مصارف اليونان تنهض مجدداً وتنظيف محفظتها المتعثرة تحدٍ أول

صندوق النقد يتوقع 3.3% نمواً لأثينا هذا العام وانخفاض مستويات الدين

هلا صغبيني

وأخيراً ، إنها “النهضة اليونانية”. توصيف ورد في تقرير لــ”بنك أوف أميركا” في يوليو الماضي عن مصارف اليونان التي عصفت بها أزمة مالية غير مسبوقة في الاتحاد الاوروبي في العام 2010، ولا تزال ندوبها واضحة الى اليوم على رغم تلقي أثينا حزمة مهمة من المساعدات من الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد والبنك الدوليين أنقذتها من الإفلاس. فقد أدى تفشي وباء كورونا الى تفاقم الوضع الاقتصادي في اليونان الملتهبة في هذه الايام نتيجة حرائق

مصرف “ألفا” باع محفظة قروض متعثرة قيمتها 10.8 مليارات يورو

الغابات، الأمر الذي أبطأ مسيرة التعافي المنشودة.

يبدو “بنك أوف أميركا” متفائلاً بشأن توقعات اقتصاد اليونان وسنداتها السيادية ومقرضيها المحليين. فهو يقول إن أثينا “طوت الصفحة.. وتمكنت من تحسين ملف المخاطر الخاص بها، واستعادت ثقة الأسواق وسهّلت تبسيط التقارير المالية الخاصة بمصارفها، في وقت يصار الى انشاء صندوق خاص بالجيل المقبل بهدف تعزيز الناتج المحلي الإجمالي والاستثمارات”.كما يشير إلى أن المصارف اليونانية تستكمل تنفيذ برنامجٍ ضخم لمبيعاتها من محفظة ديونها المتعثرة التي يتوقع أن تنخفض الى ما نسبته 5 في المئة من القروض الاجمالية في العام 2022 من حوالي 30.2 في المئة راهناً. وقدّم دفعاً كبيراً ومباشراً لسندات اليونان عبر اعلانه أنها لا تزال جذابة على المدى القصير بفضل الدعم المتوافر من المصرف المركزي الأوروبي، ومن دون أن يبدي خشية من التأثيرات والتداعيات التي قد تترتب جراء انتهاء “برنامج طوارئ شراء السندات” (PEPP) أو Pandemic emergency purchase programme المتوقع في مارس (آذار) المقبل، والذي كان أُطلق في مارس (آذار) الماضي في ذروة الموجة الأولى للوباء.

لاشك أن مصارف اليونان كانت تحتل أحد أعلى مستويات القروض المتعثرة في منطقة اليورو بعد أزمة الديون الأوروبية أو أزمة الديون السيادية الأوروبية في نهاية عام 2009، والتي أصابت عدداً من الدول الأعضاء في منطقة اليورو (اليونان والبرتغال وأيرلندا واسبانيا وقبرص). ويتألف النظام المصرفي اليوناني من 8 مصارف تجارية وسبعة مصارف تعاونية و21 مصرفاً أجنبياً تدير فروعاً محلية. ومن بين المصارف الثمانية، هناك أربعة مصارف نظامية، أي المصارف الكبرى التي لها تأثير كبير على الاقتصاد المحلي.

وبحسب أرقام المصرف المركزي اليوناني التي نشرها في تقريره السنوي الأخير، فإن محفظة القروض المتعثرة بلغت 47.4 مليار يورو في نهاية ديسمبر (كانون الأول) 2020، وهو رقم كبير جداً ونسبته إلى القروض الإجمالية لا تزال مرتفعة عند 30.2 في المئة، مقارنة بالمتوسط الذي يسجل في مصارف الاتحاد الأوروبي والبالغ 2.6 في المئة فقط. لكن، وفي مقارنة مع ذروة هذه المحفظة الرديئة في مارس (آذار) من العام 2016، فان مخزون القروض المتعثرة انخفض بنحو 60 مليار يورو، بشكل أساسي من خلال مبيعات القروض وعمليات الشطب. وهو ما دفع بالمصرف المركزي الاوروبي إلى الإشادة بجهود المصارف اليونانية وحديثه عن تقدم ملحوظ حققته في التعامل مع إرثها الثقيل بعد تجاوزها اختبارات القدرة على تحمل الضغوط المالية التي أجريت لها العام الماضي.

المثير للقلق في تقرير “المركزي اليوناني” والذي يخالف ما جاء في تقرير “بنك أوف أميركا”، توقعه أن يزداد تأثير وباء كورونا على وضعية القطاع المصرفي في العام الحالي، في شكل أعداد جديدة من القروض المتعثرة التي يقدّرها بأن تراوح بين 8 مليارات يورو و10 مليارات في 2021. وهو ما ينسف الجهود الحثيثة التي بذلتها العام الماضي المصارف الاربعة الرئيسية (“المصرف الوطني لليونان” و”إي أف جي يوروبنك” و”ألفا” و”بيريوس”)، والتي

قطاع السياحة يشكل خُمس اقتصاد اليونان

تمتلك معاً أكثر من 95 في المئة من إجمالي أصول النظام المصرفي اليوناني، من أجل تنظيف ميزانياتها. اذ يسجّل لهذه المصارف أنها نجحت في خفض محفظتها من القروض المتعثرة بأكثر من 11 مليار يورو في 2020 بفضل “مخطط هرقل لحماية الأصول” الذي ساهم في تقوية القاعدة الرأسمالية لمصارف اليونان ككل بعد تقليل محفظة قروضها المعدومة وجعلها أكثر جاذبية للمستثمرين الدوليين، وتوسيع فرص التمويل في الأسواق.

وشاطرت وكالة “فيتش” للتصنيف الائتماني التي أبقت مؤخراً على تصنيف ديون اليونان على”BB”  مع نظرة مستقبلية مستقرة، قلق المصرف المركزي اليوناني من تسجيل قروض متعثرة جديدة هذا العام، وعبّرت عن تخوفها من المستويات المرتفعة للحجم القروض المشكوك في تحصيلها أو الرديئة في ميزانيات القطاع المصرفي اليوناني، ورأت أن القطاع لا يزال يمثل ضعفًا في ملف الائتمان السيادي رغم التقدم الذي حصل في معايير جودة الأصول.

وكانت التطورات التي حصلت في ملف القروض المتعثرة دفعت بالحكومة اليونانية في العام 2019 الى تقديم خطة للمفوضية الأوروبية على أمل مساعدة مصارفها في التخلص نهائياً من ديونها المتعثرة في محاولة لاستعادة الثقة في قطاعها المصرفي. أعقبها في بداية العام 2020 طلب المصرف المركزي اليوناني من الحكومة إنشاء مصرف للديون المتعثرة وتلك المشكوك في تحصيلها بهدف تخليص المصارف منها، وذلك بشرائها وتصفيتها بعد ذلك.

اليونان تعود الى الخارطة المالية الدولية

حاكم المصرف المركزي اليوناني

الواضح أن المصارف اليونانية بدأت تعود تدريجاً الى الخارطة المالية الدولية. فسوق قروضها المتعثرة راحت تحظى باهتمام المؤسسات الاستثمارية العالمية. نذكر هنا شركة “بلاك روك” الاميركية وصندوق الثروة السيادية في النروج اللذين شاركا في إبريل (نيسان) الماضي في عملية زيادة رأسمال جديدة لمصرف “بيريوس”. هذا الأخير توصل قبل شهر الى اتفاق مع شركتين دوليتين لإدارة الائتمان لبيع 7.2 مليارات يورو من القروض المتعثرة. ومن جهته، مصرف “ألفا” باع محفظة قروض متعثرة قيمتها 10.8 مليارات يورو و80 في المئة من مقدّم خدمات القروض “سيبال هولدنغز” إلى صندوق “ديفيدسون كيمبنر” الأميركي.  كذلك، أنجز المصرف نفسه في بداية يوليو (تموز)، زيادة رأس المال بقيمة 800 مليون يورو. كل هذه التطورات الايجابية في اعادة هيكلة القطاع المصرفي اليوناني تقاطعت مع تصويت مجلس النواب اليوناني على شريحة ثانية من الضمانات لـ”مخطط هرقل” بقيمة 12 مليار يورو لمعالجة الديون الرديئة.

وكانت الحكومة اليونانية حصلت في يونيو (حزيران) الماضي على تقويم ايجابي من المفوضية الأوروبية لخطتها للتعافي من كورونا والتي ستسمح لها بالافادة من القرض الأوروبي المشترك الذي يهدف إلى تخفيف الآثار الاقتصادية للجائحة. ومن المتوقع أن تتلقى اليونان أموالاً بقيمة 31 مليار يورو من ضمن خطة التعافي الاوروبية، ما يجعلها أكبر مستفيد نسبة الى حجم اقتصادها، تليها رومانيا. فيما حصلت على برنامج إنقاذ بقيمة مليار يورو من البنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية الذي يُعد جزءاً من آلية “سهولة التعافي والمرونة” التابع للاتحاد الأوروبي،

هذه الهبات والقروض التي يوفرها الاتحاد الاوروبي من ضمن آلية “سهولة التعافي والمرونة” والبالغة قيمتها الاجمالية 672 مليار يورو، تعتبر جوهرية اليوم للمصارف اليونانية لأنها تعكس مدى قدرة هذه الأخيرة على إقناع المستثمرين بأنهم سوف يحققون أرباحاً من جديد من جهة، وعلى مدى استعادتها لدورها في الإقراض وأن يكون لها حصة في تمويل مشاريع البنى التحتية وتوفير الاموال للموردين.

الانتعاش

بعد سنوات عديدة، لم يعد النمو الاقتصادي في اليونان أقل من معدله في منطقة اليورو. فصندوق النقد الدولي يتوقع أن ينمو الى 3.3 في المئة في 2021 وأن يتسارع ليصل الى 5.4 في المئة في 2022. فيما تتوقع المفوضية الأوروبية أن ينمو بنسبة 4.3 في المئة عام 2021 و6 في المئة عام 2022.

لكن هذه المعدلات بالكاد تكفي للتعويض عن تداعيات كورونا، ناهيك عن عقد من الركود. فبسبب حظر السفر، يتوقع أن تكون عائدات قطاع السياحة الذي يشكل خُمس اقتصاد اليونان، أقل من النصف تقريباً عما سجلته في السنوات السابقة. إذ تشير التوقعات الى بلوغ هذه العائدات 8 مليارات يورو في 2021 أي أقل من نصف 18 مليار يورو المحققة في 2019. علماً أن احتمال تحقيق اليونان لهذه الأرقام ودفع معدلات النمو، غير مؤكد في ظل نقص العمالة رغم معدل البطالة في اليونان البالغ 16.5 في المئة، وهو أعلى معدل في الاتحاد الأوروبي.

وقد عانت اليونان في العام 2020 من أسوأ موسم سياحي منذ عقود، حيث استقبلت 7 ملايين سائح فقط (بانخفاض عن 33 مليون زائر في 2019) جلبوا إيرادات بـ4 مليارات يورو.

كما أن العديد من المقترضين في قطاع الضيافة أجلوا دفعاتهم المستحقة لفترات طويلة رغم محاولة الحكومة اليونانية مساعدتهم تجنباً للتخلف عن السداد. وكانت المصارف الأربعة المشار اليها أعلاه قد جمدت ما مجموعه 19.2 مليار يورو من القروض أثناء الوباء من أجل حماية المقترضين العاجزين عن سداد ديونهم.

لكن رغم ذلك، فان “ارنست أند يونغ” ترى أن اليونان عادت اليوم بيئة جاذبة للاستثمار. اذ أظهر مرصد الاستثمار الأوروبي زيادة عدد الاستثمارات الأجنبية المباشرة بنسبة 77 في المئة في عام 2020، حيث استوعبت اليونان 0.7 في المئة من الاستثمار الأجنبي المباشر الأوروبي عام 2020 – أي أكثر من ضعف متوسطها على مدى العقدين الماضيين.

على اي حال، فإن صندوق النقد الدولي حذّر في تقرير “المادة الرابعة” الخاص باليونان، من أن استمرار تفشي جائحة كورونا التي أدت الى انكماش اقتصاد اليونان بنسبة 8.2 في المئة في 2020، يضيف شكوكاً غير مسبوقة ومخاطر سلبية على جميع القطاعات. وتوقع في الوقت نفسه أن يكون الاستثمار من خلال تمويل منح الاتحاد الأوروبي، والاستهلاك المكبوت الممول من خلال سحب الودائع، واستئناف السياحة، هي المحركات الرئيسية للانتعاش. كما توقع انخفاض مستويات الدين العام اليوناني على المدى المتوسط “لكن عدم اليقين أكبر من أن نصل إلى نتيجة مؤكدة بشأن استدامة الدين طويل الأجل”. فاليونان تعاني واحداً من أكبر أعباء الديون في العالم، بدين سيادي يبلغ حوالي 350 مليار يورو، وهي ثاني أكبر مدين، بعد اليابان، من حيث نسبة الدين إلى الناتج المحلي الاجمالي، والتي تتجاوز 180 في المئة.

ختاماً، لا شك أن اليونان في طور العودة الى الحياة بعد الازمات المتلاحقة التي تعرضت لها والتي فاقمتها كورونا، لكن المستوى المرتفع لتعثر قروض مصارفها يشكل عبئاً كبيراً وعائقاً أساسياً أمام توفير الائتمان للقطاع الخاص. من هنا، فان سرعة معالجة هذا الملف هو أمر جوهري لانطلاقة الاقتصاد اليوناني توازياً مع تكثيف الإصلاحات الهيكلية والمالية لبلوغ النمو المنشود.

العدد 120 / ايلول 2021