تونس: “ثورة” قيس سعيد

رئاسة الجمهورية تتحدث عن مواجهة الفساد وحركة النهضة تتحدث عن انقلاب

محمد قواص

رغم مسلسل الصراع بين رئيس الجمهورية التونسية قيس سعيد على مدى الشهور الأخيرة، ورغم الصراع بين رئاسة الجمهورية ورئيسي الحكومة والبرلمان، لم يتوقع المراقبون أن يلجأ الرئيس سعيد إلى التدخل  في مسار الحكم وسياقه مستخدما بعناية الدستور ومواده. وحتى حين اعتبرت حركة النهضة وحلفاؤها أن ما يمارسه الرئيس انقلاب

قيس سعيد: الرئيس الذي فاجأ تونس

على الديمقراطية والدستور، بدا أن تلك الحجج لا تستقيم مع رئيس منتخب يحظى بثقة شعبية وتتعامل معه دول العالم أجمع

مفاجأة الانتخابات

لم تتوقع الاستطلاعات عند بدء حملة الانتخابات الرئاسية الأخيرة في تونس فوز قيس سعيد بالمنصب حتى حملت الدورة الثانية التي جرت في 13 تشرين الأول (اكتوبر) من عام 2019 المفاجأة. لم تعر التحليلات ترشح الرجل اهتماما في الأيام الأولى، ولم يلفتها خطابه الطهراني البعيد عن الأدوات المتعارف عليها داخل اللغة السياسية المعتمدة منذ سقوط نظام زين الدين بن علي.

كانت حركة النهضة التي تمثّل التيار الإخواني في تونس والتي يتزعمها الشيخ راشد الغنوشي قد رشّحت للمنصب عبد الفتاح مورو. أخفق الرجل في تجاوز المرحلة الأولى من الانتخابات فدعت الحركة إلى التصويت بكثافة للمرشح قيس سعيد. وعند إعلان فوز الأخير بنسبة ساحقة عبّرت “النهضة” عن فرحة عارمة بفوز “مرشحها”، واعتبر متحدثوها أن هوية الرئيس تأتي منسجمة ملتحقة بثمار الانتخابات التشريعية التي كانت جرت قبل أسبوع. وبدا للوهلة الأولى أن تحالفا خفيا قد جرى في عتمة بين أستاذ القانون وشيخ “النهضة.”

وللنسب والأرقام ديناميات لفهم  التحوّل في مزاج التونسيين في الأسبوع الذي فصل الانتخابات التشريعية عن الرئاسية، على النحو الذي قد يفسّر حيثيات الأزمة الحالية. انخرط التونسيون بالانتخابات الرئاسية بنسبة مشاركة وصلت إلى 55 بالمئة وهي نسبة عالية جدا مقارنة بنسبة المشاركة قبل أسبوع في الانتخابات التشريعية التي وصلت إلى 41 بالمئة فقط. فاز قيس سعيد بنسبة كاسحة وصلت إلى 72 بالمئة متغلباً على منافسه رجل الأعمال نبيل القروي الذي حصل على 27 بالمئة من جملة الأصوات..

عبّر فوز قيس سعيد عن رسالة شعبية حازمة ضد كل الطبقة السياسية التي ظهرت واجهاتها بعد سقوط النظام السابق. حتى أن فشل مرشح حركة النهضة الرئاسي عُدّ هزيمة تأكدت في الانتخابات التشريعية. من خارج هذا الفضاء السياسي اخترق رجل، لوحده، لا حزب وراءه، السباق الرئاسي ليفوز بهذه النسبة الساحقة ويعبر عن رغبة شعبية في توضيح رسائل الانتخابات التشريعية، سواء في الحرد النسبي من المشاركة أو في تراجع حركة النهضة (رغم تصدرها لائحة الفائزين) بالفوز بنسبة 19 بالمئة وحصولها على 52 مقعدا (من أصل 217) في البرلمان بعد أن كانت تشغل 61 مقعداً قبل ذلك.

من كوكب آخر

ما بين 72 بالمئة لسعيد و 19 بالمئة للنهضة فرق صاعق. لا يهمّ. هللت حركة النهضة لانتخاب سعيد ومنّت النفس بأن يكون لها رجل في قصر قرطاج يكون بديلا عن فشل مرشحها الأصيل. ونجحت في تشكيل تحالف ماكيافيلي مع أحزاب بعضها كانت تصفه بالامتداد للنظام السابق أو تتهمه بالفساد، وهي التي كانت تردد رفضها العمل مع “من لا يؤمن بمبادئ الثورة ومن له شبهات فساد”. وعوّلت في مناورتها على الرئيس الجديد لتشكيل كتلة تنفيذية تراها “منسجمة” في ما أفصحت عنها نتائج الانتخابات الرئاسية والتشريعية.

غير أن قيس سعيد بدا أنه مترجل من كوكب آخر. نهل من رصيده الانتخابي الهائل وراح يعد بـ “المدينة الفاضلة”. في تقييمه من رآه إسلاميا محافظاً اندفعت “النهضة” باتجاهه. وفي التقييم من رآه يساريا أو بورقيبيا أو حتى شعبويا مقلقا. لكن الأكيد أن الرجل، وعلى الرغم من تواضع صلاحياته الدستورية، استطاع إعادة تفعيل موقع الرئاسة في الوجدان الجمعي للتونسيين بصفته قوة أمان  ومرجع حكمة وربما مصدر قوة بورقيبية. شغل الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي شيئا من هذا الدور بالمداراة وعقد التسويات، فيما يشغله قيس سعيد هذه الأيام بالمواجهة والصدام.

والحال أن سعيد لم يمارس السياسة بمعناها الحرفي إلا حين أصبح رئيسا للجمهورية. وحتى حين خاض حملة الانتخابات الرئاسية استخدم خطاب المبشّرين لا خطاب السياسيين. اكتشفه الناخبون معتمداً على حملة انتخابية بسيطة ومباشرة. لم يعرفوه قبل ذلك إلا قانونيا أحسن الأداء والظهور في وسائل الإعلام منذ عام 2011، مفسّرا مبسّطا موضّحا المسائل الدستورية المعقدة خلال كتابة الدستور الجديد للبلاد عام 2014. ولم يُعرف الرجل قبل ذلك إلا أنه استاذ القانون الدستوري، وبقي لقب “الأستاذ” يصاحبه في الحياة العامة احتراما وتقديرا لمكانته العلمية الأكاديمية.

ويطرح الحدث التونسي الراهن أسئلة حول طبيعة القرارات التي اتخذها قيس سعيد معتمدا على تفسيره (في غياب المحكمة الدستورية)  للمادة 80 من الدستور التونسي. ولا ريب، وهو العارف بالقانون وديباجات الدساتير، أن

راشد الغنوشي: هل فشلت حركة النهضة؟

الرئيس التونسي يذهب إلى “الحل الجذري” مستعينا بترسانة قانونية تبعد عنه تهمة “انقلاب” لا تستسيغها الدول المانحة وقد تشعل سجالا يهدد المسار الديمقراطي الذي انجزته “ثورة الياسمين.”

سعيد والغنوشي

على أن الاستقرار هو المفتاح الأساسي الذي سيعتمد عليه سعيد لتمرير “الحركة التصحيحية” لمسار العملية السياسية في بلاده. ولئن لا يسمح الدستور لرئيس البلاد بحل البرلمان والدعوة لانتخابات تشريعية تعالج الانسداد السياسي، فإن الرئيس التونسي تسلّح بما هو قصور في نص الدستور لاقتراح مخارج مثيرة للجدل تخلّص البلد من أزمة خطيرة فاقمت جائحة كورونا من وقعها على التونسيين.

والواضح أن هذا الاستقرار الذي يتحراه سعيد مدعّما لموقعه وقراراته يعتمد على التزام المؤسسة العسكرية والأمنية بطاعة قائدها رئيس البلاد، ويستند على تواصل مع مؤسسات تونس النقابية (الاتحاد العام للشغل خصوصا) والمدنية والاقتصادية والسياسية، وينهل من موقف دولي ما زال “متفهما” مراقباً  غير عدائي متريثاً ناصحاً باحترام الأصول الديمقراطية وصون منابرها.

وفي السجال الذي بات مواجهة بين “الشيخ” و “الاستاذ” ينكشف صراع بين منطقين ومدرستين في معنى الدولة وكيفية إدارتها وفي هوية تونس السياسية. يمثّل الأمر أيضا مأزقا جديدا للإسلام السياسي الذي حاولت “النهضة” إنكاره من خلال نظرية “الشيخ” حول فصل السياسي عن الدعوي. ويمثل الحدث أيضاً صراع تونس مع الطارئ في حاضرها في لحظة تبدّل به مزاج التونسيين كما المزاج الدولي العام عما كان عليه عشية سقوط بن علي قبل أكثر عشرة أعوام.

قد يكون مشروعا الخوف على ديمقراطية تونس. بيد أن الدستور الذي أراد أن يقلص من صلاحيات الرئيس لردع عودة الديكتاتورية ويرفع من صلاحيات البرلمان، فشل في إرساء سلطات تدير البلد وتقود مساراته. والأمل أن يكون الحدث مناسبة لإصلاح ما أفسدته الهواجس والنصوص المتعجلة.

هو مشهد معبر عن حقيقة الأزمة نقلته الفضائيات مباشرة. وقف “الشيخ” يتأمل جنودا ينفذون أمر “الاستاذ” بتجميد سلطات البرلمان. توجه صوت مرافق للشيخ يناشد جنديا بالقول : نحن أقسمنا على الدفاع عن الدستور”. أجاب الجندي بشكل مباشر وبديهي: “نحن أقسمنا على الدفاع عن الوطن”.

سقوط بن علي

بثّت الفضائيات في كانون الثاني (يناير) من عام 2011 مشهداً سرياليا (يكاد يكون هوليوديا) لمواطن تونسي يردد في شارع ليلي خلا من المارة قولته الشهيرة: “بن علي هرب، بن علي هرب”. بدا أن “ثورة الياسمين” التي اندلعت قبل ذلك في البلاد إثر حادثة مقتل الشاب محمد البوعزيزي أمام مقر ولاية سيدي بوزيد في 17 كانون الأول (ديسمبر) 2010، قد نجحت في اسقاط النظام في تونس وهجرِ الرئيس لمنصبه وقصره وحكمه.

من أسقط الرئيس زين العابدين بن علي

غير أن الخاتمة الحميدة لثورة الناس بدت لمعارضي زين العابدين بن علي قبل مواليه مفاجئة صاعقة غير متوقعة، على الأقل بهذه السرعة غير المبررة. كانت كافة مؤسسات البلاد تعمل والتحركات الشعبية تحت السيطرة. كما أن تجمعات الناس، على أهميتها وشيوعها، في مدن تونس، وخصوصا في العاصمة، لم تكن بعد لتشكل خطرا وجودياً على النظام، ولم تكن تهدد يقينا أمن الرئيس وحياته. ومع ذلك فإن “بن علي هرب”.

تجاوزت تونس على نحو مريب هذا السرّ الغامض، اعتبرته تفصيلا ودليلا على هشاشة النظام الذي يحكم البلد، وراحت تجترح عملية سياسية بديلة تحت عنوان “التحوّل الديمقراطي”. وبدا أن حكام البلاد الجدد قد تلقوا بركة خارجية “جبارة” تغضّ الطرف عن “انقلاب” ما، غير دستوري، وله أدوات أمنية عسكرية، أطاحت على عجل برئيس البلاد مسوّقة الأمر وفق إطار “الثورة” و “رغبة الجماهير”. وبناء على قواعد ذلك “الانقلاب” المحتمل قام النظام السياسي الذي حكم تونس منذ عشر سنوات.

لا أحد في تونس، لا الموالين لبن علي ولا معارضيه، أثار مسألة حدوث “انقلاب” في تلك الليلة التي حملت بن علي لمغادرة البلاد على عجل. وحده عبد الفتاح مورو لمّح إلى الأمر وكرر تناول الحدث بصفته غموضا لا أحد يريد فضح حقيقته.

عبد الفتاح مورو

التقيت الشيخ عبد الفتاح مورو في تونس في خريف عام 2014. والرجل محام وداعية وشخصية مشهورة في تونس وخارجها وصاحب كلمة حرة وجريئة في تناول مسائل السياسة والدين. عرفته البلاد داخل “الاتجاه الإسلامي” ثم أحد المؤسسين لـ “حركة النهضة” مع الشيخ راشد الغنوشي. شغل مورو منصب نائب رئيس الحركة وكان مرشح الحركة للانتخابات الرئاسية عام 2019 والتي فاز بها قيس سعيد.

قال مورو: “إننا لا نعرف ماذا حدث في قصر قرطاج” عشية الإعلان عن مغادرة بن علي البلاد في 14 كانون الثاني يناير 2011. أضاف أن الحشود الهائلة في تونس العاصمة كانت على بعد 17 كلم من قصر قرطاج، وأن بن علي في قصره كان محاطا بقوة حماية يصل تعدادها إلى ثلاثة آلاف جنديا من الصفوة، بما كان يبعد عنه هذا الخطر الداهم الذي يضطره إلى الفرار.

لم يكن الشيخ المحامي يتحدث في اجتماع مغلق، بل هي تصريحات علنية متلفزة يمكن متابعتها على شبكات الانترنت. لم يلفظ مورو كلمة “انقلاب”، لكنه تحدث عن “ميكانيزمات غامضة” أجبرت بن علي على مغادرة البلاد على هذا النحو المفاجئ للجميع. وحين سألتُه عما منع “حركة النهضة” التي تشارك بالحكم منذ سقوط بن عن إماطة اللثام عما حدث في قصر قرطاج، قال إن الأمر ما زال غامضا.

قامت “الديمقراطية” في تونس وصفقات الحكم بعد “ثورة الياسمين” على قاعدة غموض “ميكانيزمات” توحي بأن انقلابا أطاح ببن علي. وفيما أن هذه العتمة هي مصدر السلطات التي قادت البلاد إلى تجربة ملتبسة مثيرة للجدل قادت إلى الفشل، فإن ما يصدر عن قصر قرطاج هذه الأم، أيا كان تقييمه والجدل حوله، يجري بشكل فائض في الشفافية التي لا تترك لأشد خصوم الرئيس قيس سعيد حججا مناوئة ذات مصداقية. حتى تهمة الانقلاب تكاد تكون حجة متعجلة يشوبها تلعثم شديد يصعب الدفاع صحتها.

ولئن تعتبر قصة صعود قيس سعيد ظاهرة نادرة في اختراقه، وحيدا، وبدأب تفصيلي، كل الطبقة السياسية القديمة والطارئة، إلا أن شفافية الرجل تكاد تكون مفرطة بحيث أن لا أسرار تحيط به ولا كواليس يدبر خلفها مواقفه. كشف قيس سعيد المرشح عن آرائه وأسلوبه ووعوده، وراح بنفس النمط والشفافية يعبر عن مواقفه ويصادم ما يتنافى مع مصالح البلد، حسب رأيه، حين أصبح رئيسا. ومن يراقب أداءه منذ ما قبل القرارات التي بدأ باتخاذها في ٢٥ تموز (يوليو) الماضي يسهل عليه استبعاد أي غموض يقف وراء هذا التحول المفصلي في تاريخ البلاد.

أميركا وتونس

دشّنت “ثورة الياسمين” التونسية، في أواخر عام 2010 حتى نهايتها أوائل عام 2011، حقبة ما أسمي بـ “الربيع العربي”. وفيما عبّر “الربيع” في بعض البلدان العربية عن حراك عفوي أصابته عدوى الحدث التونسي، بدا أن إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما آنذاك ترعى إنعاش جماعات الإسلام السياسي لا سيما “الإخوان المسلمين” وجعلها قاطفة لثمار “الفوضى الخلاقة” التي كانت بشّرت بها عام 2005 كونداليزا رايس في حديث لـ “واشنطن بوست” حين كانت وزيرة للخارجية الأميركية آنذاك. وكان راجت في الأروقة الأكاديمية خلال السنوات التي سبقت “الربيع” مفاهيم توصي بتسليم المنطقة لـ “إسلام معتدل” يكون قادرا على استيعاب جماعات الجهاد والإرهاب.

برلمان تونس: المواجهة والشلل

بدا أمر الانعطاف “الإسلاموي” أكثر وضوحا في الحالة المصرية لاحقا، بما يؤكد أن ما حصل في قصر قرطاج في تونس عشية رحيل بن علي كان متأثراً بإرادات التحول الجبارة التي ترسمها الولايات المتحدة في المنطقة. كانت “ويكيليكس قد كشفت في مراسلات هيلاري كلينتون ما يتطابق مع هذا التحولات في تونس. لاحقا نقل عن بن علي حديثه عن خدعة تعرض لها محملا مسؤولية رحيله إلى قرار أميركي.

 ما تغير على قصر قرطاج هذه الأيام هو سلسلة من التحولات. تلك التي شهدتها تونس في تجاربها الممتدة على مدى العشر سنوات المنصرمة، بما في ذلك تجربة حركة النهضة في الحكم. وتلك التي شهدتها بلدان المنطقة التي أسقطت نهائيا “الترياق” الإسلاموي. ونلك  التي شهدها العالم، وخصوصا في الولايات المتحدة نفسها، والذي بات يتعامل مع المنطقة وفق معطياتها وليس وفق المعطيات التي تراد لها.

تغيرت تونس وبات الشيخ عبد الفتاح مورو والشعب التونسي يعرفون بدقة ما يجري في قصر قرطاج دون لبس أو غموض. يبقى أن لتونس تاريخ من العقلانية ومتانة في الدفاع عن الوسطية والاعتدال وإعمال العقل بما يوفر للبلد الخروج من مأزقه. ويتمتع البلد باهتمام إقليمي ودولي على نحو لا يدعم سعي البلاد إلى عدم الوقوع في مطبات سلبية محتملة.

ما بين 72 بالمئة لسعيد و 19 بالمئة للنهضة فرق صاعق. لا يهمّ. هللت حركة النهضة لانتخاب سعيد ومنّت النفس بأن يكون لها رجل في قصر قرطاج يكون بديلا عن فشل مرشحها الأصيل. ونجحت في تشكيل تحالف ماكيافيلي مع أحزاب بعضها كانت تصفه بالامتداد للنظام السابق أو تتهمه بالفساد، وهي التي كانت تردد رفضها العمل مع “من لا يؤمن بمبادئ الثورة ومن له شبهات فساد”. وعوّلت في مناورتها على الرئيس الجديد لتشكيل كتلة تنفيذية تراها

ارتياح التونسيين لقرارات سعيد

“منسجمة” في ما أفصحت عنها نتائج الانتخابات الرئاسية والتشريعية.

قال مورو: “إننا لا نعرف ماذا حدث في قصر قرطاج” عشية الإعلان عن مغادرة بن علي البلاد في 14 كانون الثاني يناير 2011. أضاف أن الحشود الهائلة في تونس العاصمة كانت على بعد 17 كلم من قصر قرطاج، وأن بن علي في قصره كان محاطا بقوة حماية يصل تعدادها إلى ثلاثة آلاف جنديا من الصفوة، بما كان يبعد عنه هذا الخطر الداهم الذي يضطره إلى الفرار.

غير أن قيس سعيد بدا أنه مترجل من كوكب آخر. نهل من رصيده الانتخابي الهائل وراح يعد بـ “المدينة الفاضلة”. في تقييمه من رآه إسلاميا محافظاً اندفعت “النهضة” باتجاهه. وفي التقييم من رآه يساريا أو بورقيبيا أو حتى شعبويا مقلقا. لكن الأكيد أن الرجل، وعلى الرغم من تواضع صلاحياته الدستورية، استطاع إعادة تفعيل موقع الرئاسة في الوجدان الجمعي للتونسيين بصفته قوة أمان  ومرجع حكمة وربما مصدر قوة بورقيبية. شغل الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي شيئا من هذا الدور بالمداراة وعقد التسويات، فيما يشغله قيس سعيد هذه الأيام بالمواجهة والصدام.

من هو قيس سعيد؟

برز الأستاذ الجامعي قيس سعيد بكثرة منذ حلول الثورة التونسية ليوضّح للشعب التونسي أخطاء الدستور ويبسّط التعديلات التي طرأت عليه بكل احترام ومرجعية أكاديمية، ليبني في هذه الأثناء قاعدة جماهيرية كبيرة لدى الشعب التونسي.

عُرفت الدورة الانتخابية التونسية بالزلزال الانتخابي بعد ترشح قيس سعيد للدورة الانتخابية الثانية بنسبة 18 بالمئة كمرشح مستقل لم يقبل المنحة المقدمة من الدولة للقيام بالحملة الانتخابية معتبرها من أموال الشعب وهم أحق فيها، ودخل السباق الانتخابي بتمويل ذاتي بسيط جداً استطاع كسب ثقة الشعب من خلاله.تعرف على السيرة الذاتية الإنجازات والحكم والأقوال وكل المعلومات التي تحتاجها عن قيس سعيد.

ولد قيس سعيد في 22 شباط / فبراير عام 1958 في عاصمة الجمهورية التونسية تونس للسيد “منصف سعيد” والسيدة “زكية”، عُرفت عائلته بتاريخها الثقافي والتعليمي فعمه السيد “هشام سعيد” كان أول جرّاح أطفال في تونس،

درس قيس سعيد في المدارس الابتدائية والثانوية للعاصمة التونسية والتحق بكلية الحقوق والعلوم السياسية في تونس ليحصل عام 1985 على شهادة الدراسات العليا في القانون الدولي العام، وفي عام 1986 حصل على دبلوم الأكاديمية الدوليّة للقانون الدستوري،

وبعد سنوات مهنيّة قليلة عاد إلى شغفه التعليمي ففي عام 2001 حصل على دبلوم المعهد الدولي للقانون الإنساني بمدينة سان ريمو في إيطاليا.

تزوّج قيس سعيد بالقاضية والمستشارة بمحكمة الاستئناف ووكيل رئيس المحكمة الابتدائية في تونس السيدة “إشراف شبيل”، ورزقَ الزوجان بثلاثة أولاد هم صبي، وابنتين.

قيس سعيد: علومه ووظائفه

بدأ حياته المهنية عام 1985 فكان له دور في موضوع العلاقات بين الجمهورية التونسية ومجموعة البنك الدولي.

وفي عام 1986 بدأ بالعمل كمدرّس بكلية الحقوق والعلوم الاقتصادية والسياسية في جامعة مدينة سوسة التونسية حتى عام 1999.

عام 1987 شارك في وضع النصوص والوثائق السياسية التونسية بالاشتراك مع العميد الفخري لجامعة قرطاج الأستاذ “عبد الفتاح عمر” كما قام كل منهما بطرح بعض التعديلات على الدستور التونسي والمنظمات الدولية، وكان له دور في بيان الجوانب القانونية في النزاع العراقي الإيراني، كما كان الوكيل العام للجمهورية التونسية في تونس، كما شارك في هذا العام في أعمال المؤتمر العالمي الثاني للجمعية الدولية للقانون الدستوري الذي أقيم في فرنسا.

عام 1989 كان عضو في فريق خبراء الأمانة العامة لجامعة الدول العربية المكلف لإعداد مشروع لتعديل ميثاق الجامعة العربية، كما كان مقرر اللجنة الخاصة لدى الأمانة العامة لجامعة الدول العربية لإعداد مشروع النظام الأساسي لمحكمة العدل العربية ونظامها، وفي هذا العام طرح رأيه وعمل على كل من حرية ممارسة الشعائر الدينية في تونس وبعض التعديلات على اليمين في القانون الدستوري التونسي.

عام 1990 كان كاتب عام إلى أن نُصّب نائب رئيس الجمعية التونسية للقانون الدستوري.

عام 1991 شارك في أعمال المؤتمر العالمي الثالث للجمعية الدولية الدستوري الذي أقيم في عاصمة بولندا، مع متابعة أعماله ومناصبه السابقة.

عام 1993 شارك في أعمال الأيام التونسية الفرنسية للقانون الدستوري الذي امتدّ إلى عام 2001، كما أصبح في هذا العام خبير متعاون مع المعهد العربي لحقوق الإنسان، بالإضافة لتوليه مراقبة دستورية القوانين في تونس وطرح آرائه على موضوع الإسلام والاقتراع العام في تونس.

عام 1994 كان له دور ورأي فعّال في ظهور فكرة السيادة في الفكر العربي الإسلامي كما أصبح مدير قسم القانون العام لكلية الحقوق والعلوم الاقتصادية والسياسية بجامعة سوسة.

عام 1996 شارك في الأعمال القانونية في ملتقى “القانون في دول المغرب العربي” المُقام في مدينة الرباط، وطرح قوانين في الفكر العربي الإسلامي.

عام 1997 أصبح عضو بالمجلس العلمي ومجلس إدارة الأكاديمية الدولية للقانون الدستوري، ورئيس مركز تونس للقانون الدستوري من أجل الديمقراطية، كما شارك في أعمال ملتقى “مراقبة دستورية القوانين” الذي أقيم في موريتانيا.

عام 1998 شارك في أعمال ملتقى حول السلطة التشريعية في دول المغرب العربي

عام 1999 عمل كمدرّس بكلية العلوم القانونية والسياسية والاجتماعية بجامعة تونس، وطرح وعمل على أفكار في البرلمان التونسي.

عام 2001 طرح ودرس الاستقلاليّة الدستورية في تونس وفي عام 2002 كانت له دراساته في الدستور والأحوال الشخصية وشارك الندوة العربية حول الحركة الدستورية في الدول العربية التي أقيمت في بيروت، كما شارك أيضا في أعمال الندوة الدولية حول تمكين المرأة في الدول العربية التي أقيمت في الأردن.

عام 2003 شارك في أعمال الندوة العربية التي أقيمت في بيروت من أجل الحكم الرشيد في الدول العربية، وشارك في مناقشة تقرير التنمية الإنسانية في إطار جامعة الدول العربية في مدينة القاهرة في مصر.

عام 2004 كانت له أفكار لإصدار مجلس المستشارين في تونس، وفي عام 2007 كانت له دراساته في السلطة التأسيسية تحت الاحتلال في كل من حالتي العراق وأفغانستان.

منذ عام 2011 برز بظهوره الإعلامي على منابر عديدة ومنها مواقع التواصل الاجتماعي فظهر ليبسّط ويشرح المواضيع القانونية والدستورية وخاصّة المعدّلة منها في دستور الجمهورية التونسية عام 2014 الذي شارك هو أيضاً بكتابته.

منذ عام 2011 على حوالي عام 2018 ظهر في فيديوهات كثيرة على أغلب مواقع الواصل الاجتماعي وأكّد على ضرورية توزيع السلطة على جهات عديدة في مجالس جمهورية منتخبة تعيّن بدورها ممثلين لها لإيصال أفكار وإرادة الشعب إلى السلطة، وعلى أهمية أن يكون القرار السياسي لا مركزي بتلك الخطوات الديمقراطية الشعبية.

عام 2019 وأثناء خوض المعركة الانتخابية الأولى في تونس، رشّح قيس سعيد نفسه مع حوالي 25 مشترك، ليتخطّى هذه الدورة الأولى بالمركز الأول مع نسبة 18.4 % تقريباً، وكان منافسه الآخر هو “نبيل القروي” الذي تخطى هذه المرحلة بنسبة 15.5% تقريباً وانتقلا للمنافسة في الدورة الانتخابية لثانية،

وفي مساء يوم الأحد 13 أكتوبر 2019 بعد يوم انتخابي طويل شهدته مدينة تونس، فاز المرشّح قيس سعيّد في الانتخابات الرئاسية بدورها الثاني بحوالي نسبة 77% من أصوات الناخبين، ليُصبح في هذا اليوم الرئيس الخامس للجمهورية التونسية

قيس سعيد: حقائق سريعة

كان عنوان حملة قيس سعيد الانتخابية “الشعب يريد”، وقدّم نفسه كمرشّح مستقل رافض أي حزب أو جهة معينة، مؤكّد أنه لن يمثّل ويتمثّل إلا بإرادة الشعب التونسي.

رفض قيس سعيد جميع الأموال ولمنح المقدمة من الدولية لدعم حملته الانتخابية مبرراً ذلك بأنها أموال الشعب ولا يستطيع سلبها، فاعتمد في دعم حملته الانتخابية على مكتب صغير وسط العاصمة تونس وعلى تبرعات أنصاره من ملصقات وصور أعدّوها لإيمانهم به دون أي مقابل، مما شكّل صدمة كبيرة للأحزاب التقليدية ومرشّحيها.

لطالما اعتبره طلابه في كلية الحقوق انساناً مستقيماً يُحتذى به، كما اشتهر بصرامته في مهنته التعليمية من جهة، وفي حبه واهتمامه بأحوال أصدقائه المدرّسين وطلابه من جهة أخرى.

قيس سعيد رافض تماماً لفكرة المساواة في الميراث، ورافض لرفع تجريم المثلية، ومؤيّد لعقوبة الإعدام وعلى ضوء هذه الأفكار صنّفه الكثيرون منذ بداية ترشيحه بالإسلامي المحافظ.

العدد 120 / ايلول 2021