لا حل إلا بموت “الآلهة” التي خلقها اللبنانيون على مثالهم

رؤوف قبيسي

منذ استقلاله الموهوم في العام 1943، ولبنان يمارس خلطة عجيبة غريبة بين الدين والسياسة، نهج في الحكم قام على النفاق والمساومات والتسويات بين أهل الحكم، ولم يكن للشعب فيه اليد العليا في رسم السياسات وتقرير المصير. نهج كبّد البلد أثماناً فادحة، وعرضه لكوارث ما عاد يقوى على احتمالها، فإذا الزمن يكشف له أن رجال الدين لم ينفعوه، ولا هو انتفع من رجال السياسة، وكانت فاجعة المرفأ في الرابع من آب 2020، كارثة جديدة من سلسلة كوارث كبيرة واجهها البلد الصغير، من غير أن يواجه أحد من المسؤولين عنها حكم القضاء! كل الذي حدث على أرض لبنان منذ ذلك اليوم المشؤوم الذي سموه “يوم الاستقلال”، يؤكد حقيقة ساطعة كنور الشمس، ان هذه الخلطة التي طالما أسبغ عليها رجال الدين وأهل الحكم الواناً مختلفة من التلطيف، ووصفوها بانها “صيغة فريدة” في الحكم، يفاخر بها ” بلد العائلات الروحية” أمام دول الشرق والغرب، ويقارع بها إسرائيل، ويقدمها هدية للعالم، لم تكن ذلك الدواء الذي يشفي الأجسام من العلل والأوجاع، بل أشبه بفيروس قاتل، يفتك بجسد الوطن رويداَ رويدأ، ويعرضه لكل الوان المخاطر. لم يقو بلد “العائلات الروحية” بصيغته الفريدة تلك أن يحمي حتى نفسه، فضلاً عن أن يقارع بها إسرائيل، وها هي الدولة العبرية راسخة وفي أوج مجدها وسؤددها، وها هي صحارى”البدو” قد غدت كالجنائن المعلقة، فيما لبنان جائع وجريح وفي أبشع عهوده، يناشد القريب والبعيد أن يخففوا عنه جراحه، ويقف مثل لاجيء مستغيث أمام أبواب المؤسسات المالية العالمية يناشدها أن تساعده على النهوض من كبواته. قد تنسى النفس اللبنانية الحرة صفحات كثيرة من كتاب الآلام، لكنها يجب أن لا تنسى فاجعة المرفأ، وصوت تلك السيدة اللبنانية ، تتوسل إلى الرئيس الفرنسي في بيروت أن ياخذها وبنيها إلى فرنسا، أو يعيد جنود بلاده ليحكموا لبنان! أمام هذه الفاجعة الشبيهة بالتراجيديا الإغريقية، يتساءل المرء لو أن في نفوس الرابضين على كراسي الحكم عندنا، قدراً يسيراً من الشعور بالمسؤولية، ونفحة ضئيلة من عزة ووطنية وكرامة، لكان صوت تلك السيدة وحده يكفي لحملهم على الاستقالة، أو لخلعهم عن كراسي الحكم، لكن كيف لهذا الرجاء وهذه والأحلام العذاب أن تتحقق، في بلد صار على يد حكامه “الوطنيين” خراباً، بعد أن كان زمن “المستعمرين” أخضر وجميلاً.

كل الأهوال التي عاشها اللبنانيون، منذ “الاستقلال” إلى اليوم، ومنها سنوات الحرب الأهلية الدامية، كانت نتيجة طبيعية لمشكلة أساسية تتصل بالهوية، إذ لا يمكن لأي مجموعات بشرية كالتي عندنا والتي يسميها بعضنا “طوائف” أو “قبائل” ويسميها بعضنا الآخر “شعوباً” أن تكون امة حرة قوية إذا لم تفصل الدين عن السياسة، وتبني الدولة المدنية العلمانية الحرة القائمة على الثقافة الأصيلة، والتجانس المتين بين مكونات المجتمع. هذا التجانس هو بمنزلة “الوعي المقدس”، والقوة الوحيدة الفاعلة التي تدرأ الأخطارعن أي بلد يطمح إلى أن يكون حراً، وهذا ما فعله الأوروبيون، والشعوب الأخرى التي حذت حذوهم. نظام لبنان الطائفي العنصري حال دون وصول لبنان إلى مرقاة هذا “الوعي المقدس”، ومنع المواطنين من الانتماء إلى الدولة، فراحوا يحتمون بزعماء الطوائف ويدينون بالولاء لهم، وبالمراجع الدينية التي صارت مؤسساتها أشبه بالأماكن المقدسة، مأخوذين بشعارات تقسيمية عنصرية مثل “حقوق المسيحيين” و”حقوق الدروز”، أو شعارات سياسية دينية مثل “الثنائي الشيعي” وما شابه من صنوف التقسيم، غير آبهين بأنها على حساب الوطن والوحدة الوطنية، وأن المنادين بها ليسوا أهلا للحكم، بل للسجون بجرم الخيانة العظمى. ليست المشكلة في الدين. كل دولة فيها دين وأديان، وليست في “الكتب المقدسة”، فهذه محفوظة في الصدور منذ مئات السنين. المشكلة حين يساء فهمها وتفسيرها، أو حين يبتعد المؤمنون عن لبابها إلى القشور، أو حين تصبح وحدها مرجع القيم، وتختلط بالسياسة، على نحو يسيء إلى الدين والسياسة معاً. كثيرون من اللبنانيين نسوا “الإله” الذي تقول الكتب إنه خلق الإنسان على مثاله، وخلق الأرض وما عليها. أوجدوا آلهة على مثالهم، فتفرقوا شيعا ومذاهب، وتشتتوا طوائف، لكل منها طريقة خاصة في العيش، وزعيم فاسد، جريمته أكبر بما لا يقاس من جريمة فرد يغتال فرداً واحداُ. جريمة هذا السياسي أنه يقتل شعبا بكامله، يغتال أحلامه وأمانيه، يدمر قرى ودياراً باسرها، أو يمسح بالمال والرشاوى روح مدينة وذاكرتها الجماعية. يستمد قوته من جهلاء يصفقون له ويرفعونه على الأكتاف، ويطلقون له الرصاص في الهواء الطلق ابتهاجاً، كأنه أله فرعوني أو إغريقي، وتراهم، حتى في أشد المحن التي تواجههم في عيشهم، جاهزين للذود عنه، وافتدائه بالروح والدم!  ليس في “الكتب المقدسة” أثر من هذا، ولا شيء من مرض عبادة الشخصية، والقرآن يحذر المؤمنين من أن يتخذوا من دون “الله” أنداًداً، أي آلهة أخرى. ليس في الكتاب ذكر لرجل الدين، ولا لخلافة، ولا لدولة دينية من أي نوع، لا بل أن في بعض آياته، إذا تدبرها المرء بقلب سليم وعقل راجح، دعوة الى الحرية بمعناها الواسع، وإلى أن يختار، إن هو شاء، بين أن يكون مؤمنا أو كافراً. قيمة الحرية هذه، وقيم التساوي والتعارف بين البشر التي يدعو إليها القرآن في غير سورة من سوره، هي أساس الدولة المدنية العلمانية التي قامت في الغرب. هذه الدولة ماثلة أيضاً خير مثول في الإنجيل الذي يقول “المسيح” فيه “إن مملكته ليست من هذا العالم” ويطلب إلى رسله واتباعه أن “يعطوا لقيصر ما لقيصر وما لله لله” ويقول في موضع آخر “إنه مكتوب للرب إلهك تسجد، وإياه وحده تعبد”! من ثمّ الا تخبرنا سيرة نبي العرب، إذا صح ما فيها أن الإسلام جاء ليهدم الأصنام التي بنتها القبائل العربية في  العصر الذي سماه المؤرخون الجاهلية، فأذا هذه الجاهلية قد عادت إلى بلاد العرب، واشتد سعيرها في لبنان. الفارق أن أصنام الجاهلية كانت صماء بكماء عمياء لا تنفع ولا تضر، في حين أن الأصنام التي بناها الجهلاء من اللبنانيين، فتماثيل حية يحتمون بها على حساب وطنهم وأمانهم وراحتهم

لقد أخذ “الوطنيون” من رجال “الاستقلال” الحكم عن الفرنسيين. بنوا دولة تلائم مصالحهم ومصالح من يخلفهم من أبناء وأحفاد، وصار لكل منهم ماله رجاله واسلحته، ووسائله الإعلامية، وكتبة تابعون، يغمسون أقلامهم بحبر المذهبية والطائفية، وبشهوات المصالح ونزوات النفوس، والهوى الذي يفسد الرأي، والخيال الذي يعبث بحقائق الأحداث! هذا هو واقع لبنان الحقيقـي اليوم، أما الحالمون من بنيه الذين ما زالوا ينتظرون أن تأتي الحلول لمشاكلهم من العرب والفرس والترك والأجانب فواهمون، لأن هذه الحلول، لا يمكن أن تأتي إلا من الداخل، ومن الداخل وحده، لا من داخل دولة الطوائف والفساد، بل في دولة مدنية علمانية منيعة، لا تقوى الاعاصير عليها ولا أبواب الجحيم. دولة تحفظ  حاضرهم ومستقبلهم ومستقبل بنيهم، وتمحو مشاعر الخوف والغرائز الطائفية والقبلية التي زرعها النظام اللبناني العنصري في نفوسهم، ومعها اصنام القداسة، ومفردات التفخيم والتعظيم، وألقاب الشيخ والبك والدولة والفخامة والسعادة والمعالي

دماء ودموع كثيرة سالت في لبنان، وأرواح كثيرة أُزهقت، وثروات من الصعب عدها هُدرت. لكن لا بأس في ذلك كله إذا جاءت بوطن جديد سيد حر مستقل، فهذه أثمان لا بد من أن تدفعها بعض الشعوب في مرحلة من مراحل التاريخ وهي في طريقها إلى الحرية، وسعيها للوصول إلى مرتبة “الوعي المقدس”. يبقى السؤال الذي بد أن يُسال: هل سيأتي ذلك اليوم الذي يستفيق فيه اللبنانيون من سباتهم العميق ويصلوا إلى هذه المرتبة من الوعي، أم أن ما هُدر من دماء ودموع وثروات قد ذهب في غير طائل؟

هذا هو السؤال المصيري الذي لا يضاهيه سؤال آخر، ولا يعلو عليه سؤال آخر، لأن الرد عليه هو الفاصل بين الحياة والموت

العدد 120 / ايلول 2021