوحات وأشغال نحت ومبتكرات لا يمتلك أحد أسرارها إلا من استقام ضد العقم . ثمة لوحات بعيون زرق وأخرى بعيون عسلية ولوحات بعيون فرحة بالتنفس على طريقتها ، لا بخروج الهواء ودخول آخر ، وهي تتدلى ككاهنات كل واحدة بإزار . لوحات ملاعب بأكثر الطوابق ، لمَّا تحتفل لوحات الفنانين الآخرين بحضورها بطابق ونصف طابق ، على قاعدة هنيئاً أيها الهالك ، من لم يترك وصية وهو يشرف على الآخرة . جهر ملاعب بحياة من لا يزالون أحياء ومن ماتوا ، جماعة من من اقتربوا منه بالصداقة أو من تقربوا إليه بالإشارات وكسرات الفن وتلمس الطريق بعيداً من الكوكتيلات والغايات( إشترى معظم اللوحات ولا يزال يشتري، أو تبادلها مع أصحابها بلوحات جدفت يداه عليها ليلاً نهاراً) .هذه جنة بلوحات كحبات البلوط، ا تنهش جزءاً من عتمة المنطقة ، جزءاً من عتمة البلاد ، حين تواجه البلاد أزماتها وهي تتلمس الخروج منها بكل شيء .بأحجار الطريق والعولمة والخصخصة والمتغيرات الثقافية والإجتماعية والإقتصادية المغلوبة بوجهات المنتجين . ثلة من الأسماء الهامة ، البارزة، بتاريخ الفن التشكيلي في لبنان في طابق ونصف من لا يراها أعمى بامتياز. كل لوحة ذئب يسمع غناؤه لا عواؤه.حسين ماضي ورفيق شرف وأمين الباشا وحسن الجوني وقيصر الجميل وعارف الريس وفروخ وحبيب سرور وداوود القرم وخليل صليبي وشوقي شمعون وعمر الأنسي ورشيد وهبي وعشرات الأسماء الأخرى ، من لم تتعثر وهي تقفز فوق المضائق حتى حطت في هذا المتحف الأشبه بالصمتة الكبرى ، وهو ينأى عن مفهوم السوق ،لكي لا تستمر ألعاب التورط في”الخطيئة الثقافية ” أكثر . مناظر طبيعية وبورتريهات وأوتو بورتريهات وطبيعة صامتة .إكسترا كلاسيكية واكسترا حداثة في قميص واحد . ولو أن اللوحات، كل لوحة أوسع من قميص . عجين العالم التشكيلي وخبزه في متحف نيوكلاسيكي، روح نمط معماري نتاج الحركة الكلاسيكية الجديدة في فرنسا وايطاليا القرن الثامن عشر . غير أن الرياح تلقح الرياح ، لمَّا نكتشف بعضَ من مواسم هجرات زهى حديد وهي تعابث التخطيطات ،ترى فيها سحنة وجهها بدون أن تطاطئ أمام نواح العمار الجديد .

متحف بعيدٌ من العاصمة ، على أمل أن تأتي النحلات بالشهد الأصفر :كسر للمركزية ، كسر لنقر السوق ، كسر الإستهلاك بالإحترام وحماية اللوحات والأسماء . لا كخلائط ، بل كتجارب محكوكة بجمر الأيام . الطبيعية والانطباعية والتكعيبية والواقعية . بورصة المناهج ، هنا، صوت الحضور الوليد لذاكرة نسي ، لم تعد نسياً مذ علقت على جبين الهواء. هنا ، متحف جميل ملاعب للفنون التشكيلية بحيرة من ذرة وزعتر في مجرة لا تصوم ، إلا لتفطر على الفن والثقافة( ثمة متحف بالمدينة هو متحف سرسق ، لا يزال يحيا على قوى ومساعدات المؤسسات العلمانية واللاعلمانية) . هنا ، الإلتحام . هنا ، القدر الحر . حيطان سعادة لا حائط مبكى . هنا ، القوافي الحية على مسافة أشبار من هسة الأفعى وتغريد الطير وتلوي الهواء ووزة النحلات الخضراء . متحف / نقش لا ينهش العيون من فرط بنائه على هندسة الحديقة . الزائر صياد لا يحتاج إلى عرقه ليشاهد أو يرى . ذلك أن هندسته هندسة دفق هبوط الهندسة الشرقية على الهندسة الغربية والهندسة الغربية على الهندسة الشرقية ، بحيث إذ تسير ، تمشي ، تجول ، إنما تفعل كما لو أنك في قافلة من فرح ، لا حيرة . كأنك تتمم تيممك بالطريق إلى صلاتك . لا حاجة إلى أجنحة ، حين تسمع أصوات العصافير والحمائم والزرازير لا تلتقي إلا على السمع والطاعة للطبيعة الأقرب إلى بحر مهيب .

لا شيء سوى التغريد في هذا المزار الفريد . قناطر وقباب ونوافذ وباحات وساحات وجدران ، محفورة بالأظافر . مؤسسة تصور بديل في العلم والمعرفة بعيداً من مروج السياسة و بقلب الفكر والفكر “الآخر”. سعيٌ إلى تداخل المقاربات في بناء هيبٍ ، دال ،مستدل ، متمهل ، مغطى بأقصى الصمت في خيام الدلالة .

الكلام على ارتياد الألحان جلدٌ من جلود المتحف ، حيث وجد جميل ملاعب أن من خدوش المشروع أن يطرق على الرسم والتشكيل دون الفنون الأخرى .هكذا، لم يفته أن يجهز جزءاً من الطابق الأرضي بما تقوله أشهر الوقفات بالعالم ، على صعيد الموسيقى والموسيقيين . إذن ، هو محفلٌ تتعالق فيه الأنشطة والحفلات الموسيقية من غرف موسيقية وأوركسترات لا عددية ، يدلها إلى صراط المتحف ريبال ملاعب ، الموسيقي المعروف بالعالم ، من حوَّل جزء الموسيقى إلى وطن ، بعد أن استثمر عيشه في سويسرا لكي يهدر بالدعوات لمن يوجه وجهه لرسم الفرح المتبقي على جهات العالم . تمائم تنقض حدة تسيد الرسم والتشكيل واللوحة للمتحف ، إذ يدعو الفنان الموسيقى، بفرقها العزيزة، إلى الفوز بمائها. كما يدعو الأغنية والمغنين إلى الفوز بحصصهم من ماء هذه البحيرة الفريدة . خمس طوابق تحيط بها منازل بيصور والقرى والبلدات الأخرى بجبل لبنان ، من شرتون الأشبه بالنزل على سفح الجبل إلى عاليه وقبرشمون . بيصور جزءان ، جزء بالهواء يتبوأ هندسة الأحياء الإيطالية. وجزء على الأرض هادئ كما لو أنه تخلق من إنفجار لايرغب أحد بنسيان وقوعه حين يبغي الشدو أو الكر والفر على الطرقات ذات النبض النفاث.

البلدة لله وناسها من جابهوا الوجع بالتآلف . المتحف لله، ضد الهرطقة والنواح على مشاريع بعيدة من عفن السلطة وهي تقام على المبادرات الفردية . كأن الأخيرة غفران أم . البلدة لله وناسها ، إثر نجاتها من الحروب الأهلية وانقلاب جروحها وغفلاتها إلى آذان حياة . إنها تشبه إمرأة تغتسل بطين واديها لا بهواء وماء كهوف الموت . لن تقع في صقيع المسافات بالطريق إليها ، حيث تقودك الطرقات كالأوراد، حيث تقودك العلامات كما لو أنها بصمات رجال حطوا من السماء على الأرض. سوف تشكر الأرقام ، سوف تشكر الشِعر على الطريق ، الماء في هدأة الطير ، الرائحة بالخبز ، الصلوات السرية ، الدعوات الصادحة بجدولة وفهرسة النغمات . خلق جميل ملاعب المتحف على جغرافيا البلدة . خلق ملاعب المتحف كما تخلق ديدان القز الحريرات . إذن ، تلوح اللوحة للآفاق ، كما تلوح الموسيقى . صاحبة الجلالة الأخرى تعتلي عرش الفن ، حين يحيي ابناؤها حفلاتهم ليقيموا في بيصور على مدى أيام ، ثم يغادرونها كالكنعانيين القدماء ، من قبة الذهب إلى فيض الدمع. ألمان وسويسريون وأميركيون وانكليز ومن الأراضي المنخفضة . هكذا ، نجت . هكذا ، لم تقع ضحية معتوه أو صراف . لا قيمة سوى للأفكار العفيفة ، المثالية ، حيث تلتم على نفسها كنوارس تسرد رقصها على أنوار الماء . المتحف جزء من سيرة الدمع ، جزء من سيرة الفرح.بدأ المتحف من هجاء البياض ، يقول. ثم ، من البياض ، يقول . ثم من تخيل الوقع على الواقع . لا أموال ، يقول . خاطرة فقط ، أخرجت الفكرة المتلبدة إلى أناشيط الأفعال . فكرة كقصب السكر . هذا أولاً . ثم معاقرة الفكرة بوضع الفلس ، كل فلس على شفة المشروع .فلس على فلس ، يفعل الله ما يشاء . ثالثاً، لا تعجل للخطو ، حيث يقود التعجل إلى العجز في عقد العزم على ارتفاع الوحدة. وحدة ترتفع وحدة وحدة ، كلما تأمن مبلغ من المال . وإذ ترتفع الصعوبات ، لا نعترض عليها إذ واجهناها بالأمل ، يقول . لم يساهم أحد ، لا جمعية ولا مؤسسة ولا منظمة ولا سلطة ولا مرجع ولا سياسي ولا نائب بقيام المتحف / المشروع بعد أن خرج من التحقيق إلى التحقق. لم يشارك أحدُ من هؤلاء بحفل الإفتتاح ، لأنني لم أدعُ أحداً. كل من جاء جاءبصفته الشخصية .لأن ثمة حضور نفور . الدخول بلا تعرفة . دخول مجاني . ذلك أن الرجل لا يبخل على الزائر لا بشرب القهوة ، ولا برواية . كل رواية مدخل إلى ممالك مطحونة بالتعب والإجتهاد والفقر الأول . لا تلعق الحروف نفسها مع استاذ الرسم والرسام ، من لم يدخل في مزاياه .إذ فضل نفسه عليها ،حين قفز أو عبر من زمن إلى مرحلة ومن مرحلة إلى مرحلة . مرحلة ما قبل السفر ، المرحلة الجزائرية ، المرحلة الأميركية ، المرحلة النيويوركية، مرحلة العودة إلى بيروت ، مرحلة الغجري الباحث عن لوحته في جولاته على الدول والبلدان كجوال يحول المنظر / المشهد إلى العجب العجاب . إبن بطوطة التشكيل هادئ . ذهب من التجريد إلى التجسيد والتقسيم والتفريد والتحديد والتجديد. لوحة مجددة . لا تزال يده تطقطق عليها بكل الأوجاع . الرسم يدرك نفسه بالأوجاع . ثمة روح طقسية بلوحات ، رقة برقة الدمع وقوته وملوحته بلوحات ، ضفاف الأبيض المتوسط بلوحات ، ضفاف الأطلسي ، ألوان ماتيس لاورقه. هذا رجل يكرم وجهه حين يكرم الرسم ، حين يكرم التشكيل . هذا ما اشتهاه ، هذا ما حققه. لا قصر ولا ثكنة ولا مربط خيل . مائدة للشمس ، وقفٌ بريءٌ من كل حطام . الأجمل عنده ، حين يتفقد الطوابق واحداً واحداً. ذلك أنه يظهر ، إذاك ، كما لو أنه في دورية تزخر بالمسك ، ناعورة من الحب والإهتمام.

العدد 120 / ايلول 2021