شبكة من أجل حفظ المادة والطاقة

“ناشط “، “النورس الثقافي”، “زوادتنا”:

عبيدو باشا

لا مجال سوى في تطوير الأدوات ، لكي لايعلق الناس في دوامة واحدة ، تتعفن تلقائياً من ركودها . اشغال ظافر الخطيب تدور حول الفكرة هذه ، حين أسس وأنشأ امبراطورية صغيرة ، دائمة ، شفافة ، يتنقل بها الناس على قوانين واضحة ، لا تنتهك حضوراً على حساب آخر . تم تدشين الامبراطورية الثقافية منذ زمن ، بصمت . الصمت طريقة عند الخطيب . كما أن الثقافة طريقة عند الخطيب . الثقافة دارته الكبرى ، لا داره الصغرى . هكذا ، خطا من ” ناشط ” الأقرب إلى الجمعية العمومية ، الى “أمسية النورس الثقافية” . وهي هيئة ثقافية، حصلها النضج كما خضبتها المشاريع . الأخيرة ذات طقوس . طقسها الأول الشراكة مع الآخر ، بدون الخوف من فقدان اللغة الخاصة . لأن النورس الثقافي جماعة تؤصل ، جماعة تأصيل ، لاجماعة دينية ولا اقتصادية ولا جمعية موضة استهلاكية .

لا لجوء إلى الفصول السابقة . لا من شيم ظافر الخطيب ولا العاملين في النورس الثقافي أن يعودوا إلى فصل قديم . لأن الفصول القديمة ، فصولٌ / شرطة ، اختارت طرق سيرها ولا تريد من الآخرين سوى العبور على طرقات سيرها المختارة ، بترتيب الأشياء واحدة وراء الأخرى . المكونات الجينية أولاً. لأن موعد النورس الثقافي الأول موعد فلسطيني ، لا يقف على مداخل المخيمات ولا على احلام الركض على الشواطئ الثقافية الداخلية في فلسطين ، علماً أن الداخل الفلسطيني قدم مكانات لا لفتات على صعيد الثقافة . بالسينما والمسرح بالأخص. فرقة الحكواتي الفلسطينية واحدة من هذه المكانات. فرقة عالمية ، قادت جزءاً من الجراح الفلسطينية في احواض جماليات افاقت في هندسات الفرقة المعمارية ، ذات التركات المتألمة من سلوك الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين . مبدعو فلسطين بالداخل الفلسطيني طيور خضراء على الشجر الأسود . من ميشال خليفي في السينما الى وهاني أبو أسعد وآن ماري جاسر ومحمد بكري ورشيد مشهراوي وايمان عون وكامل الباشا وريم تلحمي . عشرات الأسماء . هذا غير الفرق ، ذات التوجهات المضادة لأفكار الضم والقتل . فرق لا أكشاك على ما يريدها الاحتلال . شبع أول في إول فلسطين ، لا يسع فلسطينيو لبنان سوى أن يروا فيه قبلتهم الأولى ، بالطريق إلى زوادات قطافهم الخاصة . نزول فجر على رؤوس الأصابع ، يدور في ضيافة هيئات ومؤسسات وجمعيات فلسطينية ، حبلت منذ البعيد بصحبة الهبوب على حبر الأهل المكشوف لا السري .

لم تدهن تجارب الداخل الفلسطيني تجارب الداخل اللبناني بسمرتها . ثم أن الأخيرة لم ترغب باسوداد اصابعها إلا من جنوحها إلى ايقاد نارها الخاصة . لم يرد أهل النورس الثقافي أن يرتدوا ثياب الثقافة الفلسطينية بالداخل . لأنهم يريدون أن تطلع أعمالهم الثقافية من حبات جوزهم . ولو أنهم يقدرون ويحترمون ويباركون شجرة ثقافة الداخل . شجرة ذات جذور حصل عصافيرها تذاكر طيران حملتها إلى تحقيق الإشتهاءات الممنوعة على منصات العالم .

لم يفتقد التواصل مع الذاكرة الفلسطينية ، بحيث يقع تذكر بعض تجارب واجه أبطالها احكام الإعدام الفلسطينية ، كفرقة ” بلالين” وفرقة”بلا/لين” وفرقة صندوق الفرجة ، أو تجربة مسرح القصبة أو تجربة المسرح الوطني الفلسطيني . لن يقع أبطال ” النورس الثقافي ” في حب عظمة مكسورة ولا في حب الضوء الطالع من عنق الزيت ، لأنهم يشاجرون الأوضاع، باستقلالهم ، لكي يقيموا تجاربهم العمومية على أرض لبنان . الأهم ، أنهم وجدوا النعمة في الأشكال الثقافية المباشرة وفي الأشكال غير المباشرة . الاعتراف باهمية مطبخ سيدات فلسطين عناق لطقوس المناولة في مواجهة من يريدون ويرغبون في سرقة الصوت من الفم ، حين يدعون بأن المآكل الفلسطينية هي مآكلهم الغليظة ، بعيداً من كلام الحشمة اللازمة . لن يغمض ظافر الخطيب عينيه على انتهاك ما يجده العدو مادة لا تنطفئ في اثبات أن جوزة الدير في يد الراهبة ، علامة على أن الجوزة مقام المؤكد في أنها من شجرة الدير وأن الدير لا يكتمل إلا بشجره وراهباته وجوزه . المطبخ أول النهار لا آخر الليل . جزء من نفخ اللهب بالصراع الثقافي . لن تنطفئ أنوار المنازل ، ما دام أهلها يؤكدون طهرها بالقمح الخجل والزيتون / نوبة الآه . ما يغمض الله عينيه فرحاً عليها . هذا ليس سراً ممنوع التداول . لأن نزع الملاءة عن الطعام كطعام فلسطيني ، يرسم انتهاك قماط الحرام عما تحدثه سلطات الاحتلال في هذه الأنحاء . نقطة تناول ضرورية ، تحققها ناشط كصلاة من صلواتها الثلاث . حفظ ذاكرة ، ارث ، ما يحاول العدو أن يهبه الجوع . أن اهل المواطن الجوع وهو يقف أمام سفرته واحدة من أشد اشكال العنف على القامات . اشعار العالم بأنه ملكه، تسلق سماء أخرى ، لا رمي قشور في النار . انسحاب من الحلم إلى الكرم . أن تولم من جرار وخوابي وخزائن الآخر ، تبديد للقصص ، تبديد للحقائق . تربح “شاهد ” تصحيح املاء الكسور ، لأنها لم تقع في دهشة التحول . لأنها آوت الى الهدوء بعد أن نبشت هذا النيسان من صناديق البسطاء والانقياء من طافوا في سفرة العافية من طوفانهم في عباءة الطعام . لن تقوم امبراطورية ولا مملكة ولادولة بدون الإطلالة الشغوفة على السفرة . ما على الأخيرة حنان اللمس وقوى التذوق . ذلك أنها لا زوائد. إنها الصحن ، الحوض المغري في الثقافة الشعبية . جزء من الطرق الاكثر تواضعاً في اثبات الهوية . خوض في معركة بروباغندا على مستوى عال من الحساسية.لأنه يدفع إلى القفز فوق الشعور بعدم الأمان إلى الإحساس به، ما دام الطبق طبق الأصابع ، لاطبق الآخر المنحول عن من لا يعترف بالهدف وهو يقدم الطريقة على الهدف . لأن من يمتلك الهوية ، يدرك أن الهوية اجزاء في جزء . واحد من هذه الاجزاء : الطعام . هكذا ، لا يعود الكلام على الفلافل والفول مجرد طنين في آذان السامعين ، ما دام الهدف هو تآكل كل الإشارات الفلسطينية الدالة إلى التجاعيد الحميمة للفلسطينيين في فلسطين . رسم دائرة الفلسطينين في فلسطين . جزء من حرب باردة ، حرب بكواتم صوت تطلق فيها مراهم الإيمان بالالتصاق بالأرض من خلال طقوسها .

لا ينفرد “مطبخ نساء فلسطين” أو ” زوادتنا ” ولا يهدر وحيداً داخل سخان “ناشط “ولا داخل سخان ” النورس الثقافي” . يتوسطهما بحرفييه ، من تربعوا على عرش انتاج المآكل الفلسطينية والحلويات ، لا لإنهاك الغرور الإسرائيلي وكذبه، بل من أجل مراعاة العالم في حركة انفتاحه القصوى ، بشحنه بكل ما في العولمة من ينابيع سرية . مجموعات من الطباخات من الداخل الفلسطيني، ومن لبنان وتونس ومن بلاد الشتات الأخرى ، ليحضر الطعام في المنام بهيئة عروس . توسيع دائرة العمل على هذا المفهوم ، وسط الصراع الفكري على الذات من خلال الآداة . وعلى الآداة من خلال الذات . الهدف أبعد من مطبخ من الباطون المسلح على الطريق العام وقرب المنازل . أو قيام مطعم مفضل على الشاطئ ، تقوم عليه مجموعة من الشابات من يقمن من الفجر إلى النجر ، حتى تشفق عليهم وهم يصدرون ضجيجهم الخافت في واحدة من ورشات العمل الكثيرة على وجه الأيام العادية . الهدف ، استهلاك كل الطبقات السمعية وما اقامته من معايير خاطئة على أذني العالم ، من أن الفلسطيني لا يملك حتى مطبخه . وأن الأخير مطبخ مسروق . العكس صحيحُ. ولو أن كلام تروتسكي على أهمية الأكل في الثقافة لم تتسرب إلى الكثير من شباب وشابات القضية الأجمل من النوم ، الأجمل من الحلم . لن ترقص ، لن تمثل ، لن تقرأ، لن تعيش إذا لم تأكل أكلك ، لا من طعام الآخر بالصور الفوتوغرافية . الصراع على الطعام صراع ضد التزواج والتمازج ، ضد الإنحلال ، ضد الذوبان في سواد مسيطر على سماء الإشتباك الفلسطيني / الصهيوني. اذا ضاع طرف، جزء ، بدأ الضياع الكبير .

لا يمتلك الفلسطينيون ترف أن يضيعوا في الأحوال الفردية ولافي الثنائيات ولا في حياتهم الجمعية . لا حياتهم الجماعية . ثمة بون واسع بين الإثنين . الإضاءة الضعيفة على الموضوع هذا ، مؤذية ، تأخذ في اذنابها الأخريات في مختبرات الفنون بالحياة ومختبرات الحياة بالفنون . الطعام ليس موضة أو ستايلش. الطعام ، بناء المنزل فوق منزل الأهل . طعام ولد فيك ، طعام ولدت منه، يعبر عن مراحل نفسية وسيكولوجية مر بها شعب مهدد بأن تمحى حضارته بالتزوير والمعاشرة . وبالحصار بين الذاكرة الملوثة بالاختلاقات الإسرائيلية وفجيعة الاستفراد .

تسرح السفرة كشيفرة الى جانب الفسح الأخرى . “النورس الثقافي” ليس تخلقاً. إنه عرس العشايا ، مستوى عال من الحساسية، على سرير الشبع من ما يتعتع الفنانين والمثقفين من أجناس . هكذا أعده ظافر الخطيب. هكذا أعد جدرانه وبلاطه وفضاءه . فكرة أولاً. فكرة صغرى لتكبر ، على نقاش دار على الشيم وعلى الأصابع المشدودة على اهداء الناس جسداً جديداً . شيء كزينة الميلاد ، ارتفعت قامته الحلوة بالنصف الثاني من العام ٢٠١٢. لا على اهداف الاستمرار البدائي ، إنما على طغيان الرغبة لا الخوف ، من اتخاذ الرأي شكلاً جديداً في الثقافة الفلسطينية في لبنان وفاعلية المثقف الفلسطيني أو غيابها . سؤال إشكالي مضن ، يجدد الفزع من الاضمحلال والاندثار في الانصهار .تذكر حروب الوعي يتسمك هنا . الوعي الأمثل لتعطيل الموت . وهذه قضية تتضاعف الحاجة اليها لدى الفلسطيني في الشتات .هكذا ، عاد من ارادوا أن يجدوا المتسع في المحسوسات (كما في المضامين والأدوات) إلى قراءة غياب المعيار ، المعايير ، لدى المثقف الفلسطيني . وغياب الإنتاج الثقافي أو ضعفه إذا وجد بالكم والنوع . حوارات وحوارات وحوارات ، بعيداً من السياقات المكتوبة وشراشف الطاولات المفلوشة ، أفضت إلى أن تلتقي الأفكار على مصوغ ” الصالون الأدبي” . صالون بجملة طيبة لا بجملة حادة . الحدة تخيف . ثم أن طغيان الخوف يفترض تجمد الأشياء . الحدة، مادة جامدة تجمد . صالون يستأهل صفة الوقت وسرد المخيلات بعيداً من النهايات المأساوية الجاهزة . زكزكت فكرة تسليح الفلسطيني بالثقافة المعيارية ثلاثين شخصاً دعاهم قياديو “ناشط” ، كلهم متورطون بامتلاك فك ابداعي أو إرادة العصيان في الشعر والرواية والمسرح والصحافة والتنشيط الثقافي ، لكي يقفوا ( بقوة ) فوق رقعة الشطرنج المعمولة من الزجاج الأبيض ( على المتن ) لزوم أن يرى الجمع ما تحت الطاولة وما فوق الطاولة في آن . لا ندل ، لأن الطبق واحد . طبق مؤلف من حفظ قوى الدفع و الحماس للفكرة وأخذها إلى أن تضحي طقساً أو عادة من أجل الحفاظ على الاستمرارية بتجنب الألغام المؤثرة أو المتفجرة بروحية الفكرة ومسارها . هكذا انفق الجمع اتفاقه “على عدم الخوض في النقاط المثيرة للطاقات السلبية ، كالنقاش السياسي ” كما جاء في الكلام المشبع بالشوك والشياكة بين الأصدقاء المتحلقين على فكرتهم الملساء ، الشهية .سيما وأن المجوعة المؤسسة ينتمي افرادها إلى تيارات سياسية متنوعة . أو أنهم مستقلون لا يريدون الخوض في ما يدفع إلى الارتعاش ، مادام الكلام يدور على الثقافة لا على السياسة ، كستناء الفقراء .

اذن، جرى القفز فوق التناقضات ، لتسرح الأيدي ( بالتضامن والتكافل ) بشعر الفكرة . لن تمتلئ شاشة المكان بالقتلى ولا بالجرحى . لا شيء سوى أن تبدأ الشبكة المنتظرة بسهرة اسبوعية ، ثقافية ، على شاطئ البحر . ثم ، لم تلبث ” النورس الثقافي” أن استمرت وتطورت على قوانين حفظ المادة والطاقة بعيداً من انظمة العزل أو الاعتصام . لأن كل معزول فان ، لا يستحدث سوى العدم . هكذا ، تحولت النورس من صورة إلى صورة أخرى ، باندفاع واندغام الطاقة والمادة والكائنات وبشر النذر ، ليشعر الكل بالكائن الأول حياً بينهم ، حولهم ، فيهم . التقطوا أنفاسه بدموع الفرح والابتسامات . ذات فجر مغمض العينين ، ولد النورس الثقافي من رحم الأحداث الواحدة . هنا ، ادرك الجميع أن للحياة روح واحدة، وان تعددت اشكالها . كتلة ضخمة من طاقة ومادة تتراقص هنا وهناك لتقدم تعريفاً آخر للفلسطيني وهو في مقامه الآخر . قيام ، قيامة تبقى وتفرض تعريفاتها البليغة . لاحاجة إلى الغوص في تعريفات ومفاهيم الحضارة والجماعات ونظريات التقاء الشرق بالغرب وغيرها.لأن لا شيء في سلم الأولويات سوى آثار الوعي على الرأي العام وبصمات الفكر وحضور الجماعات واختلاف قربها أو بعدها عن الطبيعة الفلسطينية ، بدون أن تعطل الفكرة هذه خلود العلاقة بين اللبنانيين والفلسطينيين .هكذا ، راحت فكرة الاستمرار تتضاعف لتكرس الجماعة وعيها الأمثل كما ترى ، كما تراه . الغاية دوماً: تعطيل الموت .مفهوم متشعب . لأنه حتى في الموت هناك اشياء تموت وتحيا ، تزول وتتحول . اذن ، طارت التجربة الجديدة مع تراكم الوعي لتهيئ ظروف جديدة ، أضحت واضحة المعالم بعد أن بدأت في لحظاتها الأولى غائمة وغير واضحة المعالم . انها الآن محفوظة في نقلاتها على هيئتها الراهنة ، حيث تقع مهماتها / الوسيلة على عاتق المجموعات ، كل بطريقة واحدة ، لا كل بطريقة يراها مناسبة. سير على التراكم، تراكم كما لو أنه بأنامل الجدات وهن يحكن كنزات الصوف بصبرهن العظيم.

لا قوانين منتهكة ، لأنها عامة، عمومية . ثم أن دوائر الجماعة الصغرى خيمت في دائرة كبرى موحدة ، لا يركض افرادها كالشياطين وراء الخطوط الحمر ، لأنهم الأدرى بها . الإستهلاك بالمقدم . اذن، لا لأجيج نار الاستهلاك ، خلال البحث في الأماسي عن ما هو مرموق لتقديمه الى الجمهور ، بدون عد وبدون تمييز . لأن من اهداف “النورس الثقافي” عدم خلخلة التشبيك القائم بين الجمهور اللبناني والفلسطيني بعد أن أِحدث بمزيد من الإنتماء لفلسطين. وبمزيد من المشاعر الطيبة للبنان . جمل جميلة وجذابة ، جمل تفرد الصباح على جسد المساء.كما تفرد المساء على جسد الصباح . خطوة خطوة في الحدث الجلل. الظلال بأهمية الشكل المظلول. يخلع الجميع أقنعتهم على العتبات ويدخلون كما يدخل السائرون في احد الشوارع الثقافية في بيروت أو تونس أو بغداد أو دمشق أو الدمام . يبقى الحلم : فلسطين . ولأنها لا تزال حلماً، ينصح المؤسسون أنفسهم بالتركيز الدائم على عدم اسكات المنبه على الساعة الفلسطينية. وهم وجدوا ملجأهم بالأنشطة والاحتفالات الفلسطينية الدالفة على مهل إلى دفء الملاصقة من صلتها الوثقى بأبواب الأزمنة الواسعة . لا اليومي ، السريع ، الرمادي، لأنه يغمر الجمهور بنسخ من الكوابيس المكروهة . حفلات رقص فلسطيني ، ندوات آخرها في بلدية صيدا عن كتاب صادر حديثاً حول العقل الفلسطيني ، لقاءات ، اجتماعات ، احياءات ، ورشات لا تنزع عنها رداء البحر الأبيض المتوسط ، حيث اذا غادر البحر بيروت أمسى في فلسطين . واذا غادر البحر فلسطين أصبح في بيروت . لا مشاهد رومانسية ، اذ يطغى الأليف المغيب على الأجواء . ذلك أن فلسطين في “ناشط” و”النورس الثقافي” و”زوادتنا” نهار لا وظيفة ، ليل لا وظيفة .لاتتقلب على البلاط وهي تسامر الجمهور بتعب السنين ، بدون ادعاء وبدون ضرب وبدون تكسير . اذا سُمِعت حضنت واذا سمت صدقت واذا ابكت دفعت.

السهرة الثقافية ، سهرة كل سبت ، تقسم إلى قسمين ، هدفها الأول والأساسي شعور الحاضر بالإنتماء الى نفسه . لأن الإنتماء الى النفس انتماء الى الحرية ، الى بلاد لم تأكل الا من اذى الإحتلال ومطارداته. السهرة قسمان اذن . قسم أول ، يجري فيه طرح موضوع ثقافي على النقاش . نقاش ، لا سمر ولا مسامرة . وحين ينتهي النقاش في صغر المساحة الجامعة وضيقها ، يضحي العالم أوسع من خلال الموضوع المطروح على السؤال . استثمار قضية أو استثمار موضوع ساخن ، كصدور كتاب مثلاً. نقاش العنف ، مظاهر العنف المجانية ، الفواجع ، العمارة ، الفرق بين المدينة والمستوطنة أو مرحلة ما قبل المدينة . نقاشات في كل القطاعات الثقافية . او ما يؤدي الى لا موالاة موضوع . لأن الموالاة توتر لا تريح . واذ توتر لا تدفع إلى الغليان المنشود .

لا شيء ممنوع ، بين مؤيد ومعارض .لا تنتهي العمليات الا بفتح الطريق على الطريق . لا راكب مذعور ولا راكب يقفز إلى المشاركة على الروتين . هذا جزء السهرة الأول . جزء محشود بالإثارة والدلالات والدالات . معاينة معركة ، ثم معركة لا يتوانى فيها المشاركون عن أن يتواطأوا على اندلاع حرب خرافية . بالجزء الثاني : استعراض الإصدارات الأدبية والتدقيق ببعض انتاج المبدعين الشبان والشابات ، أمام جمهور يهمه التواصل لا احراق من يتقدم ولا احراق المبنى . ثم أن “النورس الثقافي” لم ينكس رأسه امام ما أنجزه ليذوب فيه ، اذ راح القيمون ينظمون مهرجاناً ثقافياً سنوياً على غرار المهرجانات المنظمة في المدن والبلدات اللبنانية في فصل الصيف . وقع المهرجان الأول بالعام ٢٠١٧ في يوم واحد ، في حين وقع مهرجان العام ٢٠١٨ في ثلاثة أيام . تظاهرة فعلية تحتوي امسيات شعرية وندوات ثقافية وامسيات توقيع كتب واحتفالات فنية بمشاركة فرق فنية فلسطينية موسيقية وفرق فلكلور ، معطوفة على مشاركات فرق لبنانية من مختلف المناطق . طراز مفتوح من الجانبين ، باشراف من حددوا اهدافهم وجددوها على مدى الأيام والشهور والسنوات . تلويح بفكرة ، ثم تنفيذها . توقفت المهرجانات هذه في جائحة كورونا ، حرصاً ورفقاً بحيوات الناس المهددة من فايروس ، لا يزال يخوض حربه المفتوحة منذ ثلاث سنوات . ثم أن الأمر تطور الى دينامية ثقافية حولت الناس عن منابر المساندة إلى منابر التورط بالمشاركة في ميادين التواصل . هكذا ، اكد رجال النورس وسيداته أن لا المحن وحدها من يحكم الأيام . ثمة أمل ، ثمة تفاعل ، مكتسبات ، تحققات ، تطور وتوسع . كل ذلك بشعار وحيد ، يختصر المد في حركة الهيئات في ناشط والنورس الثقافي والمطبخ التراثي / التقليدي: نحو حركة فلسطينية جامعة في لبنان . شعار ، لا يتحسس معناه فقط، اذ يترجمه في حركة درج طويلة ، بقناعة أن لا حركة ثقافية فلسطينية جامعة في لبنان بدون الانفتاح على الحركة الثقافية اللبنانية. هكذا ، بادر “النورس الثقافي” إلى الدعوة بهدوء ووقار الى تنظيم انشطة ثقافية مشتركة مع منتديات وبلديات من صيدا الى برجا ومن الجاهلية إلى النبطية ، وصولاً الى بيروت . وبالانفتاح على الأسماء والمؤسسات ، من رفيق علي احمد وزاهي وهبي الى نعمة بدوي ( نقيب الممثلين ) وفريد بو سعيد ( نقيب الموسيقيين ) بعيداً من الأحزاب والتنظيمات .

بالرغم من الصعوبات الخفية ، ترسخ حضور “النورس الثقافي “، مع الأخذ بالحسبان ادارة الداخل بانفتاح تام . هكذا ، اضحت ناشط والنورس جزءاً من تاريخ صيدا الإحتماعي والثقافي ، ثم جزءاً من قفطان البلد ، لأسباب عديدة أولها جفاف المصالح الشخصية المباشرة ، من خلال نسج شبكة من العلاقات المؤثرة، أوقدت جمار التعبئة المشتركة ، بعيداً من الأيديولوجيا، ومن قلب مفهوم العروبة ، وفي قلب مفهوم الحرية والتحرر .

الاعتراف كامل من أهل المدينة وفاعلياتها ، من خلال العلاقات المركزية بين أعيان الثقافة . العلاقة بين ناشط والنورس وادارة مسرح وسينما اشبيلية ( عدنان الذيباوي) كمثال . ابطال لا يراوغون ولا يناورون أو يضحكون على الذقون في سيرهم إلى أفضل العلاقات . رابط حتمي ، استثنائي يحقق مراده من استيعاب الأوضاع وضبط العلاقات على الفائدة الثقافية / الإجتماعية لأهل المدينة . سيرٌ نحو الغايات والأهداف . ذلك أن ناشط في رحلات فوق المعوقات وتذليل المشكلات . هكذا ، غابت المؤسسة هذه عن الدوخان والغثيان والضعف والانكسار ، بصالح امتلاك طرقها الى إنشاء كشافة ناشط .وأن تخوض في تجربة جاءت اكبر من التوقعات على صعيد الزراعة . رفع الخيم الزراعية بثقة تامة ، قدم تجربة تفوق المقدرات وتتعدى المدى المحسوب لقوتها . الزراعة مقال اخر في ناشط ، زراعة ذات مفاعيل مبهرة تذكر بتجربة المسرحي روجيه عساف في الضاحية الجنوبية لبيروت ، إذ خاض الرجل ما وجده صحيحاً وما تربص به : أن الحياة أبعد من المسرح . وأن تأمين الخضار هو المشروع الأصلي بالحرب . انها الحاجات . ناشط حاجة ، النورس الثقافي ، زوادتنا ، الخيم الزراعية . هذه تجربة هيكل ، نص كامل لا صفحات . إنها في لب الموضوع ، ما دام الموضوع هو الحياة . مفاجأة جميلة ، مفاجأة تلفت النظر . شك ، ثم دخول بالعقل. ذلك أن الشك هو المدخل العقلاني للمعرفة .

العدد 120 / ايلول 2021