إنتفاضة الشعب العربي في الآحوازومشاهد المستقبل

أ.د. مازن الرمضاني*

قبل تناول صلب الموضوع أعلاه, من الضروري الإشارة إلى بعض الملاحظات ذات العلاقة الوطيدة به, تجنبأ لسوء الفهم, وكالآتي:

أولآ:  إن البحث في هذه الإنتفاضة لا يرمي إلى التنبؤ بمستقبلها, بمعنى القول الحاسم بما ستؤول إليه .فالقدرة الإنسانية لا تستطيع ذلك على الرغم من إيجابيات مخرجات الثورة العلمية الراهنة.

ثانيأ:وعليه, سيكون إستشراف المستقبلات الممكنة و/أو المحتملة لهذه الإنتفاضة هو محور الإهتمام, هذا تماهيأ مع إتجاه عالمي سائد بين المستقبليين يذهب إلى رؤية المستقبل كمشاهد متعددة وليس كمشهد واحد وحتمي. ولهذا ينتشر بينهم إستخدام كلمة المستقبلات, بدالة الجمع لكلمة المستقبل.

إنطلاقأ من مجمل معطيات الحاضر ذات العلاقة بالموضوع أعلاه, سنعمد إلى الآجابة على السؤال الآتي: كيف يمكن و/أو يحتمل أن يكون مستقبل إنتفاضة الشعب العربي في الآحواز خلال زمان المستقبل المتوسط الممتدد من الآن إلى عشرين عامأ؟

وللإجابة  على هذا السؤال, سيتم الإنطلاق من مقاربة منهجية شائعة الإستخدام بين المستقبليين عالميأ, هي مقاربة بناء المشاهد. وبها يقصد ذلك الإجتهاد العلمي المشروط, الذي يعمد إلى توظيف إليات العلم والخيال سبيلآ لإستشراف المشاهد البديلة لمستقبل ثمة موضوع إنطلاقا من  مخرجات معطيات الحاضر. أما بالمشاهد فيقصد بها حصيلة التطور الذي مر به ثمة موضوع,  ابتداءً من الحاضروصولآ إلى أحد ألإزمنة المتعددة للمستقبل.

وعليه, تفيد مجمل المعطيات ذات العلاقة بموضوع إهتمامنا والمؤشرات الدالة على تاثيرها, أن مستقبلات إنتفاضة الشعب العربي في الاحواز تتمحور حول ثلاثة مشاهد بديلة ومتباينة,وإن كل منها يتأسس على فرضية تم بلورتها على وفق معطيات الواقع ,وكالاتي:

أولا: مشهد الإعتراف الرسمي بحق الآحوازيين في تقرير المصير.

ثانيأ: مشهد الرفض الرسمي لحق الآحوازيين في تقرير المصير.

ثالثأ: مشهد تكرارإندلاع الآنتفاضات وإستمرار الرفض الرسمي  لمطالبها.

وتجدر الإشارة أن الإنتفاضة الراهنة, التي إندلعت في 15 تموز الماضي, كانت ابتداءً بسبب تحويل مياه أنهر الآحواز إلى داخل إيران لغايات يتفق الرأي على إنها متعددة  وبحصيلة تكمن في اكراه سكنة الآحواز من العرب على مغادرة اراضيهم وتوطين غير العرب فيها, هذا لغرض تحييد كتلة سكانية كبيرة نسبيا ( نحو 10 مليون نسمة) لا تدين بالولاء إلى الايرانيين الفرس وتتطلع إلى الحرية. ويُعد معروفأ أن لا جذور تربط عرب الآحواز بهم. ويتكرر القول إن إستخدام إيران للمياه ضد الآحوازيين هي حالة تكاد تكون غير مسبوقة.

فأما عن المشهد الآول, المتفائل, فهو يفترض أن مخرجات إنتفاضة الآحواز متفاعلة مع تراكمات تكرار إنتفاضات سابقة ( 18 إنتفاضة) قد أفضت إلى بناء تلك البيئة الملائمة لتحقيق غايتها, أي الآعتراف الرسمي  بحق تقرير المصير وبما يؤمن للشعب العربي في الآحواز حقوقه القومية والدستورية, ومن ثم صناعة مستقبله الآفضل من الحاضر. ونرى أن هذا المشهد يُعد حصيلة للآتي:

  1. مخرجات استمرار المعاناة من سياسات الإكراه والتهميش والآقصاء والتهجير والتفريس والتمييز, فضلا عن ديمومة المشاكل الاقتصادية والاجتماعية الناجمة عن هذه السياسات وسواها. إن هذه المخرجات أفضت إلى إنتشار قناعة احوازية بعدم كفاية مجرد المطالبة بالاصلاح الشامل لتأمين الانتقال بالآحواز إلى واقع جديد ومختلف.

ومما ساعد على ذلك أيضأ غياب الثقة بين الآحوازيين والنظام الإيراني الحالي جراء عدم الالتزام الرسمي بالوعود ذات العلاقة بحق تقرير المصير. ومثال ذلك الوعد المعطى من قبل الخميني قبل احداث عام 1979 لضمان مشاركة الآحوازيين في تلك الاحداث. وقد تم التراجع عنه بعدها.

إن هذه القناعة تفسر التطور في مضامين الشعارات المرفوعة من تلك التي تطالب بالخدمات إلى أخرى ذات مضامين سياسية ومثالها (بالروح نفديك يا احواز) .

  1. نوعية الدعم والاسناد والتضامن, الذي أضحت إنتفاضة الآحواز تتمتع به في اقاليم الآثنيات والقوميات الآخرى التي تتشكل منها الدولةالإيرانية/الفارسية. ولم يكن هذا الدعم والاسناد بمعزل عن تاثير الإدراك بالمعاناة المشتركة والاحساس المشترك بالعنصرية الفارسية المعادية لهذه الاثنيات والقوميات غير الفارسية. وبهذا الصدد, تجدر الإشارة إلى أن الانتفاضات , التي اندلعت في إيران عبر الزمان, كانت قد بدأت أولا في الآحواز ثم انتقلت إلى بقية ارجاء الدولة.

إن هذا التضامن الواسع إن دل على شئء فإنه يدل على نقمة شعبية واسعة, وتفكك واضح في الهوية الجامعة للدولة الإيرانية/الفارسية, فضلا عن عدم قدرة النظام الإيراني على التعايش مع المكونات القومية الاخرى لهذه الدولة. ولهذا يتكرر القول إن هذا النظام يتجه إلى فقدان شرعيته.

  1. إستجابة الشعب العربي في الآحواز لإغراء صناعة المستقبل الواعد, سيما وإنه لا يستطيع , كسواه, أن يكون بمعزل عن مخرجات التفاعل الايجابي مع عملية تغيير العالم, ومن ثم الإرتقاء بإستجابته إلى مستوى تحديات هذه العملية. فالتغيير يجعل الآحواز دولة قوية ومؤثرة, هذا جراء توافرها على مقومات القدرة على الفعل.
  2. نمو إدراك مفاده أن حصول الاحواز على حق تقرير المصير سيدفع بدول العالم إلى الاعتراف به, وبضمنها الدول العربية,وهو الآمر الذي قد يساعد على تكرارالطلب المقدم إلى جامعة الدول العربية عام 1968 لمنحها عضويتها.

واما عن المشهد الثاني, المتشائم, فهو يفترض ان النظام  الآيراني استطاع, عبر استخدام القوة المفرطة, قمع الانتفاضة الراهنة, وعلى النحو الذي يتماهى مع انتفاضات سابقة كتلك التي حدثت مثلا في عام 2009 وكذلك في عام 2019, ويُعد هذا المشهد حصيلة للمعطيات الآتية:

  1. الآهمية الخاصة للآحواز. تتمتع الآحواز بثمة خصائص جيوبوليتيكية واقتصادية(وبضمنها نفطية وغازية) وعسكرية وغيرها تجعل منها بمثابة العمود الفقري للدولة الايرانية, والذي لا يستطيع نظامها المحافظة على ديمومته من دونها.  ولهذه الآهمية, ينبع الحرص ليس فقط على تفريس شعبها العربي, وإنما كذلك الحيلولة دون إستقلالها أو حتى تمتعها بالحكم الذاتي في الآقل, وبإدوات اكراهية, ولاسيما اللجوء إلى توظيف القوة المفرطة. إن كيفية التعامل مع الانتفاضات المتعددة, التي عاشتها إيران عبر الزمان, يؤكد ذلك.

وق قيل أن مستوى القمع , الذي تمت ممارسته ضد الآحوازيين قد فاق في نوعيته أي ممارسة إكراهية أخرى. فهذا القمع لم يكن سياسيا وأمنيا فقط وإنما كذلك ثقافيا ولغويا. وقد صار أيضا مائيأ. وتجد الإشارة إلى أن كثافة هذا القمع تزامن مع اللجوء إلى سياسة الاعدام لبث الخوف والرعب سبيلا لضمان ديمومة البقاء. ويُعد معروفأ أن إيران من بين أكثر الدول لجوءأ إلى هذه السياسة, التي تشمل حتى الآطفال.

  1. تبني سياسة فرق تسد بين تيارات/ مكونات الحركة الوطنية الآحوازية. تتوزع أهم هذه التيارات ثلاثيأ على: تيار يطالب بالاستقلال ويدعو إلى استخدام القوة من أجل ذلك, وتياريجعل من حق تقرير المصير أو الحكم الذاتي وبادوات سلمية بمثابة هدفه الآساس, وأخيرا تيارثالث يجعل من النضال السلمي للمطالبة بالحقوق القومية والدستورية ضمن الفدرالية وسيلته الآساس. إن هذا التنوع يتيح للنظام الإيراني ثمة فرص لإستمالة بعض هذه التيارات عبر الترغيب إلى جانبه, ومن ثم تشتيت الجهد الرافض والمقاوم للسياسات المتعددة والمناهظة للحقوق القومية والدستورية للآحوازيين.
  2. توظيف مخرجات تباين مواقف المعارضة الإيرانية, ولاسيما منظمة مجاهدي خلق, الحركة الملكية , المجاميع القومية واليبرالية الإيرانية, حيال الانتفاضة الآحوازية. فعدم اعتراف هذه القوى بحق الاحوازيين في تقرير المصير ينطوي, ضمنا أو صراحة, على دعم للسياسة الرسمية حيال تيارات الحركة الوطنية الاحوازية, أي سياسة فرق تسد, ومن ثم يحول, أو في الآقل يعطل, دون توحيد الجهد المعارض الشامل. والنظام الإيراني لم, ولا , يتردد عن توظيف ذلك لصالحه, خصوصا وأن هذا النظام يدرك أن توحيد هذا الجهد قد يؤدي إلى سحب جانب من التجربة السوفيتية علية, ومن ثم إسقاطه. فهذه التجربة افادت بدور الآطراف في إسقاط المركز. فحركات المعارضة ضد القيادة السوفيتية بدأت من أطراف أوربا الشرقية مرورأ بدول البلطيق وصولا إلى العاصمة موسكو. والشىء ذاته يمكن أن يحدث في إيران. فالمعارضة الإيرانية, بكافة أطيافها, قادرة على تعبئة المجتمع المدني الإيراني في الآطراف وصولا إلى العاصمة, خصوصا إذا توافرت القناعة المجتمعية أن نجاح الإنتفاضة الشاملة يعد ممكنأ.
  3. الآخذ بسياسة الحياد من قبل ثمة دول حيال الانتفاضة الآحوازية. فثمة دول, هنا وهناك, تعمد أما إلى تغليب مصالح منشودة من قبلها مع النظام الإيراني, أو تتجنب الدخول في مواجهة مباشرة معه. فمثلا تتبنى الولايات المتحدة الآمريكية في عهد إدارة بايدن السياسة ذاتها, التي اعتمدها أوباما حيال إيران, أي سياسة الترضية وعدم الاستفزاز. فمثلما تغاضى أوباما عن السياسة الإيرانية الداخلية والخارجية لاسيما حيال دول الخليج العربي من أجل تحقيق إنجاز شخصي له تمثل في عقد الاتفاق النووي, كذلك يعمل بايدن من اجل عقد اتفاق نووي جديد. فإدارته اكتفت بمطالبة إيران لفضيأ وبما يفيد بمنح القوميات غير الفارسية حقوقها الدستورية.

وبالمقابل, استمرت الدول العربية تتبنى سياسة الحياد تجنبا للدخول في مواجهة مباشرة مع النظام الإيراني. فالدعم العربي للانتفاضة الإحوازية يرى فيه هذا  النظام تدخلا في شأنه الداخلي. وخبرة الصراع الدولي تؤكد أن تدخل أحدى الدول في صراع داخلي في دولة أخرى قد يفضي إلى صراع بين هاتين الدولتين قد يتصاعد الى حرب بينهما. والواقع العربي الراهن لا يتحمل تصاعد الصراع الراهن بين بعض الدول العربية وايران الى مستويات أكثر حدة. وسياسة الحياد هذه امتدت لتشمل أيضا وسائل الآعلام الرسمية. فهذه أما لم تتناول الإنتفاضه الآحوازية إطلاقا, أو توقفت عن ذلك.

 وعلى الرغم مما تقدم , لا يعني هذا المشهد المتشائم أن تراجع الآنتفاضة الآحوازية, جراء الاستخدام المفرط للقوة, سيكون ممتدأ في الزمان اللاحق, وإنما مؤقتأ. والتجربة تؤكد ذلك. فالشعب العربي في الآحواز كان يعود, بعد كل إخفاق, إلى الانتفاض مرة أخرى  بزخم أكبر وثقة بالذات أعمق. ووراء ذلك كان التطلع إلى إحداث التغيير الجذري في الواقع الآحوازي السيء والممتد في الزمان منذ الإلحاق القسري بالدولة الإيرانية عام 1925 جراء  تاثيرمعطيات عالم ما بعد الحرب العالمية الآولى.

وأما عن المشهد الثالث, المتفائل والمتشائم في أن, فهو يفترض أن مستقبلات الانتفاضة الآحوازية قد تتشكل في ضوء مخرجات مجموعتين من المتغيرات المؤثرة تعبران عن مضامين كل من المشهدين الآول والثاني أعلاه.

فأما عن المجموعة الآولى, فهي تلك التي تحفز متغيراتها الشعب العربي في الآحواز إلى الإستمرار في السعي إلى تحقيق تقرير مصيره على وفق إرادتة الحرة, وبالصيغة التي يراها مناسبة لتحقيق طموحاته الوطنية والقومية. وأما المجموعة الثانية, فهي التي تعبرعن  تاثير تلك المتغيرات التي تدفع بالنظام الإيراني إلى  الإستمرار في قمع كل انتفاضة أحوازية, مثل سواها, بما لديه من أدوات إدراكا منه إن  نوعية تهديدها يستوي والتهديد الوجودي لديمومته , فضلا عن تفكيك دولته. وتندرج تحت هذه الادوات, بالاضافة إلى الاستخدام المفرط للقوة, أيضأ سياسة الترغيب, التي تكمن في الإستجابة الشكلية لبعض المطالب متزامنة مع سلوك المماطلة في تنفيذها, هذا جراء إنتفاء الآرادة الحقيقية لترجمتها إلى واقع ملموس من قبل الطرف الرسمي الإيراني. ومثالها التصريحات الرسمية ذات العلاقة. ومنها تصريحات الرئيس الإيراني السابق, روحاني.

 وفي ضوء ما تقدم أعلاه,  يبقى السؤال : ما المشهد الآكثر إحتمالا قدر تعلق الآمربمستقبلات الانتفاضة الآحوازية؟  إننا نرى, موضوعيأ, أن المشهد المرجح  هو الثالث أعلاه, ولكن لحين , أي حتى يتم حسم الصراع بين القوى الآحوازية الداعية للتغيير وتلك  الإيرانية أالرافضة له وعلى وفق مضمون اللعبة الصفرية: بمعنى الربح لطرف والخسارة لطرف اخر.

  • إستاذ العلوم السياسية/ السياسة الدولية ودراسات المستقبلات

العدد 120 / ايلول 2021